29-سبتمبر-2022
التكرار في اللهجة التونسية

ينهض التكرار في اللهجة التونسية بعدة وظائف (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

تكتسي اللهجة التونسية خصوصيتها من سمات عديدة أهمّها الاقتراض أي أخذ مفردات من لغات أخرى، وهو ما جعل معجمها يشكّل آية من آيات التعايش بين أمم وحضارات شتّى قديمة وحديثة، ولئن طرأت على الكلمات المأخوذة من ألسنة أخرى ألوان من التغيير في النطق وضروب من التطوير والشحن الدلالي فإنّ الباحث إن أمعن السمع والنظر والمقارنة أمكن له التحقق من أحد عشر نبعًا على الأقل منهُ أثرى التونسيون لهجتهم التي ألّفت بين القديم المعتق والجديد المبتكر وجمعت بين المرجعية البربرية الأصيلة والمصادر العربية الفصيحة فضلاً عن اللغات الأعجمية، فأثمر ذلك تناغماً فريدًا بين الأمازيغية ولغة الضاد والفرنسية والفارسية واللاتينية واليونانية والتركية والإسبانية والإيطالية وغيرها.

التكرار في الملفوظ الشفوي التونسي يبدو بالنسبة إلى الكثيرين لاسيما الأجانب معقدًا مثيرًا للدهشة لأنه في الغالب لا يخضع في معانيه ودلالاته إلى المقاييس المألوفة والوظائف النمطيّة

تمَكّن بعض الباحثين في اللغة والمعجمية من رصد هذه السمة المميزة للهجة التونسية، ولئن ظلّت العناية بهذا المشغل في حاجة إلى مزيد التوسّع والتعمق والاختبار، فإنّ باب الجُمل والتراكيب الجزئية وبعض الأساليب البلاغية ظلّ إلى الآن مجالاً متروكًا مهملاً لم يحظ بما يستحق من عناية علمية، نذكر منها "التكرار في الملفوظ الشفوي التونسي" الذي يبدو بالنسبة إلى الكثيرين لاسيما الأجانب معقدًا مثيرًا للدهشة لأنه في الغالب لا يخضع في معانيه ودلالاته إلى المقاييس المألوفة والوظائف النمطيّة.

  • تمرّد التكرار في اللهجة التونسية على الوظائف الأساسية

يُجمع البلاغيون العرب والغربيون ونقاد الأدب على اعتبار التكرار ظاهرة أسلوبية ذات 5 وظائف على الأقل:

1. الوظيفة الدلالية وتتمثل في التأكيد، يقول السيوطي  "إنَّ التكرار هو التَّجديدُ في اللَّفظِ الأوَّلِ، ويُفيدُ ضربًا من التَّأكيدِ"
2. الوظيفة المنهجية وتتصل بالترتيب والتصنيف والتبويب
3. الوظيفة الجمالية الإمتاعية لاسيما في الشعر وتتجلى في تكثيف الإيقاع
4. التغطية عن العجز على الاسترسال في الكلام، فالتكرار في المقام الشفوي، يسميه أحد النقاد "العكاكيز" ، يستعملها المتكلم حتى يتيح لنفسه حيزًا زمنيًا (ثانية أو بعض أعشار الثانية) للتفكير قبل مواصلة الكلام
5. التكرار الانفعالي في مقام المشافهة

ينهض التكرار في اللهجة التونسية بالوظائف المذكورة أعلاه كلها انسجامًا مع القواعد اللسانية العامّة، لكنّه يتمرّد على هذه الضوابط في الكثير من المقامات، للتحقّق من ذلك يمكن الاستناد إلى عدد من الأمثلة والنماذج.

  • "زعمه زعمه" ..من معنى الشكّ إلى دلالة الإيهام والتضليل

زعْمَه ..كلمة اقترضتها اللهجة التونسية من المعجم العربيّ الفصيح، ( زَعَمَ)، غير أنها تنكّرت لمعناها الأصلي ( أي قال أو ادّعي أو ذكر)، فباتت تفيد الاحتمال والتخمين، كأن تقول مثلاً سنترشّح إلى الدور الثاني في كأس العالم، فيردّ محاوِرُك مستفهمًا وقد خامره الشكّ زعمه !؟.

الحرج في الفهم يبلغ درجة الغموض حينما يُنصت الأجانب إلى تونسي يقول على سبيل المثال: "يَحكي واثق من رُوحُو زعمه زعمه يفهم في الكوره" ، أو " يضحك ويفذلك زعمه زعمه ما فيبالوش بالمصيبة اللي عْملها"، في هذا المقام لا يمكن إعمال قاعدة التكرار الذي يفيد التأكيد إنما ينبغي فهم ملفوظ " زعمه زعمه"  في حِلّ من كلّ ضابط لساني عامّ، فهي تفيد معنى الإيهام والتضليل. ولا يمكن التفطّن إلى ذلك إلا من خلال السماع والتعوّد.

مُراجعة الأعمال الموسيقية التونسية تكشف لنا أنّ عبارة "زعمه زعمه" في معنى الإيهام لا نكاد نجد لها حضورًا، في المقابل حفلت الأغاني التراثية والمعاصرة والراهنة بكلمة "زعمه" في معنى الاحتمال والشك والانتظار في العديد من الأعمال الإبداعية منها أغنية "زعمه يصافي الدهر" التي أدتها المطربة نعمة باقتدار وأغنية "زعمه النار تطفاشي" لزياد غرسة.

يمكن القول إن كلمة "زعمه " تحضر غالبًا في المقامات التأملية والشعورية والعاطفية هذا ما ضمن لها حيزًا أوسع في كلمات الأغاني في المقابل "زعمه زعمه" يكون حضورها أكثر في السياقات الدرامية والهزلية والنقدية والتقييميّة.

 

 

  • "دبَّه دبَّه، سلّه سلّه، وَحده وحده" ..فلسفة الدقّة والتريّث

يكاد الناظر في تكرار بعض مفردات اللهجة التونسية ييأس من إيجاد قاعدة منطقية ناظمة لهذه الظاهرة الأسلوبية، غير أنّ بعض النماذج يمكن إخضاعها نسبيًا إلى دلالة جامعةٍ.

يتّضح هذا في معنى التريث والتروي الذي يدلّ عليه تكرار كلمات " دبّه" و"ديقه" ( بثلاث نقاط فوق القاف) و"وحده"، فقولنا "امش دبه دبّه" يعني سِر بتُؤدة وبطءٍ وانتباه ويقظة، ولقد حضرت هذا العبارة بنفس المعني في أغنية للفنانة الشعبية فاطمة بوساحة مطلعها " يا عمّي الشيفور امش دبّه دبّه".

تتأكّد دلالة الدعوة إلى التريّث والتروّي والصبر في تكرار كلمة ديقه diga(ثلاث نقاط فوق القاف) في مثل قولنا، "نكملو طريقنا ديقا ديقا diga diga بقدرة ربي نُوصلو"، وقد حضرت هذه العبارة في أغنية "حلمه" لبلطي مغني الراب التونسي، ورد في مطلعها  "طريق طويله، يامّا، وأنا عندي حلمه، ديقا ، ديقا ديقا ..وربي معانا ...".

نلاحظ بوضوح التغير الدلالي اللافت في معنى ديقه، فمعنى التروي الذي أفادته باعتماد أسلوب التكرار أبعد ما يكون عن المعنى الأصلي الذي تعنيه ديقه وهو  "مكيال للسوائل يُستعمل في كيل الزيت، وسعتُه عشر لترات"  وفي ذلك، وفق تقدير ابراهيم بن مراد المختص في المعجمية "اختصار لكلمة décalitre الفرنسية فأصلها إذًا déca ومعناها الأصلي عشرة".

ينطبق هذا التحليل من حيث التمشّي والنتائج على التكرار في عبارة "وحده وحده"، فكلمة "وَحده" مفردة تفيد معنى القلة والندرة كأن نقول "وحده برك (= فقط)، أو معنى التعديد والترتيب في مثل قولنا وحده، اثنان، ثلاثة أمّا في التكرار فهي تعني الترويّ شأنها شأن ديقه ديقه diga.

هذا المعنى يمكن أن تترجمه عبارة سلّه سلّه، كأن نقول " خليها تْطيب سلّه سلّه"، ما نلاحظه في هذا المثال أنّ المسافة الدلالية بين كلمة "سلّه" مفردة وسلّه مكررة تبدو بعيدة، في الأولى تعني الكيس أو "القفه" ( سلة الخضر، سلة الغلال، سلة المهملات..) وفي الثانية تعني خطوة خطوة أو شيئًا فشيًئا أو توخي الدقة والتريّث، الطريف أنّ سلّه مكررة في اللهجة التونسية هي أقرب في دلالتها إلى سلة مفردة في اللسان العربيّ "فالسَّلُّ هو انتزاع الشيء وإخراجه في رفق لذلك نقول "يفرز المعدنوس/ البقدونس سلّه سلّه".

 التكرار في اللهجة التونسية ينطوي من خلال عدد محدود من النماذج على فلسفة التروّي والدقّة والتريّث

بناء على هذه المعطيات يمكن القول إنّ التكرار في اللهجة التونسية ينطوي من خلال عدد محدود من النماذج على فلسفة التروّي والدقّة والتريّث.

لكن لو أعدنا النظر كرّة ثانية وثالثة لوجدنا لونًا آخر من التكرار متمحّضًا لمعنى الدقة تحديدًا، انظر مثلًا عبارة "قد قد" فهي تُفيد التساوي والتماثل كما تعني التزامن كأن نقول "وصلوا قد قد" أي في نفس التوقيت، هذا فضلاً عن معنى الضبط والإحكام كأن نقول "حُطها في بلاصتها قد قد"، أو" جابْها قد قد" أي وضعها في مكانها بمنتهى المهارة والإتقان.

ورغم التباين في مقامات الاستعمال فإنّ النماذج المذكورة تتفق نسبيًا مع دلالة تكرار  كلمة "ضرْبَه (الراء ساكنة) في مثل قولنا "اشرب الدواء هذا ضرْبه ضربه للكحه"، المعنى المقصود هو النجاعة التي تربطها صلة رحم دلالية مع معاني الإتقان والدقة والحذق والإحكام التي دل عليها التكرار في عبارة "قد قد" وبدرجة أقل "سله سله".

تكرار "الله الله" في اللهجة التونسية في مقام تفيد الذم وفي آخر تفيد المدح والإعجاب وذلك حسب طريقة النطق والحركات المصاحبة للرأس

رغم التقارب الدلالي بين بعض ألوان التكرار في اللهجة التونسية لا بدّ من الاعتراف بصعوبة الضبط والتقعيد (= وضع قواعد) في أغلب الاستعمالات، إن شئتَ التحقق انظر مثلاً إلى تكرار "الله الله"، فهي في مقام تفيد الذم وفي آخر تفيد المدح والإعجاب وذلك حسب طريقة النطق والحركات المصاحبة للرأس، وقد تعني الحسرة حينما نقول الله الله الله الله ..وقس على ذلك تكرار كلمة أبْ ab في قولنا على سبيل التعبير عن الدهشه أب أب أب أب ....و"أي ay أي أي" للتعبير عن الدهشة أو الألم.

ويزداد الأمر غموضًا في تكرار كلمة هَب مع ترقيق نطق صوت الهاء في مثل قولنا "هَبْ هِبْ" أي مضى وانصرف...وقد حضرت هذه العبارة في سلسلة شوفلي حل على لسان الممثل توفيق البحري (الباجي ماتريكس ) في الحلقة السابعة موسم 2007 الدقيقة 35. قال متحدثًا عن شخصية الجغالي "سايي هب هب".

التكرار في اللهجة التونسية مهما حرصنا على ضبط دلالاته العامّة يظلّ رهين المقامات والاستعمالات وطرائق النطق التي تندرج ضمن ما يسميه اللسانيون "الوظيفة فوق المقطعية"

نخلُص من خلال هذا العرض الوصفي والتحليلي والتأويلي لظاهرة التكرار في اللهجة التونسية إلى جملة من النتائج الهامّة نذكر منها ثلاثًا:

  • أولاً: التكرار في اللهجة التونسية مهما حرصنا على ضبط دلالاته العامّة يظلّ رهين المقامات والاستعمالات وطرائق النطق التي تندرج ضمن ما يسميه اللسانيون "الوظيفة فوق المقطعية"
  • ثانيًا: الغموض الذي يلمسه الأجنبي في اللهجة التونسية يتحوّل بعد الفهم والاستعمال إلى آية من آيات الطرافة والعمق والتميّز
  • ثالثًا: الأعمال الفنية الغنائية والدرامية متى كانت ذات جودة عالية وانتشار واسع تساهم في جعل اللهجة التونسية مهما شذّت استعمالاتها في متناول الأجانب لا سيما العرب.