يواصل فيروس "كورونا" غزوه وتوسّعه في استهداف العالم ومدنيته وتهديد ما تحقّق من مكاسب. وقد توقّفت الحياة في جلّ عواصم العالم الكبرى وصارت تعيش الحجر العام". وتعطّل قسم اقتصاديات العالم الكبرى ولم تعرف مطارات الدنيا جثوا لأساطيله من الطائرات في المطارات مثلما تعرفه اليوم. وقد عرف العالم قبل كورونا بداية ثورة سياسيّة حوصرت في المجال العربي ولكنّ أثرها انتقل إلى العالم وطرح سؤال الدولة الحديثة وأزمتها.
وإذا كان سؤال ثورة الألفيّة الثالثة عن هويّة الانتظام السياسي العادل والعيش الكريم، فإنّ السؤال الذي يطرحه فيروس كورونا: من يحمي أرواح الناس؟ وهو سؤال يتّجه إلى الدولة نفسها وقد يكون سؤالًا نقديًا يخصّ عجزها وتقصيرها، وقد يكون طلبًا للحماية في مواجهة وباء لا يمنح الوقت للسؤال عن "عدلها أو ظلمها".
اقرأ/ي أيضًا: الخيارات التونسية في مواجهة الكورونا..
الوباء والثورة
الأوبئة والثورات دوريّة، وليست هذه الخاصيّة الوحيدة التي تشتركان فيها، إذ هناك خاصيّة أخرى تجمعهما وتهمّنا هذه الأيّام، وهي علاقتهما بالقانون والأخلاق.
تقوم الثورة عندما تحوّل الدولة كلّ الأخلاق إلى قوانين حسب هواها، وهو هوى الفئات والطبقات المسيطرة. فلا قانون محايدًا عن الصراع الاجتماعي باستثناء قانون الطرقات. فالثورة في معنى من معانيها هي انتفاض على القوانين الظالمة، وأحيانًا على القوانين الجيّدة حين يُساء تطبيقُها تحت دواعي المصلحة والأنانيّة. ولو كانت مراعاة القوانين واجبة في مطلق الأحوال لما قامت في التاريخ ثورة ولما عرفنا في تجاربنا السياسية الاجتماعيّة شيئا اسمه ثورة. ولو احترمت شبيبة الهامش المفقّر القانون في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 لما انتفضت ولما هرب بن علي ولما كان الحديث عن ثورة وعن ربيع ولا عرف العالم الهزّات التي عرف.
الأوبئة والثورات دوريّة، وليست هذه الخاصيّة الوحيدة التي تشتركان فيها، إذ هناك خاصيّة أخرى تجمعهما وتهمّنا هذه الأيّام، وهي علاقتهما بالقانون والأخلاق
وأمّا عن علاقة الوباء بالأخلاق فإنّ الأمر ينطرح عندما يحصل العجز عن مقاومته بالوسائل المتاحة. وهذا العجز يلحق الدولة باعتبارها المسؤول الأول عن مصائر الناس الذين فوّضوا لها ـفي غفلة تاريخية غير مفهومةـ كلّ شؤونهم. وصار هذا لتفويض حقًا لها وواجبًا عليهم احترامه. وتمثّل حالات التهديد القصوى استعادة للحظة التفويض الأولى لأنّ الناس عندما يسلّمون قيادهم للدولة يعني أنّهم تخلّوا عن أهمّ أسلحتهم في الدفاع الذاتي عن أنفسهم في الصحّة والأمن والتعليم والثقافة.
ومن هذه الزاوية يعتبر علماء الانثروبولوجيا أنّ الشعوب المسّماة بدائيّة كانت على قدر كبير من الذكاء والحكمة في رفضها التنازل عن سيادتها وتسليم قيادها وسلاحها لقوّة منفصلة عنها تحكمها باسمها تسمّى الدولة، وغم ما طالها من تهديدات وجوديّة ومنها تهديد الأوبئة ودوريّتها المرعبة. وبهذا المعنى هي مجتمعات مضادّة للدولة لا عجزًا عن بلوغ مرحلة من "الوعي السياسي" وإنّما هو رفض واع لانقسام سياسي يقلب العلاقة السياسية في الجماعة من الأفقيّة إلى العموديّة ومن المشاركة إلى التبعيّة. وهي تبعيّة تشمل الغذاء والدواء والأمن. تبعيّة في عناصر أساسيّة تسمح أخلاق الدولة بالمضاربة فيها. ويمثّل لقاح ضدّ فيروس كورونا مجالًا لمنافسات لا تقلّ عن المنافسات حول الطاقة في العالم.
وفي كلّ الأحوال، نحن في معادلة جديدة: كأنّه لا غنى عن الدولة في مواجهة التهديدات الوجوديّة حتّى وهي تعلن عجزها، ولكنّ لا غنى عن التعويل على النفس والارتداد إلى "العائلة" و"البيت" ملجأ وحيدًا في حالات "الحجر الصحي الذاتي" و"الحجر الصحي العام".
الوباء والدولة
وباء "كورونا" الذي يغزو العالم بكثير من التوحّش والتشفّي ويهدّد كلّ ما تمّت مراكمته من "مكاسب" يضعنا أمام لحظة جديدة في العلاقة بالدولة ومستقبلها. فكانت الأوبئة التي عرفتها الإنسانيّة في الألف سنة الأخيرة سببًا في تغييرات جوهريّة في الأنظمة السياسيّة والمرجعيّات الثقافيّة التي تؤسسها حتّى غدت الأوبئة أشبه بطقوس عبور ضروريّة من مرحلة إلى أخرى. فكان للأوبئة التي عرفتها أوروبا في القرون الخمسة الأخيرة دور أساسي في ظهور الدولة الحديثة على مراحل.
وتمثّل الأوبئة حالات تهديد قصوى تهزّ بقوّة السلطة التي كانت تضمن حماية المجتمع وسلامته. فكان الوباء الكبير الذي عرفته أوروبا في القرن الرابع عشر سببًا في انحصار سلطة رجل الدين وظهور الشرطي حاميًا جديدًا وضامنًا لسلامة الأرواح.
ماهي القوّة المرشّحة لتحمي أرواح الناس ونمط حياتهم من وباء كورونا الزاحف؟ وهل يبقى للدولة من مبرّر وجود إذا لم تكن قادرة على حماية أرواح رعاياها؟
في حين كان الوباء في نهاية القرن الثامن عشر سببًا في ظهور الطبيب الشخصيّة العلميّة والمعنويّة القادرة على حماية الناس من الوباء وروحه الإباديّة، مثلما يشير جاك أتالي السياسي وعالم الاجتماع الفرنسي والمستشار السابق للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران. وقد ألمح في نصّ له عن وباء كورونا إلى مراحل عرفتها الإنسانيّة في تاريخ علاقتها بالأوبئة ودورها في التحولات السياسيّة الكبرى. وهي في تقديره ثلاث مراحل متّصلة ببنية السلطة وطبيعتها، إذ عرفت الإنسانيّة في القرون الأخيرة انتقالًا من سلطة أساسها "الإيمان" إلى سلطة أساسها "احترام القوّة" وانتهاءً عند سلطة أساسها "احترام القانون". وعلى أهميّة هذا الرصد، فإنّه لا يخرج عن تاريخ أوروبا الخاصّ وهو عند أغلب مفكّري الغرب يمثّل تاريخ الإنسانيّة جمعاء.
اقرأ/ي أيضًا: هل يمثّل وباء كورونا "طقس عبور"؟
ومن ناحية أخرى، فإنّه رغم الفارق السياسي بين السلطة القائمة على "احترام القوّة" ممثّلةً في الأنظمة الدكتاتوريّة التي قامت في أوروبا في علاقة بمفهوم الدولة/الأمّة والسلطة القائمة على "احترام القانون"، فإنّه من الناحية الأخلاقيّة لا يوجد فارق جوهريّ بين السلطتين. وفي هذا أدب سياسي جمّ في الغرب نفسه في نقد الدولة واعتبار أنّ الصفة التي تلحق بها لا تغيّر من جوهرها المتمثّل في احتكار العنف باسم القانون الذي هو بدوره انعكاس لميزان قوى طبقي وصراع مصالح.
والسؤال الذي لم يُجب عنه جاك أتالي ومطلوب من العالم أن يجيب عنه: ماهي القوّة المرشّحة لتحمي أرواح الناس ونمط حياتهم من وباء كورونا الزاحف؟ وهل يبقى للدولة من مبرّر وجود إذا لم تكن قادرة على حماية أرواح رعاياها؟ وما علاقة القوّة المنقذة بها وبثقافتها (ثقافة الدولة)؟
السلطة الجديدة
حجّة الدولة في تبرير عنفها وتأسيس مشروعيّتهما في كفّ الناس عن التظالم وحمايتهم مما يتهدّدهم من مخاطر خارجيّة سواء كانت عدوانًا من جماعات أخرى أو آفات طبيعيّة وزلازل وأوبئة. فكيف تجد الدولة مبرر بقائها وعلام تؤسس مشروعيّتها عندما يصبح الوباء عالميًا وتعجز عن صدّه؟
الجواب عن هذا السؤال نجده في عجز الدولة بمفهومها الحديث وبحدودها اليوم على مواجهة وباء كورونا. وسواء تحدّثنا عن الصين البلد القارّة والدولة الإمبراطوريّة، ومنها انطلق الوباء ولا تكفّ عن التبشير بالسيطرة عليه، أو الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي تشهد توقّف طيرانها وبورصاتها وقسم من اقتصادها وصناعتها، أو أوروبا التي تفكّكت عراها أمام زحف كورونا، فإنّ النتيجة واحدة وهي أنّ هذه الدول العظمى وما تملكه من قوّة تقنية واقتصاد وسيطرة فشلت في مواجهة الوباء وهو ما يعني غياب "من يحمي أرواح الناس" ولم تظهر معالمه بعد لأنّ ملامحه الأوليّة ستُبيّنُ الأساسَ الذي ستُبنى عليه السلطة في "عالم ما بعد الوباء".
في هذا السياق، تُطرح فكرة " الحكومة العالميّة" كما طرحها جاك أتالي في التسعينيات، و"الدولة العالميّة" التي تكفّ التظالم بين دول العالم، كما دعا إليها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل. وهي الفكرة التي انبثقت عنها منظّمة الأمم المتّحدة، غير أنّ تمثيلها لميزان القوى الناجم عن نتائج الحرب العالميّة الثانية أجهض دورها الإنساني. واكتفت منظّمة الصحّة العالميّة بمجرّد إحصاء عدد الوفيات ونسبة انتشار الوباء.
يُشار إلى أنّ من أسباب انتشار الوباء وسرعته الثورة التواصليّة، حتى أنّ تشبيه العالم بـ"قرية صغيرة" الذي كان تعبيرًا عن مفخرة الإنسانيّة وتعولمها، صار مع الزمن الوبائي الجديد "خطيئتها". والمفارقة الكبرى التي نعيشها اليوم هي أنّ "الافتراضي" بقوّته وشموليته لم يُغْن الإنسانيّة عن التواصل "الواقعي". وقد بدا هذا واضحًا في ما يعرفه العالم من "حجر صحّي". وكيف ارتبكت الحياة في أدقّ تفاصيلها، فالافتراضي لم يمسّ جوهر "العلاقة الواقعيّة" بما هي تحيّة ومصافحة ومجالسة ومشاربة ومصاحبة، فتأثير الافتراضي مازال هامشيًا على أهميّته، وإلاّ لكانت مواجهة كزرونا بالتوقّي منها أمرًا آليًا ولما توقّفت الحياة وصار الاقتصاد العامي مهدّدًا بالانهيار في كلّ لحظة.
نحن بإزاء حرب جديدة تصبح فيها كلّ الحروب السابقة بما فيها حرب النجوم حربًا تقليديّة
مواجهة وباء كورونا يطرح تحديًا جديدًا، ويرشّح قوى جديدة للقيادة بأساس قيمي وسياسي جديد. وعلى هذا ملامح عديدة سواء في المستوى الوطني أو العالمي. فعالميًا لم يكن الأقوى بالمعنى التقني والعسكري والاقتصادي هو الأقدر على مواجهة الوباء. فقد تنجح تونس حيث تفشل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، والسبب دخول معطيات جديدة منها عمر الشعوب ومناعتها المرتبطة بنظامها الغذائي ومناخها الجغرافي إلخ، وأيضًا حسن التوقّي ونوع خطط المواجهة، فنحن بإزاء حرب جديدة تصبح فيها كلّ الحروب السابقة بما فيها حرب النجوم حربًا تقليديّة. وتتحدّد جدّة هذه الحرب بنجاعتها في التصدّي للوباء والانتصار عليه.
ووطنيًا قد تبرز فئات جديدة في علاقة بمواجهة الوباء وفي مقدّمتهم القطاع الطبّي ممثّلًا في وزارة الصحة، وقد أبدى كثير من الناس بطريقة عفويّة ارتياحًا واطمئنانًا إلى الوزارة والوزير عبد اللطيف المكّي بعيدًا عن السجالات الحزبيّة السابقة التي لم يعد لها جمهور، ودعوة إلى أن تقود وزارة الصحّة المعركة وأن تكون مدعومة من الجميع وهذا ما كان منتظرًا من رئيس الجمهوريّة وورئيس الحكومة. فالمسألة إجرائيّة إنقاذيّة في مواجهة موت داهم وليست سياسيّة قانونيّة فيها متسع من والوقت للجدل والتأنق القانوني. وفي هذا المعنى، استهجنت قطاعات واسعة ما بدا من "منافسة بائسة" على الصلاحيات بين رؤوس الدولة الثلاث، وهي رؤوس لم تُبد قدرة ولا خبرة ولا روحًا فدائيّة في مواجهة الوباء واكتفت بتسجيل حضورها، وتمثّل كلمة رئيس الحكومة الأخيرة منها انتباهًا متأخّرًا.
في وطيس المواجهة يصبح الحديث عن "دستوريّة الإجراء" ضربًا من العته السياسي والانفصام الوجداني. وهذا الجدل انطلق في أكثر من بلد. ففي فرنسا، يتحدّث الأطبّاء عن "انقلاب سياسي طبّيّ" (Coup d’Etat medical)، فقد أصدر أساتذة طب كبار في مرسيليا يحتدون فيه على منهجيّة القيادة السياسيّة في مواجهة الوباء من جهة التحليل والعلاج وتصنيف المصابين. وانتهى البيان بقولهم: "سنأخذ الأمور بأيدينا".
اقرأ/ي أيضًا:
يوميات التونسي في زمن الكورونا.. الدفء العائلي في مواجهة كآبة الحجر الصحي