18-أكتوبر-2022
المهاجم الإنجليزي هاري كين وحارس المرمى التونسي معز حسن في لقاء تونس وإنجلترا مونديال روسيا 2018 (صورة نيكولا عصفوري/أ.ف.ب)

المهاجم الإنجليزي هاري كين وحارس المرمى التونسي معز حسن في لقاء تونس وإنجلترا مونديال روسيا 2018 (صورة نيكولا عصفوري/أ.ف.ب)

 

 
انقاد المنتخب التونسي إلى هزيمة مدوّية في المباراة الودية التي خاضها ضد البرازيل بملعب حديقة الأمراء بباريس يوم 27 سبتمبر/أيلول 2022 استعدادًا لمونديال قطر، فقد اهتزت شباك أيمن دحمان خمس مرّات منها أربعًا في شوط واحد، مقابل هدف يتيم جسّده المدافع المحوري منتصر الطالبي.

هذه النتيجة جعلت النقد يستهدف حارس المرمى ولاعبي الدفاع ونال جلال القادري النصيب الأوفر من السخط الرياضي بسبب سذاجة الخط الخلفي تمركزًا وتنسيقًا وتركيزًا وتنظيمًا وهي مسؤولية لا يستطيع الإطار الفني التملّص منها.

ما حدث في حديقة الأمراء لا يمكن اعتباره مجرّد كبوة، فالناظر في سيرة المنتخب التونسي عبر مشاركاته العالمية واجد تقهقرًا من مونديال إلى آخر، هذا التقهقر تحوّل إلى ما يشبه الرعونة والسذاجة.

 

 

  • من الصلابة الدفاعية في الأرجنتين (1978) إلى الهشاشة في "جمهورية بوتين" (2018)

القول بهشاشة المنتخب التونسي دفاعيّا في المشاركات العالمية حُكم أبعد ما يكون عن التقييم الانفعالي أو الانطباعي إنّما تؤكّده أرقام واضحة تعلن عن معنى التراجع التدريجي إعلانَ المؤذّن، ففي أول مشاركة بالأرجنتين لم يقبل زملاء النايلي غير هدفين أحدهما من ضربة جزاء ضد المكسيك والثاني إثر هفوة فرديّة من علي الكعبي ضدّ بولندا، في المقابل أدرك كمُّ الأهداف المقبولة في المشاركة الأخيرة بروسيا الثمانية، رغم أنّ عدد المباريات لم يتغيّر، يتّضح هذا النكوص الدفاعي في المنتخب التونسي من خلال الأرقام والنسب التالية:

هشاشة المنتخب التونسي دفاعيًا في تاريخ المونديال تؤكّده الأرقام ففي أول مشاركة بالأرجنتين لم يقبل زملاء النايلي غير هدفين بينما قبل في المشاركة الأخيرة بروسيا ثمانية أهداف

  • في المشاركة الأولى بالأرجنتين سنة 1978 لم يتخطّ عدد الأهداف المقبولة الهدفين أي أدنى من هدف في المباراة الواحدة ( 0.66)
  • في المشاركة الثانية بفرنسا سنة 1998، تضاعف عدد الأهداف المقبولة ليبلغ الأربعة بمعدّل ( 1.33)، وذلك إثر هزيمتين ضد انقلترا ( 0-2) وكولومبيا ( 0-1) وتعادل مع رومانيا (1-1)
  • في المشاركة الثالثة بكوريا واليابان سنة 2002 زادت حصيلة الأهداف المقبولة لتبلغ الخمسة أي بمعدّل (1.66) في المباراة الواحدة، بعد قبول هدفين دون رد من الهجوم الروسي (0-2)، ومثلهما ضد اليابان (0-2) وهدف ضد بلجيكا (1-1)  
  • في المشاركة الرابعة بألمانيا سنة 2006 بلغ عدد الأهداف المقبولة 6 فأدركنا لأوّل مرة معدّل الهدفين ( 2) في كل مباراة تفاصيلها هزيمتان ضد إسبانيا (1-3 ) وأوكرانيا ( 0-1) وتعادل ضد المنتخب السعودي ( 2-2)
  • في المشاركة الخامسة بروسيا سنة 2018 بلغت حصيلة الأهداف المقبولة الثمانية بمعدّل تخطّى الهدفين والنصف في كلّ مباراة ( 2.66) إثر هزيمتين في مواجهة انقلترا (1-2) وبلجيكا ( 2-5) وانتصار ضدّ بنما ( 2-1)

هذه الأرقام قد تورث في الجمهور التونسي انطباعًا خطيرًا مفاده أنّ التدحرج قد تحوّل إلى قاعدة لم يحد عنها المنتخب في أي مشاركة، وإذا تواصل هذا النزيف وفق النسق الذي بيّناه بالأرقام والنسب يتوقّع أقلّ المتشائمين أن يتخطّى معدّل الأهداف المقبولة في مونديال قطر الثلاثة في المباراة الواحدة.

لمعرفة دقائق هذه المعضلة وأسبابها ارتأى "ألترا تونس" معالجتها من ثلاث زوايا مختلفة، فتحدّثنا إلى المدرّب اسكندر القصري والأسعد درويش حارس المرمى والمدرّب المتمرس في ميدانه، هذا فضلًا عن الاستئناس برأي الحكم الدولي محرز المالكي.

 

 

  • المنتخب وأزمة حرّاس مرمى

"تزايُدُ معدّل الأهداف المقبولة في المنتخب خلال مشاركاته في كأس العالم يرجع بنسبة ثمانين (80) بالمائة إلى ضعف حراس المرمى"، بهذه العبارة الواضحة الصارمة افتتح الأسعد درويش إجابته، وعلّل قراءته ببعض الحجج البديهية قائلاً "لا بدّ أن نتحلّى بالجرأة الكافية التي تجعلنا نقر في غير تردّد بأنّ تونس لا تمتلك حرّاسًا كبارًا، دليل ذلك غيابهم عن عالم الاحتراف، فنشاطهم في بطولة ضعيفة نسقُها بطيء يجعل الحارس لا يمرّ بالمحن الحقيقية والمواجهات القوية إلا في المباريات الدولية خاصة ضد المنتخبات الأوروبية، حينها يجد نفسه أمام تنشيط هجومي للمنافس يتصف بالسرعة والتنويع في التمريرات والتوزيعات وتبادل المراكز، ويُتوج بتسديدات تكون في الغالب مؤطرة وقوية ومباغتة لم نتعود عليها في بطولتنا بنفس التواتر، فيقع الحارس في حرج يفضح أحيانًا سذاجته وضعف تكوينه".

 مدرس الحراس الأسعد درويش لـ"الترا تونس": تزايُدُ معدّل الأهداف المقبولة من المنتخب يعود خاصة لضعف حراس المرمى فتونس لا تمتلك حرّاسًا كبارًا وهم غائبون عن عالم الاحتراف

وردًا على سؤال "ألترا  تونس" حول أسباب ضعف تكوين الحراس في تونس، قال الأسعد درويش "إن تكوين الحراس أكثر خطورة وتعقيدًا من تكوين بقية اللاعبين، ولا بدّ من الإقرار بأن المسألة تحتاج إلى عرض مطوّل ومفصّل، إن شئنا تلخيصه قلنا إنّ أصول الضعف تعود إلى مرحلة اختيار الحراس ففي الأحياء عادة ما توكل هذه المهمّة الأساسيّة أي حراسة المرمى إلى اللاعب الضعيف والمكتنز الذي يعجز عن مجاراة أترابه فنيًا وبدنيًا في اللعب، ، أمّا لدى الأندية فإنّ حارس المرمى يبدو في الغالب مهملًا تأطيرًا وتحفيزًا والحال أنه يمثل في الفريق الحلقة الأمتن التي لا يستقيم حال المجموعة إلّا بها".

الأخطر من هذا يضيف درويش، أنّ جل الأندية في تونس خاصّة الصغرى لا تعوّل على مدرّبي حراس وحتى إن وُجدوا فإن كفاءتهم تبدو في حاجة ماسّة إلى التطوير والتعهُّد في مجال يشهد تطوّرًا لافتًا، وفق تقديره.

في نفس السياق، يضيف درويش أن اختيار الحراس في مرحلة التكوين يقتضي فضلاً عن شرط المهارة والسرعة والشجاعة تدقيقًا علميًا حول الأفق الذي ينتظر الطفل حول الطول، وسرعة ردّ الفعل والمرونة هذا الأمر بات ممكنًا من خلال عدد من الاختبارات.

مدرب الحراس الأسعد درويش لـ"الترا تونس": اختيار الحراس في مرحلة التكوين يقتضي فضلاً عن شرط المهارة والسرعة والشجاعة تدقيقًا علميًا حول الأفق الذي ينتظر الطفل حول الطول وسرعة ردّ الفعل والمرونة

يختم دوريش كلامه قائلاً إن "حال المنتخب لا يمكن أن ينصلح إلا إذا راهنا على تكوين جيل من الحراس يمتلك مواصفات عالمية ولا ينبغي أن نغترّ ببعض الاستثناءات مثل عتوقة والنايلي وشكري الواعر الذي نال جائزة أفضل حارس في الدور الأول في مونديال ألمانيا، فهؤلاء الحراس قد بلغوا منتهى البراعة لا بسبب استفادتهم من منظومة تكوين حراس علمية متطورة، فالأمر يعود أساسًا إلى مهارات فطرية وامتيازات ذاتية ومثابرة خاصّة وقوة شخصية جعلت كلّ واحد منهم ينحت تاريخه الرياضي بنفسه فيقدم للمنتخب الإضافة المرجوة.

ما نستخلصه من كلام درويش أنّ ضعف حراس المرمى في تونس لا يرجع فقط إلى ضعف التكوين إنما يعود كذلك إلى ضرب من الاستخفاف بهذا الدور الجوهري في لعبة كرة القدم وهو استخفاف يضاهي استخفافنا بتخير حراس المؤسسات الذي ارتبطت بهم في ثقافتنا صورة البساطة والسذاجة والمظهر المتواضع في المقابل يكون الحارس في الثقافة الغربية عنوان القوة والصرامة واليقظة وسرعة ردّ الفعل. 

مدرب الحراس الأسعد درويش:  "حال المنتخب لا يمكن أن ينصلح إلا إذا راهنا على تكوين جيل من الحراس بمواصفات عالمية ولا ينبغي أن نغترّ ببعض الاستثناءات مثل عتوقة والنايلي والواعر"

 

مدرب الحراس الأسعد درويش

مدرب الحراس الأسعد درويش

 

 

  • تضخّم عدد الأهداف المقبولة في المونديال ظاهرة عالمية

لم ينكر المدرب اسكندر القصري أطروحة لسعد الدرويش التي تربط تزايد الأهداف المقبولة في المنتخب بضعف حراس المرمى في مستوى التكوين والشخصيّة لكنّه في المقابل رفض تحميل الحراس النصيب الأوفر من المسؤولية.

القصري شدّد في حديثه إلى  ألترا تونس" على أنّ التقييم لا ينبغي أن يقوم على التعميم، فكلّ مشاركة وكلّ مباراة خاضها المنتخب لها ملابساتها وأطوارها وتفاصيلها المؤثرة، فالهزيمة المدوّية ضدّ بلجيكا في مونديال 2018 (2-5) ، تعود بدرجات متفاوتة إلى أسباب متعددة أولها الخصم ففضلًا عن ترتيبه المتقدم عالميًا كان يضم هجومًا من نار، فيه لوكاكو يسنده في وسط الميدان الهجومي ديبراون وهازار، ثانيًا ضعف أداء علي معلول لاعب الرواق الأيسر فقد كان في تلك المباراة تحديدًا خارج الموضوع، أمّا بالنسبة إلى حارس المرمى بن مصطفى فهو يتحمّل مسؤولية هدف واحد، وهذا ينطبق كذلك على الثلاثية التي قبلناها ضد إسبانيا فلولا مهارة الواعر لكانت النتيجة أعرض في مواجهة أبرز منتخب في مونديال ألمانيا 2006.

المدرب اسكندر القصري لـ"الترا تونس": لا بدّ أن نقرأ الكم المتزايد في عدد الأهداف المقبولة في سياق كروي أوسع يتميز بتطوّر النزعة الهجومية في جلّ الأندية والمنتخبات فضلًا عن تزايد عدد النجوم أمام المرمى

وختم القصري كلامه لـ"الترا تونس" قائلاً لا بدّ أن نقرأ الكم المتزايد في عدد الأهداف المقبولة في سياق كروي أوسع يتميز بخاصيتين الأولى تتمثل في تطوّر النزعة الهجومية في جلّ الأندية والمنتخبات فضلًا عن تزايد عدد النجوم المتصفين بالقوة والسرعة والنجاعة أمام المرمى ممّا يساهم في إرباك الدفاع مهما كانت حصانته وهذا ما يفسر قبول البرازيل علي سبيل المثال سبعة أهداف ضد ألمانيا في مونديال 2014 رغم أنّ الدور متقدم (النصف النهائي) وتاريخ المنتخبين يفترض تقاربًا في المستوى.

 

اسكندر القصري

المدرب اسكندر القصري

 

  • تضخم الأهداف المقبولة صنعتها التشريعات المنسجمة مع " قانون السوق"

تطوّر النزعة الهجومية وتزايد النجوم المتصفين بالنجاعة أمام المرمى يبدو مبرِّراً موضوعيًا لا يفسر فقط ضعف دفاع المنتخب التونسي وإنما يفسر انهيار العديد من المنتخبات بما فيها الكبرى في كثير من المناسبات.

آلات صناعة الأهداف (Machine à marquer des but au foot) هذا المصطلح بدأ يستعمله بعض النقاد في وصف عدد من المهاجمين المتنافسين على تحطيم الأرقام القياسية في تجسيم الأهداف، رونالدو، ميسي، مبابي ، وخاصة نجم المان سيتي هالاند في بداية هذا الموسم 2022-2023 والقائمة تطول وتتجدد من سنة إلى أخرى، لكن هذه النجاعة السحرية للمهاجمين هل تعود إلى مهاراتهم الفائقة والنزعة الهجومية لأنديتهم فقط، ألم يساهم التطور في القوانين المنظمة للعبة كرة القدم في تيسير مهمة/مهنة المهاجمين؟

الحكم الدولي التونسي محرز المالكي لـ"الترا تونس": جلّ التشريعات الحديثة في كرة القدم تساهم في تشجيع النزعة الهجومية و إعطاء الأولوية للمهاجمين

للتحقق من هذه الفرضية تحدّث "ألترا تونس " إلى الحكم الدولي التونسي محرز المالكي، فقال: إنّ جلّ التشريعات الحديثة في كرة القدم تساهم في تشجيع النزعة الهجومية و إعطاء الأولوية للمهاجمين".

لتفصيل هذا الرأي، ذكّر محرز المالكي في البداية بعنصر محفز على الانتصار فبعد أن كان المتعادل ينال نقطة والمنتصر يحرز على نقطتين، بات نصيب المنتصر ثلاث نقاط، من جهة أخرى، تمّ تطوير وضعية التسلل فالعقوبة لا تطال اللاعب المتسلل إلا حينما يشارك في العملية التي تفضي إلى تجسيم الهدف، وقس على ذلك لمسة اليد فقد باتت تحتسب داخل منطقة 18 مترًا ضربة جزاء آليًا بصرف النظر عن القصدية، ولا يفلت المدافع في هذه الوضعية المحرجة إلا في حالات استثنائية دقيقة، وينطبق هذا على الالتحام بين المدافع والمهاجم فالأولوية في الغالب للمهاجم، ولا ننسى، يضيف المالكي، الضوابط الصارمة التي يكون الحارس ملزمًا بها عند تسديد ضربة الجزاء، الأخطر من هذا كله على حدّ تعبير الحكم الدولي أن النجوم في الهجوم يحظون بامتيازات خاصّة بدافع من المزاج العام ووفق توصيات وتلميحات غير صريحة وغير رسمية لحمايتهم من التدخلات العنيفة أو المتهورة، فهم بمثابة رأس مال اللعبة".

لمزيد التدقيق في هذه النقطة، سألنا المالكي "هل تعني أن التشريعات في كرة القدم باتت منسجمة مع قانون السوق؟"، فأجاب قائلاً: أي نعم فكُرة القدم مباراة تجري في تسعين دقيقة لكن الأهداف يتم تسويقها وتناقلها بشكل واسع ومستمر في الأخبار والمنوعات وجل المواقع، فهي إذًا البضاعة التسويقية المثلى في المباراة كلها، فلا عجب أن يحرص المشرع على صناعة "الحيل القانونية" لجعل المهاجم في وضعيات يكون فيها أكثر أريحية من المدافع وحارس المرمى.  

 

 الحكم الدولي التونسي محرز المالكي

 الحكم الدولي التونسي محرز المالكي