مقال رأي
تربط بين كلمتي "التطبيل" والتطبيع صلة رحم صوتية تسمّى في البلاغة العربيّة القديمة جناسًا غير تام، إذ تتطابق المفردتان في كلّ الأصوات وتختلفان في الحرف الأخير، لكن لو أعدنا النظر كرّة ثانية وثالثة إلى هذين المصطلحين لانتهينا إلى تواطُؤِهما دلاليًا في الكشف عن أخطر ما تواجهه الأنظمة العربية بدرجات متفاوتة، فالتطبيع يفضي إلى تبييض الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه ومجازره ونزعته الاستيطانية، و"التطبيل" يساهم في تجميل تجاوزات المستبد ويصنع بينه وبين الشعب والواقع حِجابًا لا يقوّيه بقدر ما يجعله في عزلة.
التطبيع يفضي إلى تبييض الاحتلال وجرائمه و"التطبيل" يساهم في تجميل تجاوزات المستبد ويصنع بينه وبين الشعب والواقع حِجابًا لا يقوّيه بقدر ما يجعله في عزلة
هذه العزلة قد تدفع المستبدّ إلى التنازل عن الحكم معترفًا بعجزه منصتًا إلى صوت الشارع ونداء المواطنين، وقد تأخذه العزة بقوته وغطرسته فيدفع بالدكتاتورية إلى منتهاها شاهرًا آلته القمعيّة ضدّ فئة من معارضيه ترويعًا وسجنًا وتعذيبًا وتقتيلًا وتصفية وتهجيرًا، وقد يعمد إلى الاحتماء بالخارج قابلًا شروطه الماديّة والسياسية ومنها التفريط في السيادة الوطنية والثروات المحلية انتهاء إلى التطبيع، فيغدو الاستبداد حينئذ حتّى إن بناه صاحبه على فكر قومي أو أصولي مطيّة إلى التطبيع المعلن أو الخفي.
- معجم التزلّف للحكام.. "التطبيل والتزمير والتلحيس والتبندير"
كلمة "التطبيل" هي إحدى الترجمات في اللهجة العاميّة لكلمة "التملّق" وهي مصدر من فعل تملّق، وفي المعاجم العربيّة "تملّق رئيسَه أو تملق له أي تودّد إليه طمعًا فيه"، و"تملّق لفلان أي ليَّنَ كلامه وتذلّل وأبدى له بالودّ ما ليس فيه وداهنه وتضرّع له فوق ما ينبغي"، ومن مرادفات كلمة التملق المداهنة والمصانعة والتزلف.
ما ينبغي التنبه إليه في هذه المقدمة اللغوية أنّ التملق أو التطبيل كلمتان متمحِّضتان للمقام السياسي وبناء على ذلك فإن مجرّد مقارنتهما مع كلمة المجاملة أو الثناء كما جنح إلى ذلك أحد الباحثين يعدّ لونًا من ألوان الثرثرة والخروج عن السياق، فالمجاملة محلّها اجتماعي نفسي مهني تربوي تحفيزي. وما يؤكّد ذلك أنّ اللسان العربي قد قرن صراحة بين التملق والمرسل إليه (الرئيس) والمقصد (الطمع في الحصول على منفعة دون استحقاق).
التملّق/ "التطبيل" كما يتّضح هو شعبة من شعب الكذب والنفاق يكون في الغالب عموديًّا من الأسفل إلى الأعلى أي من العامّة والمثقفين والمفكرين والإعلاميين إلى الحكام والرؤساء وذوي السلطة والنفوذ.
هيمنت كلمة "التطبيل" في اللهجات العاميّة العربية خاصة في مصر لكن اللهجة التونسية قد بدت الأكثر احتفالًا بهذا المصطلح فأنشأت له مرادفات من قبيل "التبندير والتزمير"
ولئن هيمنت كلمة "التطبيل" في اللهجات العاميّة العربية خاصّة في مصر فإنّ اللهجة التونسية قد بدت الأكثر احتفالًا بهذا المصطلح فأنشأت له فضلًا عن كلمة التطبيل مرادفات من قبيل "التبندير والتزمير والتلحيس"، وهو نشاط لساني أبعد ما يكون عن التبذير اللغوي بقدر انطوائه على رفض لهذا السلوك وحرص على مواجهة هذا التيار الرجعي والتصدّي له بتكثيف النعوت والتسميات التي تستعمل غالبًا في محلّ الشتيمة.
ولقد تفنّن معارضو مسار الرئيس التونسي قيس سعيّد في الاستخفاف بأنصاره معتمدين مصطلح "تزمير" على سبيل السخرية والاتهام بالتزلف والتطبيل، وهي تهمة لم يسلم منها أنصار النهضة لمّا كانت شريكًا في الحكم حتّى أصبح مجرد تثمين ما يقوم به الحاكم في تونس بصرف النظر عن أدائه وخطابه ومرجعيته منزلقًا للالتحاق بقائمة المطبلين والمخبرين، هذه المواقف الصارمة من التقرب للرؤساء تغذيها متلازمة الخوف من شبهة "القواده" وسرديات عديدة حول "التبندير" منها حكايات الشعب الدستورية ووكالة الاتصال الخارجي وقصّة الأربعين ألف مخبر...
ومن المواضع المحرجة التي يقع فيها المتملق هو "التطبيل" بلا مقابل فقد تفطّن المتابع لاختيارات قيس سعيّد أنه لا يصغي إلى المتزلفين له فتراه ينصت إليهم أحيانًا ولكنه لا يبادلهم مدحًا بعطاء أحيانًا هذا ما جعل المعترضين على مسارات 25 جويلية يتخطون محطة السخرية والتهكم إلى مدار الشماتة في المطبلين والمزمرين.
- أصول التطبيل: المدونة الأدبية وبعض الرجعيات الدينية
"التطبيل"/ التزلف للحكام ظاهرة سلوكية رجعية بكل المقاييس الحضارية والثقافيّة والأخلاقية وهي أبعد ما تكون عن الحداثة والفكر النقدي والخطاب العلمي والتمشي التحليلي والحجاجي ولئن حفلت المدونة العربية القديمة بمختلف فنونها وأصنافها بهذا الخطاب فهذا لا يبرّر مواصلة النهج التبريريّ التمجيدي لاختيارات الحكام.
لا شكّ أنّ منحى تعديد المزايا والفضائل في الأدب يبدو مقبولاً، ويمكن أن تشفع لغرض المدح تلك الصور الشعريّة الطريفة المثيرة لما تتضمنه من تشبيه ذكية واستعارات أخاذة وما تنفتح عليه من رموز وحكم عميقة وكنايات وإيحاءات وخيالات مدهشة ، وما ولعنا بقصائد المتنبي رغم كرهنا التملق والمداهنة إلا آية على وعينا بالمسافة بين التقرب الفني للممدوح والتملق المفضوح للحكام، ومن يحتاج إلى التحقق من ذلك فليراجع مطلع ميمية أبي الطيب في تعديد فضائل سيف الدولة الحمداني منشدًا:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
"التطبيل"/ التزلف للحكام ظاهرة سلوكية رجعية بكل المقاييس الحضارية والثقافيّة والأخلاقية وهي أبعد ما تكون عن الحداثة والفكر النقدي والخطاب العلمي والتمشي التحليلي والحجاجي"
فقد بدت مقدمات العديد من الكتب والدواوين القديمة مُنفرة لما احتوت عليه من تعديد لمناقب الحكام تعديداً يكاد يدرك مرتبة التأليه، وقد تفطّن المفكر حسن حنفي في الجزء الأول من كتابة "من العقيدة إلى الثورة" إلى هذا التناغم بين لغة التقرب لله والتقرب للملوك والسلاطين في التاريخ الإسلامي، قائلًا "تبدأ المقدمات الإيمانية بتنزيه الله تنزيهًا مطلقًا.. فهو يملك كل شيء ويقدر على كلّ شيء لا معقب على قراراته وأوامره...ومن ثمّ ، يضيف حنفي، " كان من السهل الانتقال من السلطان الديني إلى السلطان السياسي ومن الحمد لله إلى الحمد للسلطان ومن الثناء على الله إلى الثناء على السلطان ومن طلب العون والمغفرة من الله إلى طلبهما من السلطان لأنّ التكوين النفسي للطالبِ واحد".
على هذا النحو يمكن القول إن "التطبيل" ليس مجرد تزلف للحكام طمعًا في مال أو جاه فحسب إنما هو بنية عقلية و ثقافة سلوكية تنطوي عن شعور دفين بالعجز والتسليم مما يجعل المرء في مرتبة المتسول يفوّض أمره لله في البداية ثمّ وبسبب الخلط والتلبيس سرعان ما يفوّض مصيره الاجتماعي والسياسي للحاكم الملهم أو العبقريّ أو المعصوم في نظام أوتوقراطي أو تييوقراطي ما يمثل المهاد الأمثل للرجعية والتخلف والجهل والفساد.
- "التطبيل" فساد محض
التطبيل فساد محض ولا مبرر له، ولكن لسائل أن يسأل ماذا إن كان الحاكم عادلًا حكيمًا طاهرًا، الإجابة في إيجاز إن كان كذاك فذاك واجبه ولا شكرًا على واجب، وإن لم يكن كذلك فإن ذكر فضائل ليست فيه يتخطى التطبيل إلى التزوير، وهو ما يرقى إلى مرتبة الجريمة التي لا نجد لها سندًا قانونيّا لكن لها مسانيد أخلاقية واجتماعية.
أكاد أقول إن ما عانته الأمة العربية من مخلفات "التطبيل" تجعلنا نتطلع على سبيل الحلم والمجاز إلى نصّ قانوني يجرم هذا السلوك ويدرجه ضمن خانة الأخبار الزائفة المراد منها التضليل
إنّ هذا الضرب من التطبيل في رأيي لجريمة لا تسقط بالتقادم إذ تظل عالقة في الأذهان والمدونات المكتوبة والشفوية، ولا يمكن أن يمحوها المرء لا سيما المفكر والعالم والأكاديمي والمثقف إلا بالتوبة عن التطبيل والتزوير بأن يلزم الضوابط النقدية الصارمة موقفًا وتحليلًا وتقييمًا، أكاد أقول إن ماعانته الأمة العربية من مخلفات "التطبيل" تجعلنا نتطلع على سبيل الحلم والمجاز إلى نصّ قانوني يجرم هذا السلوك ويدرجه ضمن خانة الأخبار الزائفة المراد منها التضليل والدفع نحو اختيارات خاطئة فاسدة تتعارض مع مصلحة الوطن العليا.
الحاكم الصالح لا يحتاج منا في رأيي غير مساندته العملية في إنقاذ الوطن وحمايته ورقيه، ولا يكون ذلك إلا عبر المواطنة وأخلاق الواجب والخطاب النقدي النير المراهن على الأفكار المترفع عن التشخيص والمغالطات.
التطبيل فساد محض لأن الذي يمتهنه بحرفية قادر على دفع البلاد إلى الهاوية، ففي سبيل مطامعه لا يساهم فقط في تزيين أخطاء الحاكم وتزوير الواقع إنما يساهم في نشر لغة سياسية إنشائية مبتذلة سطحية خالية من المضامين والخطط والبرامج مفتقرة إلى الحجج المتينة والإحصائيات الدقيقة والمقارنات الموضوعية والنتائج الصائبة والتوصيات المفيدة.
"التطبيل" فساد محض لأنه يدفع الحاكم دفعًا إلى أجواء موبوءة بالأكاذيب والدسائس فيختلط عليه الأمر
التطبيل فساد محض لأنه يدفع الحاكم دفعًا إلى أجواء موبوءة بالأكاذيب والدسائس، فيختلط عليه الأمر، ويأخذ منه ذلك طاقة كبرى للتحقق من صدقية الأخبار والتقارير وجهدًا جهيدًا للتمعن في الملفات المزيفة تجميلاً أو تقبيحًا، وكان يفترض أن يتجه التركيز الأوفر إلى الفصل في جدوى البرامج المقترحة وأكثرها نجاعة وأقربها إلى التحقق بأقل التكاليف في سبيل بلوغ ما يصبو إليه المواطن من حياة تتوفر فيها شروط الاستقرار والسلامة والكسب والإبداع.
- التطبيل و"تجارة السخط" وجهان لعملة واحدة
"المطبلون" والمتملقون فئة من العامة والمثقفين لا تقل خطورتهم على مستقبل الوطن من "تجار السخط" هؤلاء الذين " لا يعجبهم العجب"، هم يقتاتون من تضخيم العيوب وافتعال القضايا والإشكاليات، وعلى هذا النحو يحصل التواطؤ بينهم وبين المزمرين المطبلين فكلاهم يدفع نحو الإعراض عن الواقع وتزييف الحقائق ممّا يقتضي جهدًا إضافيًا للإيضاح والتصويب.
الحاكم يمكن أن يكون فريسة للمطبلين أو لتجار السخط، هؤلاء يمارسون عليه ابتزازًا ناعمًا يدفعه إلى مجاملتهم وأولئك يسلطون عليه ابتزازًا عنيفًا قد يحمله إلى مساومتهم
الحاكم يمكن أن يكون فريسة للمطبلين أو لتجار السخط، هؤلاء يمارسون عليه ابتزازا ناعما يدفعه إلى مجاملتهم وأولئك يسلطون عليه ابتزازًا عنيفًا قد يحمله إلى مساومتهم وشراء صمتهم.
لكن التاريخ السياسيّ العربي يكشف لنا أن المشهد يمكن أن يدرك درجة أكثر تعقيدًا في ظلّ نظام يُحكم توظيف المطبلين وتجار السخط والعبث بهم معًا، أمّا تخلّصه من المتملقين فهو أمر هين يكفي أن يتركهم لقمة للرأي العام والبرامج الساخرة، وأمّا نقمته من تجار السخط فتكون عبر مساومتهم سرًّا وتقريبهم علنًا ثم توريطهم في مواقف وتصريحات تساند النظام وتعادي خصومه معاداة حادّة عنيفة، ثم التخلي عنهم وتركهم عراة وقد فقدوا كل أسلحتهم السلطوية والاعتبارية وحينما يعودون إلى خطّ المعارضة لا يجدون من يستأمنهم. حينئذ لا عزاء لهم غير الزهد في السياسة تكفيرًا عن الجمع بين خطيئتي التطبيل وتجارة السخط.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"