28-فبراير-2023
جبهة الخلاص

"الحراك المواطني في مواجهة الانقلاب هو هذه النخبة الكفاحية ولها إسهامها في ترشيد الخطاب السياسي والدفاع عن الديمقراطية واستعادة مسارها"

مقال رأي 

 

  • السياسة شأن النخبة

اعتبار السياسة بما هي قيادة في الدولة والمؤسسات والأحزاب والمنظمات شأن النخبة ليس قولاً نخبويًا بقدر ما هو إقرار بحقائق متواترة تشهد لها التجربة.

والثورات السياسية والاجتماعية التي تعرفها المجتمعات تكون في أول أمرها فكرة تنطلق من النخبة. ومن دائرة ضيّقة من الأفراد قد تكون حزبًا أو منظمة أو فئة اجتماعية، وعندما تتوفر لها أسباب الانتشار تصبح رأيًا عامًا ثم حركة احتجاجية تهدف إلى التغيير. وتنسب نتائجها السياسية، في حالة النجاح، إلى "الشعب الثائر" و"الجماهير الهادرة" التي يكون منها أغلب الشهداء والضحايا.

يؤسس الخطاب الشعبوي مقابلته الحادّة بين "نخبة خائنة" و"شعب خيّر"، وينصّب زعامته الملهمة ناطقًا وحيدًا باسم الشعب والحقيقة

ولكن عند نهاية "الحدث الثوري" والمرور إلى مأسسة الفكرة التي من أجلها قامت الثورة يعود الأمر مجددًا إلى النخبة. فالنخب هي التي تقود الوضع الجديد عبر البرامج والائتلافات والتوافقات والتسويات. وتكون أولى الخيبات كافية لانبثاق خطاب يحمّل النخبة المسؤولية. وهذا مفهوم في جانب منه وقد يكون دافعًا للنخبة إلى المراجعات الضرورية وتفادي الأخطاء وتحقيق الإصلاحات المطلوبة. ويكون العجز عن التدارك سببًا كافيًا لاتهام نهائي للنخبة. وهذا ما عشناه في عشرية الانتقال.

ولكن أخطر إدانة للنخبة ومحاولة نسف دورها كانت من الانقلاب الشعبوي في 25 جويلية/ يوليو 2021 الذي استثمر في صراعات النخبة وقصور أدائها عن المنجز السياسي الاجتماعي. فمن بين ما يؤسس الخطاب الشعبوي مقابلته الحادّة بين "نخبة خائنة" و"شعب خيّر"، وينصّب زعامته الملهمة ناطقًا وحيدًا باسم الشعب والحقيقة. ويبني مبرراته لمصادرة الحرية والتعدد وشطب كل ما أنجز على أخطاء النخبة والطبقة السياسية.

الشعبوية تدين "النخبة المتعدّدة" لتُحلّ محلها "النخبة القطيع" التي لا وظيفة لها إلاّ ترسيخ سلطة الفرد باسم "تفويض متخيّل" لا رصيد له في الواقع

فقيس سعيّد صار رئيسًا للجمهورية بفضل ما أتاحه دستور الثورة والمؤسسات التي انبثقت عنه في عشرية الانتقال. لكنه مزّق الدستور بعد أن أقسم على احترامه والسهر، على رعاية أحكامه، وهدم المؤسسات الدستورية في السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية بحلّ البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء والحكومة وما تمّ بناؤه من هيئات دستورية وتعديلية.

وهو في ذلك لا يخرج عن روح الشعبوية الانقلابية التي تدين "النخبة المتعدّدة" لتُحلّ محلها "النخبة القطيع" التي لا وظيفة لها إلاّ ترسيخ سلطة الفرد باسم "تفويض متخيّل" لا رصيد له في الواقع. وهو ما شهدت عليه مواعيد الانقلاب الانتخابية بما عرفته من عزوف ومقاطعة واسعين.

 

 

  • أمل لا ينقطع

داخل النخبة بمعناها الواسع يمكن أن نميّز ما نسميّه "النخبة الكفاحية". وهي فئة صهرتها عشريات النضال ضد الاستبداد واستبسلت في الدفاع عن الحقوق والحريات، ونحتت نهجَها التحرري مساراتُ الكفاح السياسي من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية رغم السجون وسياسات التجويع والتنكيل والتهجير.

الشعبوية شغوفة بالتسطيح والهروب من تركيب الواقع وتعقيده والقفز عليه، والاستعاضة عن التعاطي معه بخطاب هلامي تحتاجه كلما ازدادت خيباتها في مواجهة الأزمة المركبة

هذه النخبة هي النواة الصلبة للمشروع الوطني والدولة المدنية والحداثة السياسية، وقد غطّى على حقيقتها ودورها تعثّر عشرية الانتقال (وإن كانت تتحمّل جانًبا من أسباب فشله)، وشيطنها خطاب الشعبوية العاميّة المنقلبة الذي يقوم على تعارض حاد بين "نخبة خائنة" و"شعب خيّر ". وكلا المفهومين "صورة متخيّلة" لا رصيد لها في الواقع. فلا النخبة فئة متجانسة ولا الشعب حقيقة واحدة.

ولكن الشعبوية العاميّة شغوفة بالتسطيح والهروب من تركيب الواقع وتعقيده والقفز عليه، والاستعاضة عن التعاطي معه بخطاب هلامي تحتاجه كلما ازدادت خيباتها في مواجهة الأزمة المركبة. في هذا السياق برّرت انقلابها على الديمقراطية تحت عنوان "تصحيح المسار". فحوّلت الأزمة المالية الاقتصادية إلى نكبة وطنية والبلاد إلى سجن للنخبة ولكلّ من أعلن تمسّكه بالديمقراطية ومؤسّساتها والحياة السياسية الجديدة.

حوّلت الشعبوية الأزمة المالية الاقتصادية إلى نكبة وطنية والبلاد إلى سجن للنخبة ولكلّ من أعلن تمسّكه بالديمقراطية ومؤسّساتها

وميزة هذه النخبة الكفاحيّة قدرتُها على بناء المشتركات والبرامج الجامعة، رغم ضعف تمثيليتها داخل النخبة الواسعة التي استغرقتها مشاغلها الخاصة وطموحاتها الشخصية في عشرية الانتقال. وألهاها تعدّد مرجعياتها الفكرية ومنابتها الإيديولوجية.

وكان الحراك المواطني في مواجهة الانقلاب وما عرفه من مراحل مثيرة من السياقات السياسية المهمة التي أخرجت إلى السطح هذه النخبة الكفاحية وأبانت عن أهمية إسهامها في ترشيد الخطاب السياسي ودورها في بناء الرؤية السياسية وأولوية الدفاع عن الديمقراطية واستعادة مسارها.

 

 

  • سياسة خلط الأوراق

تُستهدف هذه النخبة الكفاحية اليوم لما تمثله من قوة فاعلة في مواجهة الشعبوية سياسيًا وميدانيًا. وكان تعدّدها وتنوّع تشبيكها وانفتاح علاقات أفرادها على أوسع الفاعلين بفضل عشرية الحريّة مدخلًا للطعن في نزاهتها ومصداقيتها السياسية والإمعان في شيطنتها من قبل سلطة الانقلاب التي اعتمدت سياسة خلط الأوراق وتلفيق التهم السخيفة والقضايا المصطنعة للتخلّص من خصم نجح أخيرًا ، رغم كل الصعوبات، في بناء مبادئ أولى بالالتقاء على أولوية إنقاذ الدولة واستئناف بناء الديمقراطية.

من الصعوبات التي تواجه النخبة في تونس تحميلها المسؤولية الكاملة عن تعثر عشرية الانتقال فطغت جملة "نكبتنا في نخبتنا" دون تمييز بين الأدوار والمواقف والمواقع

ومن الصعوبات التي تواجه هذه النخبة صعوبتان تتمثّل الأولى في تحميلها المسؤولية الكاملة عن تعثر عشرية الانتقال. فطغت جملة "نكبتنا في نخبتنا" دون تمييز بين الأدوار والمواقف والمواقع. وكان للتداخل والتخارج في الصراع بين القديم والقوى الجديدة وما بُني من توافقات وتسويات معظمها تمّ بشروط القديم نتائجُه الأخلاقية والسياسية الكارثية على منزلة النخبة بمعناها الواسع، وساهم في ظهور شروخ وانقسامات داخلها جعلت من بعض تعبيراتها "قوى وظيفية" طعنت بالأمس في جدوى الانتقال الديمقراطي، وتسند اليوم الانقلاب على المسار وتتحمّس لشطب ما أمكن بناؤه من مؤسسات دستورية.

ويمثّل بعضها اليوم لسان حال الانقلاب متدرّعًا بخطاب سيادوي بلا أساس. خطاب يجتهد في التغطية على منحى الانقلاب الاستبدادي وتمثيلية 25 جويلية لمصالح النظام القديم بأجنحته المتصارعة واندراجه ضمن مسار الثورة المضادة وامتداداتها إقليميًا ودوليًا.

ويواجه النخبة الكفاحية المنتصرة للديمقراطية والحداثة السياسية صعوبات أخرى، منها التجريف المتواصل لشروط الحرية وأسباب المشاركة السياسية الحرة من خلال استهداف متقدّم للقضاء، وقمع القادة السياسيين والشخصيات الوطنية بالاعتقال والملاحقة، والتضييق على الإعلام.

هناك إقحام لما هو محسوب على القديم ولوبياته ضمن ما يُقال إنها "مؤامرة" الديمقراطيين على أمن الدولة، بما يفسح المجال لأصحاب الخطاب "الوطنجي" المبني على إخفاقات مسار الانتقال لتحقيق التلبيس المطلوب

ومن الصعوبات أيضًا ما يمكن أن نسميه "تكافؤ الأدلة" في الصراع المحتدم بين الديمقراطية وخصومها. وهو تكافؤ يؤسسه تعقّد المشهد السياسي وتركيبه في جهتي الصراع. فلا أنصار الديمقراطية قوة متجانسة ولا أنصار الانقلاب على مستوى واحد، رغم الفارق الأخلاقي بين الخطأ والخطيئة. وفي هذا السياق يأتي إقحام من هو محسوب على القديم ولوبياته ضمن "مؤامرة" الديمقراطيين على أمن الدولة، ويفسح المجال لأصحاب الخطاب "الوطنجي" المبني على إخفاقات مسار الانتقال لتحقيق التلبيس المطلوب وإبرازهم وجوهًا "وطنية" للنظام الجديد، وقد كانوا جزءًا من الانتقال وأكثر المستفيدين من أطواره.

ورغم التعقّد والتركيب في المشهد، وسياسة خلط الأوراق والتلبيس فإنّ عنوان الصراع الرئيسي لا يزال بين الانقلاب والديمقراطية، ولم تنجح كل المحاولات في جعل الانقلاب على الديمقراطي الحاصل مسارَ تصحيح.

وهو ما يعني أن الفرز على قاعدة الديمقراطية يبقى القانون الأساسي في مشهد سياسي معقّد. وما يجعل من قوس الانقلاب فاصلًا صغيًرا في مسار الانتقال الديمقراطي الشاقّ. فالأمل باق ما بقيت نخبة تؤمن بالحرية وتجتهد في تأسيسها وفي أن الديمقراطية أساس كل رفاه وعدالة وسيادة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"