17-مارس-2020

الخوف هو أكثر المشاعر قسمة بين الناس (Getty)

 

 لم يكن "كورونا" في أوّل أمره بالنسبة إلى العالم أكثر من اسم غامض في خبر عادي عن مرض غير واضح المعالم تتداوله وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي. ولكن بانتشاره السريع في بلد يمثّل تعداد سكّانه ربع العالم دقّ ناقوس الخطر، وهو اليوم وباء يجوب كوكب الأرض غير عابئ بما يُطرح من أسئلة في الطب والعلم والمعرفة والسياسة والمصير.

اقرأ/ي أيضًا: حينما يكشف فيروس "كورونا" هنات المنظومة التربوية في تونس

هشاشة ما أنجز

عرف العالم أوبئة في المنتصف الثاني من القرن العشرين ومنها الكوليرا والإيدز وأنفلونزا الخنازير وغيرها، ولكنّه لم يعرف وباءً بهذا الاتساع وبسرعة الانتشار هذه وبحجم التهديد الذي يمثّله فيروس "كورونا" على الإنسانيّة وعلى الاقتصاد العالمي في مراكزه الكبرى.

 عاد الجدل قويًا حول قدرة الدولة على التحكّم بالمجال العام في حالات الطوارئ والحجر الصحّي الذاتي والإجباري حتّى بدت "الدولة الكليّانيّة" وكأنّها الأقدر على محاصرة الوباء وحماية "رعاياها"

من خلال مداخلات عديد رؤساء الدول والحكومات في العالم، ولا سيّما الدول التي تقود الاقتصاد العالمي، يمكن تبيّن مسائل في غاية الأهميّة قد نغفل عنها تحت تأثير العادة وأهمّها:

ـ واقع علاقات القوّة والهيمنة التي تحكم العالم. وهي علاقات لم تلطّف منها المواثيق الدوليّة في حقوق الإنسان والعدل الاجتماعي والأخوّة الإنسانيّة وحماية البيئة. ولا يخفى في هذا السياق تنافس الصين والولايات المتّحدة على الاقتصاد العالمي وموارده، وقد كان تبادلٌ للتهم بين البلدين حول المسؤوليّة عن وباء "كورونا" وانتشاره.  

ـ تجربة الدولة واختلافها من بلد آخر. ففي كلمة ماكرون الأولى إلى الشعب الفرنسي دعوة إلى مراجعة الدولة مفهومًا ووظيفة، فماكرون النيوليبرالي الذي كان نجاحه الساحق بسبب مواجهته الفكر الليبرالي التقليدي قبل مواجهته أفكار "الدولة الاجتماعيّة" التي ارتبطت بها الدولة الفرنسية رغم تداول اليمين واليسار عليها، يجد نفسه، في مواجهة وباء كورونا وما يتطلّبه من حجر ذاتي، في حاجة إلى الدور الاجتماعي الفاعل للدولة. فهي الجهة الوحيدة القادرة على تغطية جرايات "البطلة الفنيّة" لكلّ القطاعات بما في ذلك القكاع الخاص.

أما ترامب، فإنّ طبيعة الدولة في الولايات المتّحدة التي لا تهتمّ بأي تغطية اجتماعيّة ولا يمكن لمن لا يملك مالاً أن يتداوى، فإنّه يضطرّ لمحاصرة الوباء ومعالجة المصابين به إلى أن يجنّد العيادات الخاصّة ويدفع لها المال المطلوب لكي تنهض بهذه الوظيفة.

وفي كلّ الأحوال، أعاد الوباء الجدل حول الدولة ووظيفتها. فبالإضافة إلى الدور الاجتماعي للدولة الذي انحسر تحت تأثير السياق العولمي الجارف، عاد الجدل قويًا حول قدرة الدولة على التحكّم بالمجال العام في حالات الطوارئ والحجر الصحّي الذاتي والإجباري حتّى بدت "الدولة الكليّانيّة" وكأنّها الأقدر على محاصرة الوباء وحماية "رعاياها".

الوباء والخوف المعولم

كان الناس يخافون من الخطر النووي ومن خطر الحرب الجرثوميّة وهي مخاطر حقيقيّة ومدمّرة، ولكنّ حضورها عابر ولا يمثّل كابوسًا ضاغطًا وتهديدًا مباشرًا مثل وباء كورونا، فالعالم اليوم يتابع، وهو يلتقط أنفاسه، مساره وضحاياه، ولا أخبار في شبكات التواصل الاجتماعي إلا أخباره.

ومن معالم هشاشة ما أنجزته العولمة تحويل العالم إلى "قرية صغيرة" ولكنّها غير قادرة على حمايتها بل صارت عرضة هذه القرية إلى التدمير أكثر من أي وقت مضى أمام ما عرفه العالم من "نزعات قوميّة شعبويّة فجّة" (ترامب، بوتين)، وليست الصين التي تبني ما تسميّة "اشتراكيّة على الطريقة الصينيّة" بمعزل عنها. ومثّلت هذه النزعة عمليّة تشويه لعولمة هي بدورها سليلة "عالميّة مشوّهة". ويبدو أنّ النزعات الجديدة التي ظهرت في هامش الحضارة (أوروبا والمتوسّط والوطن العربي) ولدت مشوّهة لغياب الحامل الفكري والروح الإنساني. فهي عندما تعود إلى المهد لا تعود إلا في صورة نزعات أصوليّة عدوانيّة تدميريّة تتوهّم تمثيل الأصل الإنساني ومبلغ حضارته.

الخوف هو أكثر المشاعر قسمة بين الناس في العالم اليوم وكأنّه المحرّك الخفيّ للتاريخ وأحداثه

الخوف هو أكثر المشاعر قسمة بين الناس في العالم اليوم وكأنّه المحرّك الخفيّ للتاريخ وأحداثه. فللرغبات المختلفة دورها ولا شكّ، ولكن يبدو أنّ الخوف يمثّل حقيقة تسبق الرغبة. فبين جلب المصلحة ودرء المفسدة، يلعب الخوف دورًا حاسمًا في تحديد الأولويّة تحت ضغط غريوة البقاء. ولعلّه لهذا السبب يشير القرآن في تواضع رسالةٍ خاتمةٍ إلى أصل مهمّ يجمع فيه بين الدافع والوظيفة، فالإطعام من الجوع والتأمين من الخوف هو "الأدنى السياسي" الذي بدونه لا يكون اجتماعٌ بشريٌّ.

اقرأ/ي أيضًا: فوبيا الإصابة بالمرض في زمن "الكورونا"

كأنّ الوباء يكشف عن عجز العولمة ويلقّنها الدرس الضروري، فيذكّرها بقصورها عن "التأمين من الخوف" بعد أن اختارت قصورها في "الإطعام من جوع" بسبب ما أسسها من قيم الربح والمنفعة والقوّة والجشع وهي كلّها قيم ربويّة. على معنى أنّ الربا هنا هو المال الذي لا يحصل عليه بلا جهد. وهي علاقة الاستغلال المستدامة بديلًا عن علاقة التعاون على إعمار الأرض وبناء العدل والمدنيّة والحضارة. فالعولمة عند جون زيغلر في "سادة العالم الجدد" هي في معنى من معانيها "الرّبويّة" التي صارت علاقة استغلال ونهب تغطّي كلّ النشاط الإنساني وتتحكّم برأس المال العالمي. وهو ما مكّن أقليّة قليلة من أن تضع بين يديها جلّ ثروة العالم.

لا خلاف في أنّ هناك خوفًا يوحّد البشريّة في مواجهة وباء كورونا، ولكنّ هذا "الخوف العالمي" مؤقّت وزائل سرعان ما يترك مكانه لـ"خوف معولم" يستثمر فيه ويحقّق به ما لم يتحقّق من أهداف سابقة وقد يكون منطلقًا لتقيم جديد لمغانم العالم وثرواته. يقال إنّ الوباء لا يفرّق بين الغنيّ والفقير، والمؤمن والكافر والأبيض والأسود. هذا صحيح من حيث "الاستهداف بالقوّة"، أمّا من جهة "الاستهداف بالفعل" فإنّ المستوى المعيشي والمنزلة الاجتماعية والانتماء القارّي لها دور في مساحة الاستهداف ودرجته، فالفئات الفقيرة المزدحمة في أحياء ضواحي العاصمة الفقيرة أو في الدواخل أكثر استهدافًا بالوباء من الفئات المرفّهة في الأحياء الراقية.

طقس العبور

أوّل ما يتبادر إلى الذهن والوباء يتوسّع في قارات الأرض الخمس فكرة "طقس العبور". فهل يكون الوباء من الطقوس التي تعبر بالإنسانيّة من حال إلى حال؟

فكرة "طقس العبور" سليلة المجتمعات المسمّاة بدائيّة وهي مجتمعات المشافهة التي لا تعرف الكتابة. ويكون طقس العبور اختبارًا لا يخلو من قسوة للمرور من طور الطفولة إلى طور الشباب والرجولة، ويترك آثاره على الجسد بواسطة الوشم، ولا يخرج الختان الذي تسرّب إلى تقاليد الديانات التوحيدية الساميّة عن هذا الطقس.

والوشم شبيه من جهة الوظيفة بالدستور في المجتمعات الكتابيّة، مجتمعات الدولة. وهي دساتير كثيرًا ما لا تحترم ويعمد إلى التحايل عليها أو تأويلها بما يخدم مصلحة القوي الطبقيّة. في حين يحمل البدائي دستوره على جسده بعد أن حمله في قلبه قيمة حيّة هي عنوان وجوده ووجود جماعته.

هل يكون الوباء من الطقوس التي تعبر بالإنسانيّة من حال إلى حال؟

وطقس العبور كما يكون في الأفراد يكون في الشعوب والأمم، فتعرف "طقوس عبور" من حال إلى حال، وتكون الحروب والزلازل والفيضانات والمجاعات والهجرات الكبرى والأوبئة من "طقوس العبور" التي ساعدت على تحوّلات كبرى في التاريخ الإنساني.

كان الطوفان "طقس عبور" الإنسانيّة الكبير من شعوب ما قبل الطوفان إلى شعوب ما بعده، وكان عبورًا مهمًا من "الإحيائيّة" إلى "القياميّة" تمهيدًا لـ"لإبراهيميّة". وعرفت اليمن "طقس عبورها" السياسي بانهيار سدّ مأرب، وهذا سيفسّر أنّ حروب الردّة كانت من هناك.

وكانت الحروب سببًا في ما عرفته الدولة الإمبراطوريّة من تفكك. وكان للأوبئة دور فاعل في ما عرفه الإقطاع في أوروبا من تحوّلات باتجاه بظهور الدولة/الأمّة، ولعبت الحروب الدينيّة دورًا مساعدًا على العبور إلى الرأسماليّة.  

وفي القرن العشرين، مثّلت الحربان الإمبرياليّتان في المنتصف الأوّل من القرن العسشرين طقسيْن قاسييْن مازلنا نعيش آثارهما إلى اليوم. فالحرب العالميّة الأولى نقلتنا من "إدارة التوحّش" إلى "إدارة الصراع"، وبدت العولمة في جانب استعادة لهذا التوحّش بلغة جديدة. ومثّلت "النزعة القوميّة الشوفينيّة" (ترامب، بوتين) أسوأ تعبيراته.

ومثّلت ثورة الألفيّة الثالثة في المجال العربي لحظة فارقة، وقرئ ما عرفه العالم من أحداث جسيمة تتجه في معظمها إلى سؤال الانتظام السياسي وأزمة الدولة الحديثة على أنّه شروط لانتقال نوعي من "إدارة الصراع" إلى "إدارة التعارف" باتجاه تصور جديد للدولة ولعلاقات الانتظام السياسي. فتكون الثورة "طقس عبور عالم" وظيفته الأساسية الإجابة عن السؤال السياسي الأبدي: كيف للإنسان أن يعيش حرّا وفي جماعة في الآن نفسه.

الوباء "طقس عبور" يبدو أنّه سيزلزل كلّ البناء الاقتصادي في العالم ومقدّمة لبروز قارات اقتصاديّة جديدة، ولذلك قد لا نعرف العالم الذي سيكون بعد الزلزال

في هذه اللحظة يأتي "وباء كورونا" مع كلّ ما أثاره من لغط حول طبيعته وحول علاقته بالحروب الجرثوميّة التي تتهدّد العالم. وفي ظاهر التعاطي مع هذا الوباء بتهديده الوجودي انتباه إلى ما يمكن أن يمثّله من سبب للعبور. ولكن السؤال هو: عبور باتجاه ماذا؟

من المعاني القويّة التي أثارها الوباء علاقة "الإنسانيّة"، وفي الحقيقة علاقة الجزء المهيمن منها والماسك بزمامها، بالطبيعة والمناخ والأرض. وهناك إطلالة على فداحة ما أفسده الإنسان الحديث في البر والبحر نتيجة منوال تفكيره القائم على فكرة "الصراع مع الطبيعة" وضرورة "قهرها" و"إخضاعها" لهوى ابن آدم، عوض أن يعتبر الأرض كلّها بـ"خيرها وشرّها" بل الكون كلّه مسخّر للإنسان، وهذا التسخير معنى من معاني تكريمه.

الوباء "طقس عبور" يبدو أنّه سيزلزل كلّ البناء الاقتصادي في العالم ومقدّمة لبروز قارات اقتصاديّة جديدة، ولذلك قد لا نعرف العالم الذي سيكون بعد الزلزال. وفي كلّ الأحوال، العبور ليس دائمًا نحو الأفضل.   

 

اقرأ/ي أيضًا:

السياحة في مهب رياح "الكورونا"..

هل ينقل "الفريب" فيروس كورونا؟