11-يونيو-2018

شعر الملحون التونسي لا يزال يغنى إلى الآن في الأعراس والاحتفالات التي تقام في البوادي والأرياف (تسنيم الناصري/ الأناضول)

"غروضات بان الغرض بين هدبهم

رعبوبات رعبو خاطري يرعبهم

غروضات في شبوا

نعيسات دوبا يغازلو ويغبو

شواويطهم فوق الخدود يهبوا .. جوانح خطّيفة الهوا شقلبهم

كراطيش بوستّة .. رقيق جعبهم

 خذو علي النيشان في حطوّ

زرارات موزر في كنيني لطو

عيّطت يا لطيف هزّ تعبهم

كان متّ قولوا للعدول يحطّو.. صدّقت دم هدر على صاحبهم"

هذه "ملزومة" من قصيد مطوّل للشاعر الشعبي التونسي أحمد البرغوثي، الذي عاش في قرية البرغوثية بقبلّي بأقصى الجنوب التونسي في الثلث الأول من القرن العشرين وتوفي سنة 1934 وهو سليل عائلة تنظم الشعر الملحون.

هذا الشاعر الشعبي الكبير لم يكن ليعرفه عامّة التونسيين لولا الفنان الموسيقي مقداد السهيلي الذي غنى هذا المقطع وروّجه في أسطوانة حملت اسم "غروضات" أواسط تسعينيات القرن الماضي. وقد خلقت هذه الأغنية جدلًا واسعًا في الوسط الموسيقي والثقافي آنذاك ولا تزال تداعياته إلى الآن.

هذه الحادثة تحيلنا مباشرة على قضية مركزية في الثقافة التونسية وهي الإقصاء الواضح لفنون وثقافة البوادي والأرياف التونسية مقابل إعلاء الإرث الثقافي والفنّي الحضري المديني. وحتى النخب التونسية انخرطت في تكريس هذا الانشطار صلب الثقافة الواحدة فراجت كلمات من نوع " فلكلور" و"فنّ شعبي". وعادة ما تذكر في سياقات الدّون والاستهجان.

في الثقافة التونسية، هناك إقصاء واضح لفنون وثقافة البوادي والأرياف التونسية مقابل إعلاء الإرث الثقافي والفنّي الحضري المديني

ومن المكوّنات الأساسية لثقافة البوادي والأرياف التونسية التي سنتطرّق إليها في هذا المقال "الشعر الملحون"،  وهو نوع من الشعر موجود في أغلب الثقافات والمجتمعات وقد سمّي  بالملحون لأنه " خروج الكلام الفصيح عن مجرى الصحة في بنية الكلام أو تركيبه أو إعرابه وذلك من فرط الاستعمال بين الناس ويتسرّب بعد ذلك إلى لغة خاصة" و يقابله في اللغة العربية الفصحى " الشعر الموزون".

وهنا يقول محمد المرزوقي في الصفحة 83 من كتابه "الفن الشعبي" الصادر سنة 1967 "الشعر الشعبي الحديث لا يمكن أن نطبّق عليه البحور القديمة ولا أن نلزمه بتفعيلاتها وهذا راجع للهجة الخاصة التي ينطق بها. فالتفاعيل القديمة بنيت على لغة تشتمل على أوتاد وفواصل أي حركة وسكون. أما اللهجة التونسية الدارجة فلا تشتمل إلا على الأسباب والأوتاد أي حركة وسكون أو حركتان وسكون".

اقرأ/ي أيضًا: "الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش

إن هذا المقول الشعري التونسي المصمّم داخل أروقة لهجاتها التونسية العديدة المنتشرة من الشمال الى الجنوب والمسمى بالملحون يعتبر صميم الإرث الثقافي التونسي وحجر زاوية التراث الشفوي. فهو فضلًا عن كونه مادة إبداعية مليئة بالصور الشعرية والتخيل وترصيف الكلمات، فهو أيضًا مادة نفهم من خلالها الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية وجوانب مهمة من تاريخ تونس حيث يذكر هذا النوع من الشعر ملاحم وشخصيات وبطولات.

الملحون هو مادة إبداعية مليئة بالصور الشعرية والتخيل وترصيف الكلمات، ويمكن أن نفهم من خلاله الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية وجوانب مهمة من تاريخ تونس

وشعراء الملحون التونسي يسمّون أنفسهم بالأدباء وشعرهم يسمى "الأدبة" كتصغير لكلمة أدب والتصغير هنا ليس في صيغ التّحقير والتقزيم وإنما لتمييزه. ويصر شعراء الساحل التونسي على كلمة "الأدبة " فخرًا بما ينظمون.

لهذا النوع من الشعر المنظوم "بالعامية التونسية" قوانينه التي تضبط طرائق كتابته وأغراضه المتفق عليها منذ قرون و يعدّ "الأخضر" من أهم الأغراض ويقابله الغزل في الشعر الفصيح والأخضر هو الوصف الواضح لجمال جسد المرأة. وهنا نذكر قصيدًا لمنصور العلاقي يقول فيه:

"غثيثها طاح بإكمال.. في الطول يطوال

شوشان أسود ويكحال .. في وسط سوق الدلالة

جبينها برق شعّال .. كيرعد زلزال

الحاجب كيما خط عدّال .. يا عارفين العدالة

عيونها كيما حرب قتال .. والنّيف مازال

خدود ورد في خمّال .., الشفّة من اللّك تذبال

أنياب تبرور شعّال..الرقبة كيما رقبة الغزالة

نهود وأفصال .. والصدر ما أبهاه يعتال

بزول قاسم اخلاله .. و القدّ يعدّل بإمهال

والرّيح دالة بدالة"

(الغثيث هنا هو الشعر، شوشان هو صاحب البشرة السوداء، العدّال هو شاهد العدل، النّيف هو الأنف، خمّال هي جمع خميلة والخميلة هي الأشجار الملتفة والكثيفة، اللّك هو الصباغ الأحمر، يعتال يعني يعظم ويكبر، دالة بدالة يعني مرّة بعدها مرّة أخرى).

ومن الأغراض أيضًا "وصف الطبيعة" وهنا يتم التركيز على " الضحضاح" وهو السراب في الصحراء، و"الكوت" وهنا يتفنن الشاعر في وصف الفرس والنّوق و"النجعة " ويصف فيها الشاعر عملية الارتحال من اجل الكلأ والبحث عن الماء، و"البرق" وهو عنوان لتباشير المطر والخصوبة.

أما أوزان هذا النوع من الشعر التونسي البدوي فقد قسمها الشاعر محيي الدين خريف (وهو من "فحول" شعراء الملحون ومن المؤرخين له) إلى أربعة أصول وهي:

1ــ "القسيم" ومن فروعه "البرق":

"برق لعج لاح شيّار .. مبروك بشّار

كي تشاوفت ليه الأنظار ...صدم وزامت رعوده"

2ــ " الموقف " وسمي كذلك لأنه لا يقال أو يغنى إلا وقوفًا:

"موقف نجيبا بتحكار .. مرتوب ما صار"

3ــ "الملزومة " وهي الاكثر تداولًا وشيوعًا وتتفرع عنها أغلب الأغراض التي ذكرنا

"قامت مشت حلفو عليها تولّي .. ضوا خدّها .. قام الامام يصلّي"

4 ــ "مسدّسة" وهي قصيرة ومكثفة ومليئة بالإيحاء والحكمة

"آش كلفك يا انسان على شيء ليس تطيقه

وإللّي حواليه كتّان باطل يخش الحريقة"

أما الإيقاع فهو متغير ولا ثبات له، ولا غرابة أن يتغير يوميًا وذلك حسب قدرات الشاعر واللحظة التي انبجست منها القصيدة.

يُغنى الملحون إلى الآن في الأعراس والاحتفالات التي تقام في البوادي والأرياف التونسية وتسمى السهرة "النجمة" التي يأتيها "الغنّاي" ومعه "السّفعات" (منشدان اثنان)

هذا النوع من الشعر يغنى إلى الآن في الأعراس والاحتفالات التي تقام في البوادي والأرياف التونسية وتسمى السهرة "النجمة" التي يأتيها "الغنّاي" ومعه "السّفعات" (منشدان اثنان) وتغنى أغلب الأغاني بطلب من الحضور وعادة ما يكون المؤدي في علاقة بالشاعر إن كان حيًا يعرفه ويجالسه ويلتقيه أو من حفظة شعره ومن المعجبين به إن كان ميتًا.

"نا حالف على الأعراس .. من بكري بطلت الهيبة

بعثتلي مصقولة النّاب.. قالت جيب القول علي"

وهي في أغلبها مرويات من الواقع الاجتماعي تقول قصص الحب والعشق والهيام وتروي البطولات والملاحم والانتصارات على السلطة الجائرة. إنها ذاكرة الإنسان التونسي في الريف لقرون طويلة. وهذا الفعل الفني الثقافي في طريقه إلى الزوال فهو لا يأخذ بعضه برقاب بعض أي لا أجيال تتوارثه وتتناقله.

الملحون فعل فني ثقافي في طريقه إلى الزوال فهو لا يأخذ بعضه برقاب بعض أي لا أجيال تتوارثه وتتناقله

"الترا تونس" التقى أحد عتاة "فن الأدبة" بالساحل التونسي وهو بريّك السعفي، الذي ينظم الملحون ويغنيه إلى الآن. ويؤكد السعفي لـ"الترا تونس" أن هذا الفن التونسي الأصيل لم يعتن به العناية اللازمة، إذ لم يدون أغلبه ولم تجمع دواوين فحول شعراء الشعر الشعبي أو الملحون ولم تسجل الأغاني التي كانت منتشرة في كامل البلاد.

ويرى أنه من غير اللائق أن يتعامل مع ثقافة الشعب على أساس أنها فلكلور لا أهمية ولا عمق له في حين أن عروقه ضاربة في عمق حياة الناس ويعبر عنهم وعن أحاسيسهم وخوالجهم، محملًا المسؤولية كاملة لدولة الاستقلال التي غيبت هذا القسم من ثقافة تونس على أساس أنه من فعل العامّة والسوقة.

من الملحون بصوت بريك السعفي

بريك السعفي يعتبر من آخر رواة ومغني هذا الشعر فهو يفخر بذاكرته التي اتسعت لمنجزات شعرية قوية نظمها شعراء فحول من أمثال أحمد ملاك الذي كان شاعر أحمد باي وأحمد بن موسى ومنصور العلاقي ومحمد العياري وسعد لزرق والبشير عبد العظيم ومحمد الصافي. ويحذر السعفي من اندثار مدوّنات هؤلاء الشعراء وغيرهم وبالتالي المسارعة بتحقيق دواوينهم ونشرها، حفاظًا على ذاكرة الوطن.

عمليات حفظ الذاكرة الثقافية الشفوية المنسية كانت بدافع شخصي من قبل غيورين على الأصالة التونسية

إن علاقة التونسيين بذاكرتهم الثقافية الشعبية الشفوية فيها الكثير من الاهتزاز والنفور وعدم الوضوح. ومردّ ذلك هو التفرقة التي كرّستها دولة الاستقلال في صلب الموروث الثقافي التونسي فهمشت ثقافة الريف والبوادي وسمتها فلكلورًا وجعلت ثقافة الحواضر والمدينة الواجهة الثقافية الرسمية للدولة. حتى وإن ذهبت هذه الثقافة الرسمية إلى الضفة الأخرى للتواصل والالتحام مجددًا فسّره الرسميون على أساس "تهذيب التراث" وهو مصطلح ممجوج يسيء لذاكرة الأجداد. وهذا العطب أدى إلى زوال جماليات شعبية تتسم بالعفوية والصدقية وإلى المسّ من الهويّة الثقافية التونسية.

وحتى عمليات الحفظ، التي تمت لهذه الذاكرة الثقافية الشفوية المنسية من أشعار وأغان كانت بدوافع ذاتية وشخصية من قبل غيورين على فنون أصيلة مهددة بالاندثار من أمثال محمد المرزوقي ومحيي الدين خريف والصادق الرزقي وعلي منسية وعلي سعيدان.

وإلى حد هذه اللحظة وبعد أن أغلقت وزارة الثقافة "مصلحة الأدب الشعبي" وأحالت أرشيفها للمكتبة الوطنية لا نرى اهتمامًا يذكر بخصوص هذا التراث اللامادي، وحتى الكتاب الذي صدر تحت عنوان "مدونة الشعر الشعبي التونسي" في عشرة أجزاء من قبل الوزارة اعتبرت مادته الأساسية من أرشيف المرحوم محمد المرزوقي الذي قام بجهد استثنائي في خمسينيات القرن العشرين حتى يجمّع ما جمّع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عرض "المرقوم".. حينما يُخلق "المذكّر" من أضلع "المؤنّث"

النوبة التونسية... أيقونة موسيقية ورسائل سياسية