في كل مرة يصدر فيها فنان الراب التونسي بلطي أغنية جديدة إلا ويرفع السقف عاليًّا أمام منافسيه ويثبت قدرته على تجسيد الواقع في صورة فنية جامعة للتونسيين، قادرة على استيفاء أذواق مختلفة على مستوى الكلمة واللحن والصورة.
مثلت أغنية "أنا" لوحة لا فنية فقط بل وفلسفية منسجمة إلى حد كبير مع واقعها، ومرتبطة بأهل تونس أيما ارتباط
مثلت أغنية "أنا" لوحة لا فنية فقط بل وفلسفية منسجمة إلى حد كبير مع واقعها، ومرتبطة بأهل تونس أيما ارتباط. بلطي الذي يدفع عن نفسه منذ بداية الأغنية صفة "الدونية" بقوله "أنا ماني دوني إنتوما اللي نكارا"، يفتح لنا بابًا من التناقضات التونسية على مصراعيه، مع إشارات حول الوضع السياسي والاجتماعي، حول "الذباب الإلكتروني" ووضعية الفنان، سمة الوصولية لدى البعض وغير ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: شارات المسلسلات الرمضانية في تونس.. حضور لافت لفناني الراب
لا ينكر أحد على بلطي أنّه صالح جزءًا واسعًا من الشعب التونسي مع فن الراب، والمصالحة هنا بمعناها الشامل، من ذلك تقريب اللغة من مختلف الشرائح الاجتماعية، خاصة أنّه جعلها مقبولة في الوسط العائلي عبر الصورة الرمزية اللافتة في علاقة بالحبيبة، الأم والإبن.
بلاغة الكلمة وصدق التعبير، عززا أيضًا، الثقة بينه وبين الجمهور الذي بدأ يتعود على أسلوب فني تطغى عليه مسؤولية كبيرة في الأداء، البحث عن المشترك، بساطة الكلمة وعمق معناها مع حرصه على الظهور الخفيف في آخر أعماله.
تفتح أغنية "أنا" بابًا من التناقضات التونسية على مصراعيه، مع إشارات حول الوضع السياسي والاجتماعي، حول "الذباب الإلكتروني" ووضعية الفنان، سمة الوصولية لدى البعض وغير ذلك
في أغنية "أنا"، يعكس بلطي صورة فنان صدر في حقه قرار إخلاء للمنزل، يجوب البلاد بحثًا عن موطن له لينتهي به المطاف في الشارع مع موسيقاه، باعتبارها الملجأ الوحيد له بعيدًا عن ناكري الجميل، المتعالين، والكاذبين. وهو ما ذكره بالقول "وعرفت الخناب والصباب والكذاب، والكلاب والحلاب والقلاب والذباب".
كما وصف الضغط الاجتماعي والعائلي، بين رغبة الأم في تزويج ابنها ورغبة الأب في عمل يدر له أموالًا، ورغبتهما الثنائية في أن يهاجر من البلاد.
كشف بلطي في الأغنية عوراتنا وزيفنا وتناقض مجتمعنا في قالب فني وإيقاع متميز، فكلمات أغنيته كانت تحيلنا إلى عشرية كاملة عاشتها تونس في ظل التخبط والوصولية والوعود الكاذبة والقرارات التي وإن جاءت إما في غير وقتها أو لخدمة لن يستفيد منها الشعب بشيء.
تجاوز بلطي منذ مدة الأعمال المتمحورة حول قصص العشق ومآلاتها، معاناة الحبيب وشقاء الحبيبة، "الكلاش" والمعارك الفنية مع منافسيه، الدخول في سجالات إعلامية، بل حتى ظهوره في غير أعمال فنية أصبح نادرًا. وبات، في المقابل، يركز على أغان لها أبعاد فلسفية وقضايا كونية منفتحة على مختلف الأذواق، تعرض أزمات اجتماعية لا تخص فقط الجمهور التونسي، وذلك عبر التزامه برسائل هادفة لا هي بعيدة عن الواقع فتشوهه ولا هي قريبة منه فتسطحه.
كلمات الأغنية كانت تحيلنا إلى عشرية كاملة عاشتها تونس في ظل التخبط والوصولية والوعود الكاذبة والقرارات التي وإن جاءت إما في غير وقتها أو لخدمة لن يستفيد منها الشعب بشيء
وهنا تبدو رمزية الفن، بعيدًا عن العبارات الفجة، ولا نتحدث عن أخلقة الفن، بل إعادة تمثله بما يخدمه ويخدم الجمهور المتقبل لرسالته. وهو ما انعكس إيجابيًّا على الجمهور، ما جعله في صدارة ترتيب المشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي وساهم في انتشاره مغاربيًّا وعربيًّا ثم عالميًّا.
"أنا" ليست أغنية بلطي الوحيدة في 2021، لكن ربما تكون هي أغنية العام لعدة أسباب منها الفنية ومنها الاجتماعية والفلسفية، لكن ربما أهمها أنها قدمت رؤية نقدية متسقة مع ما تعيشه البلاد من أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وعكست الواقع المعيش وكل ما يجول في خاطر التونسيين من أسئلة لا يملكون إجابة عنها، "ويني فلوس الإمارات؟" "شبيني لتوا ما ريت؟" "وينو اليورو يا ترى؟"..
صوت الأكورديون أضفى سحرًا على الأغنية، خاصة أنّه من النادر مشاهدة عازف يحمل هذه الآلة مع فنان راب في فيديو مصور بهذا الشكل، ربما تكون تكريمًا لصاحبها وقد تليها أعمال تحتفي بآلات لا نراها كثيرًا في أغاني الراب التونسية. لكن ما يلومه البعض على بلطي هو تواتر اللحن في أغان سابقة ما يطرح فكرة السرقة الأدبية، مع دعوات إلى الاجتهاد أكثر في اللحن والتفرد فيه.
لكن عمومًا تعد "أنا" من أجمل الأعمال التي قدمها بلطي في خفتها وعمقها وقدرتها على كسب احترام الجمهور وحتى منافسيه. صدرت الأغنية منذ أقل من شهرين وبلغت 19.5 مليون مشاهدة، بعد أغنية "يا حسرة" الاجتماعية التي تجاوزت عتبة 100 مليون مشاهدة. فيما تبقى أغنيته "يا ليلي" الأكثر مشاهدة على المستوى المحلي على موقع يوتيوب بـ733 مليون مشاهدة. وقد تخطت هذه الأغنية بكل ما حملته من معان كل التوقعات ليحجز بلطي لنفسه تذكرة في مصاف كبار فناني الراب.
اقرأ/ي أيضًا:
حصاد 2021 لرحلات اليمّ بين تونس وإيطاليا.. "تضحيات" في أرقام