21-مارس-2020

بتاريخ عيد الاستقلال الرابع والستين أعلن رئيس الجمهوريّة الحجر الصحّي التامّ (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

في زمن الأوبئة، ليس ثمّة من حاجة للمقدّمات، سيتعيّن على الأجيال الحاضرة من التونسيّين أن تواجه محنة من جنس مضى زمن بعيد منذ آخر العهد به. ولكنّنا نواجه المحنة في زمننا هذا بأمل أكبر في الحياة وثقة موروثة في العلم وبوهم السّيطرة على الطّبيعة. ورغم كلّ الهلع الواقع في العالم بأسره، فإنّ المعطيات المتأكّدة إلى حدّ كتابة هذا المقال تنبؤنا بأنّ الوباء قليل الفتك، وأنّ الفئة الأكثر عرضة للخطر هي تلك التي لم يكن لها منذ بضعة عقود سوى أمل ضعيف في الحياة.

ولا يمنعنا اقتناعنا البديهيّ بأنّ "من أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعًا"، ومغزاه قيمة الحياة لكلّ إنسان أيًّا يكن، من الاطمئنان لكون نسبة الفتك وفقًا للأرقام الصينيّة التي شملت عيّنة من 72000 لا تتجاوز 2.3 في المائة1، وأنّها لدى الشّريحة الأسوأ (فوق 80 سنة) لا تتجاوز 15 في المائة. وكلّ ذلك رغم كلّ شيء يبعث على الاطمئنان رغم التطوّر المستمرّ للأرقام.

يخطئ من يعتقد أن معالجة الأزمة يكون بمسايرة موجة الهلع الجماعيّة والاطمئنان لمقولات استباق الوباء بشكل كامل

وإذا كان لا داعي للهلع من الحالتين الإيطاليّة أو الفرنسيّة لفروق مهمّة على مستوى الهرم الديمغرافيّ، فإنّ الحذر واجب على أن يكون واقعيًّا بطريقة تستبطن وتستبق الحلقات الصّعبة. وفي الحالة التونسيّة وغيرها من الحالات المشابهة، قد يتوجّب الإعداد النفسيّ والمادّي لما قد يُعتبر مأساة بمقاييس هذه السّنوات وبمقاييس التقدّم الصحّي الذي حقّقته تونس منذ الاستقلال.

اقرأ/ي أيضًا: هل يمثّل وباء كورونا "طقس عبور"؟

عن الواقعيّة والمصارحة

يخطئ من يعتقد أن معالجة الأزمة يكون بمسايرة موجة الهلع الجماعيّة والاطمئنان لمقولات استباق الوباء بشكل كامل. ليس هذا مجال الخوض في مدى انتشار الوباء تونسيًّا وتقييم التقييم الحكوميّ للمخاطر ولدرجة انتشار الوباء تونسيًّا. بيد أنّه ثمّة أسئلة مشروعة، خاصّة على ضوء تقييم بعض الدّراسات لمخاطر انتقال العدوى للقارة الأفريقية وبعضها يضع منطقة المغرب (الجزائر) مع جنوب أفريقيا في أعلى السلّم2. وفي مواجهة ما يبدو تحدّيًا لا مناص منه، يجب أن يكون الخطاب شديد الصّراحة وألاّ يقلّل من حدّة ما نحن قادمون عليه ولا أن يهوّن منه.

ثمّة احتمال لا يجب التقليل منه: فقدان عدد غير هيّن من الحالات الحرجة في حالة الضّغط

ولقد كانت السلطات الرسميّة التونسيّة، شأنها في ذلك شأن جلّ حكومات العالم، صريحة بخصوص استراتيجيّتها في مواجهة الوباء وفحواها أنّه لا يمكن الحيلولة دون انتشار الوباء وإنّما التخفيف من حدّته والتقليل من عدد الحاملين لفيروس كورونا في لحظة زمنيّة واحدة، بما يمكّن من تفادي الضّغط الشديد على المستشفيات. كان ذلك واضحًا في الخطاب الرسميّ، ولكن ما ينقصه الوضوح هو قدرتنا على استيعاب الضّغط أيًّا تكن حدّته. وإذ تبلغ طاقة الاستيعاب الوطنيّة في الإنعاش حوالي 800 سرير (500 منها في القطاع الخاصّ3)، فإنّ اعتبارات أخرى تتعلّق بالحاجيات اليوميّة للإنعاش وتفاصيل فنّية تتعلّق بمعايير التباعد بين أسرّة الإنعاش نفسها4 قد تحول دون استعمال هذه الطّاقة كلّيًا في حالة الضّغط الشديد وما قد يستتبع ذلك من حالات وفاة.

ثمّة إذًا احتمال لا يجب التقليل منه: فقدان عدد غير هيّن من الحالات الحرجة في حالة الضّغط، أيًّا تكن حدّته. لن نستطيع إنقاذ كلّ الحالات الحرجة، وقد يُجبر الكادر الطبّيّ وشبه الطبّي على "اللا فعل" في حالات عديدة، وهو أمر شائع في الطبّ الاستعجالي يُعرف بـ"المعضلة الأخلاقيّة"5. يجب أن نكون صريحين بالحدّ الأقصى إزاء ذلك لتفادي الإرباك المجتمعيّ في السيناريو الإيطاليّ.

اقرأ/ي أيضًا: شباب يبادر وجمعيات تتجنّد في مواجهة "كورونا"

الحجر الصحّي التامّ حلّ "غير مُستدام"

بتاريخ عيد الاستقلال الرابع والستين، أعلن رئيس الجمهوريّة الحجر الصحّي التامّ. وتُجمع غالبيّة المراقبين على أنّ هذا الإجراء الاستباقيّ سيحول دون تفشّي الوباء إلى الحدّ الذي أدّى في إيطاليا إلى "كارثة صحّية واجتماعيّة". ويلقى الإجراء دعمًا واضحًا من النخب السياسيّة والعلميّة والصحيّة.

لكنّ السؤال هو كم سيستمرّ هذا الحجر؟ أو كم يجب أن يدوم؟

في الخطاب الأول لرئيس الجمهوريّة، بدا أنّ الأفق الزمنيّ هو أسبوعان. ولكن الأمر قد لن يكون كذلك. وإلى حين اكتشاف لقاح أو علاج، فإنّه سيتوجّب فرض هذا الحجر كلّما اقتربت طاقة الاستيعاب من حالة الضّغط الشديد للتقليل من الخسائر البشريّة وفقًا لاستنتاجات الباحثين البريطانيّين6. وهذا المعطى يطرح أكثر من سؤال على "الاستباق التونسيّ": هل يجب أن نستبق بأشواط أم أن نقلّل بالحدّ الأقصى في المسافة الزمنيّة بين الحجر الصحّي وتصاعد الضّغط على الأقسام الاستعجاليّة بما يعطي نفسًا جماعيًّا لمواجهة الوباء؟

إذا كان ثمّة من استباق واجب فهو استباق أزمة ستطول زمنيًّا وإعداد شروطها الاقتصاديّة والنفسيّة أيضًا

ماذا لو وجدنا أنفسنا بعد أسبوعين في الحدّ الأقصى من الضّغط الصحّي؟ كم سيستمرّ الحجر وبأيّ كلفة اقتصاديّة ستنعكس حتمًا على صحّة الأكثر هشاشة: المرأة الحامل والمرضع ومرضى السّرطان وغيرهم.

إذا كان ثمّة من استباق واجب، فهو استباق أزمة ستطول زمنيًّا وإعداد شروطها الاقتصاديّة والنفسيّة أيضًا. لا يدري كاتب هذا المقال إن كانت الأزمة محض صحيّة وبائيّة، أتراها أيضًا نفسيّة جماعيّة؟ هل تغيّرت قدرتنا على الرضا بالحياة وقضاء الموت إن لم نستطع إلى دفعه سبيلًا؟ أترانا ندفع ثمن غرور الإنسان الحديث ووهم سيطرته على الطبيعة وعلى القدر؟

سنة 1968، شهد العالم جائحة وبائيّة عُرفت بحمّى هونغ كونغ راح ضحيّتها مليون إنسان و30000 في كلّ من فرنسا وألمانيا في غضون ثلاثة أشهر. لم يتوقّف العالم في حينها ولا أظنّ أنّنا للأسف نحصي ضحاياها من التونسيين.

خيارات تونس في مواجهة الكورونا هي أيضًا خياراتنا في مواجهة أسئلة محرجة حول النفسيّة الجماعيّة في هذا القرن الواحد والعشرين.

 

المصادر:

1-  http://www.cidrap.umn.edu/news-perspective/2020/02/study-72000-covid-19-patients-finds-23-death-rate

2- https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(20)30411-6/fulltext#section-3d6acba1-acea-4be2-8dc9-b7e14e5b6583

3- https://www.businessnews.com.tn/samira-merai--la-tunisie-compte-240-lits-de-reanimation,534,96136,3

4- بخصوص المعايير الفنية للتباعد بين أسرّة الإنعاش https://multimedia.scmp.com/infographics/news/china/article/3047038/wuhan-virus/index.html?src=article-launcher

5- http://www.rcjournal.com/contents/02.08/02.08.0190.pdf

6- https://www.imperial.ac.uk/media/imperial-college/medicine/sph/ide/gida-fellowships/Imperial-College-COVID19-NPI-modelling-16-03-2020.pdf

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما معنى تصنيف "كورونا" مرضًا ساريًا في تونس؟

هل ينقل "الفريب" فيروس كورونا؟