28-فبراير-2023
 قيس سعيّد مع وزيرة العدل ورئيسة الوزراء

""السردية السياسية واضحة فيما يحصل في الأسابيع الأخيرة، هي السياسة إذًا وليست المحاسبة

مقال رأي 

 

غبار كثيف الأسابيع الأخيرة في تونس بعد حالة ركود إثر الفشل السياسي للانتخابات التشريعية بسبب نسب المشاركة الضعيفة وتأجيل اتفاق صندوق النقد الدولي. التسريبات المتوفرة على خلفية الأبحاث المتعلقة بموجة الإيقافات الأخيرة توفر بعض المعطيات ولو أن ذلك لا يعود لمصادر رسمية، باستثناء خطابات الرئيس قيس سعيّد وهي الأهم في رأيي لتوضيح مغزى الإيقافات.

هذا الغبار الكثيف الذي أثارته الإيقافات، هل يحيلنا نحو انطلاق "المحاسبة" أم هو أساسًا يتنزل في سياق حاجة من رئيس شعبوي لا يمكن أن يعيش دون حزام تعاطف شعبي متجدد، يتغذى من حالة نقمة عميقة ضد النخبة؟

تأتي الإيقافات أيضًا على خلفية تصريحات الرئيس حول الأفارقة جنوب الصحراء والتي أدت إلى تعكر العلاقات بين السلطات التونسية ودول جنوب الصحراء، تجسمت في بيان من منظمة الوحدة الإفريقية يتهم فيه تونس بسبب تصريحات الرئيس بأنها عنصرية.

 

 

هذا الغبار الكثيف الذي أثارته الإيقافات والتصريحات، هل يحيلنا نحو إعلان الرئيس بعد الانتخابات من ثكنة الحرس الوطني لانطلاق "المحاسبة" أم هو أساسًا يتنزل في سياق حاجة سياسية من رئيس شعبوي لا يمكن أن يعيش دون حزام تعاطف شعبي متجدد، يتغذى من حالة نقمة عميقة ضد النخبة السياسية؟

أيضًا هل نتجه إلى حالة تسلطية شاملة عبر مسار "حلزوني" للإيقافات وقمع أي تعبير حر (يتسع ليشمل مجموعات وعائلات سياسية وفئوية متزايدة) أم هي "وجبة" للاستهلاك العام ستنتهي بحالات سراح تغذي مؤقتًا حاجة الشعبوية للبقاء في نظام مزدوج نصف تسلطي؟ في المحصلة ما هي السردية السياسية داخل ثنايا القضايا المثارة؟

تترك تسريبات محاضر التحقيق لدي انطباعًا واضحًا أننا لسنا إزاء عناصر خطة للانقلاب، لا يوجد في القضية أي متهم من الأجهزة الحاملة للسلاح ولا توجد محاولة اتصال بقيادات عاملة الآن في الأجهزة الحاملة للسلاح

أولًا، تترك تسريبات محاضر التحقيق لدي انطباعًا واضحًا أننا لسنا إزاء عناصر خطة للانقلاب حتى الطبي الذي أشرت إليه سابقًا. لا يوجد في القضية أي متهم من الأجهزة الحاملة للسلاح. لا يوجد في القضية أي محاولة اتصال بقيادات عاملة الآن في الأجهزة الحاملة للسلاح. باستثناء إشارة أحد الموقوفين إلى ضرورة "فتح باب التفاوض مع الجيش" لا يوجد أي إشارة إلى نية بقية الموقوفين من السياسيين على الأقل للاتصال بأي قيادات حاملة للسلاح.

الحاصل أن تصريحات بعض المحسوبين على المعارضة خاصة أحد نواب النهضة المقيم في الخارج بشر الشابي، الذي طالب في مراسلة علنية لمساءلة الملف الطبي للرئيس، وتصريحات قيادات سياسية قريبة أيضًا من حركة النهضة لتدخل القوات الحاملة للسلاح، وهو سلوك غبي مثلما أشرت إليه سابقًا إذ أنه لا يتم تحضير انقلاب في البلاتوهات الإعلامية وإن قامت بذلك الأجهزة الحاملة للسلاح فإنها لن تهديه لقيادات سياسية، أثارت الأرجح شكوك الرئيس العميقة أساسًا والتي تشبه أصلًا حالة البارانويا. على هذه الأسس لا توجد في ثنايا الملفات أركان اتهام جدي حتى الآن بتهديد أمن الدولة.

 

 

ثانيًا، نحن إزاء مجموعتين سياسيين وهم يسعون إلى بناء جبهة معارضة أوسع مما هو الحال الآن، إضافة إلى أصحاب مصالح متمرسين في "اللوبيينغ" الخفي.

الموقوفون بخلفيات سياسية واضحة يشتركون في توجه لإقامة "مؤتمر حوار وطني" ينسق بينهم خيّام التركي، في سياق توسيع مجال "جبهة الخلاص الوطني" المتمركزة حول حركة النهضة. هذه المجموعة قامت بوضوح باتصالات مكثفة في الفترة الأخيرة تزامنت مع تراجع سياسي لقيس سعيّد، واستطاعت ضم شخصيات كانت في خلاف مع النهضة.

الموقوفون بخلفيات سياسية واضحة يشتركون في توجه لإقامة "مؤتمر حوار وطني" ينسق بينهم خيّام التركي، في سياق توسيع مجال "جبهة الخلاص الوطني".. كل هذا لا يمكن تجريمه، هو عمل معارضة سياسية طبيعي

هذه المجموعة أيضًا قامت باتصالات مكثفة مع مسؤولين ديبلوماسيين خاصة أمريكيين وأوروبيين. كل هذا لا يمكن تجريمه، هو عمل معارضة سياسية طبيعي حتى لو رفض البعض تنسيق المعارضة في شؤون داخلية مع أطراف أجنبية على أسس مبدئية. في كل الحالات إذا قامت القضية على اتصالات مع أطراف دبلوماسية فإنها ستضطر إلى صدام مع أطراف دولية وازنة، وهو في ذاته مأزق لمن يقوم بهندسة الأبحاث.

المجموعة الثانية تتركز حول كمال اللطيف، وهنا يتم استعمال شهود "مخفيين" (أصبحوا معلومين من قبل المحامين على الأقل) بعضهم قريب منه والبعض خصم له. وهنا تم ربط كمال اللطيّف بالاسم المثير للجدل الفرنسي الموالي لإسرائيل برنار هنري ليفي. اللطيّف صاحب الخبرة في الانقلاب الطبي والخبرة في الاختراق والتأثير في الأجهزة الحاملة للسلاح يمثل رمزًا لنظرية المؤامرة. من غير الواضح إن قام حتى الآن بأي اعترافات أو تأكيد لما ورد في شهادات المخبرين ضده، أو توفرت للقاضي أي قرائن أو أدلة أخرى على ذلك. لكن عددًا واسعًا من التونسيين مهيئون أصلًا بسبب ماضيه لتقبل سردية تضعه في قلب أي مؤامرة.

جزء مهم من التونسيين جاهز أصلًا، بسبب ماضي رجل الأعمال كمال اللطيّف، لتقبل سردية تضعه في قلب أي مؤامرة

 

 

ثالثًا، نحن إزاء عناصر سردية سياسية عامة في خطب الرئيس وتدخلاته وتوجه الإيقافات والعناصر الأساسية المضمنة في نصوص الأبحاث، تقوم أساسًا على أن تونس والتونسيين في مواجهة مؤامرة شاملة على أمن الدولة السياسي والغذائي من قبل أطراف داخلية (نخبة سياسية وأصحاب مصالح) ودول وازنة غربية أساسًا وأيضًا أفارقة جنوب الصحراء.

الرئيس قيس سعيّد الذي لم يمس إلى الآن منظومة اقتصاد الريع المسؤولة منذ عقود على تعطيل التنمية والذي لم يقدر حتى الآن على حل معضلات فنية بسيطة في خصوص توفير بعض السلع والذي يواجه مصاعب مالية جدية بسبب نقص العملة الصعبة وتأخر أي تمويلات مالية خاصة بعد تأخر الإمضاء على الاتفاق النهائي لصندوق النقد الدولي، يحتاج بكل تأكيد إلى نظرية مؤامرة من هذا النوع لمواجهة هذا الكم من المشاكل.

قيس سعيّد الذي لم يمس إلى الآن منظومة اقتصاد الريع المسؤولة منذ عقود على تعطيل التنمية ولم يقدر حتى الآن على حل معضلات فنية بسيطة في خصوص توفير بعض السلع، يحتاج بكل تأكيد إلى نظرية مؤامرة من هذا النوع لمواجهة هذا الكم من المشاكل

للإشارة يمكن ملاحظة أن هذه السردية السياسية تعكس تأثيرات واضحة "لخط تحريري جزائري"، بالتركيز على دور فرنسي وخاصة هنري ليفي الحاضر عمومًا في السرديات المؤامراتية الجزائرية، إضافة إلى موضوع أفارقة جنوب الصحراء وموضوع الهجرة غير النظامية ونظرية التوطين. لا يعني ذلك أن ما يحصل بإيعاز وتحريض جزائري، خاصة أن بعض الموقوفين الأساسيين معروفون بعلاقات قوية مع أوساط جزائرية.

بل الأرجح ناتج عن تلاقي مصلحي ورغبة جزائرية في جعل تونس متأثرة بالتوجهات الجزائرية في الإقليم، أو حتى ورقة في سياساتها الدولية في سياق تشهد فيه العلاقات الجزائرية الفرنسية تأزمًا كبيرًا، وبعض التأزم حدث على الأراضي التونسية على خلفية تهريب معارضة جزائرية (أميرة بوراوي) تحت غطاء دبلوماسي فرنسي.

سردية قيس سعيّد تعكس تأثيرات واضحة "لخط تحريري جزائري"، بالتركيز على دور فرنسي وخاصة هنري ليفي الحاضر عمومًا في السرديات المؤامراتية الجزائرية، إضافة إلى موضوع أفارقة جنوب الصحراء وموضوع الهجرة غير النظامية ونظرية التوطين

للتذكير الأزمة بين باريس والجزائر حدثت قبل أيام قليلة من انطلاق الإيقافات يوم 11 فيفري/شباط الجاري. لقاء الرئيس مع وزيرة العدل يوم 10 فيفري/شباط أدى إلى بدء تعهد النيابة العمومية، ومن الأرجح، وفق ما نشره المحامون، أن قرائن محاضر البحث (خاصة محادثات الواتساب، وشهادات المخبرين) تم تجميعها بعد الإيقافات وليس قبلها. ما كان متوفرًا قبل ذلك فقط صور للقاءات وتسجيل معطيات السيارات التي تزور هذا المنزل أو ذاك.

 

 

رابعًا، الإيقافات التي تحولت إلى بطاقات إيداع في السجن، يمكن أن يستمر الحبس فيها إلى ما يفوق السنة مع تأجيل المحاكمة وتطويلها خاصة إن لم تتوفر قرائن وأدلة قوية أو إن كانت سردية الأبحاث السياسية ستؤدي إلى أزمة ديبلوماسية مع أطراف غربية وازنة.

السردية السياسية التي وجدت رواجًا واسعًا في وسائل التواصل الاجتماعي ستكون المحاكمة الفعلية التي سترسخ في أذهان الناس وتخدم الخطاب المؤامراتي للرئيس

في كل الحالات السردية السياسية التي وجدت رواجًا واسعًا في وسائل التواصل الاجتماعي ستكون المحاكمة الفعلية التي سترسخ في أذهان الناس وتخدم الخطاب المؤامراتي للرئيس. أيضًا هناك احتمال لموجات إيقافات أخرى تشمل حلقات سياسية أخرى سواء حول مبادرة اتحاد الشغل خاصة في سياق المواجهة المتصاعدة بين الرئيس وقيادة الاتحاد، وعلى ضوء إضرابات قطاعات مختلفة خاصة التعليم، منتصف شهر مارس/آذار. سيكون ذلك أكثر احتمالاً كلما تزايدت الصعوبات المالية والاقتصادية في البلاد عمومًا على ضوء تضخم متزايد يسبق شهر رمضان. لكن إن تم السيطرة على الوضع المالي وأيضًا تم إمضاء اتفاق صندوق النقد الدولي قبل حلول الصيف فيمكن أن تتراجع موجة الإيقافات.

أخيرًا، ربما بعض ما يحصل يشفي غليل عديد التونسيين ضد نخبة فشلت في تحقيق الانتقال الديمقراطي وإصلاح أوضاع البلاد. بعض الغليل عن حق خاصة في خصوص أصحاب المصالح و"اللوبيينغ" واختراق الأجهزة، وبعضه ربما عن باطل إذ لم يشارك بعض الموقوفين في الحكم أصلاً (عصام الشابي)، وإن شاركوا (غازي الشواشي) تم إسقاطهم بسرعة من قبل خصومهم القابعين في المعارضة الآن.

هناك احتمال لموجات إيقافات أخرى تشمل حلقات سياسية أخرى سواء حول مبادرة اتحاد الشغل أو غيرها، سيكون ذلك أكثر احتمالاً كلما تزايدت الصعوبات المالية والاقتصادية في البلاد

لكن السردية السياسية واضحة فيما يحصل في الأسابيع الأخيرة. السياسة وليست المحاسبة، وتحديدًا دفاع الرئيس عن سلطاته هو المحرك الأساسي لما يحصل. حتى الآن يحظى ما يقوم به بمقبولية لدى الكثيرين وسط حالة هستيريا عامة انتقلت في حالة الأفارقة جنوب الصحراء من وسائل التواصل الاجتماعي إلى حالات اعتداءات حقيقية.

وساهم الصمت الرسمي في خصوص الإيقافات في تغذية روايات مؤامراتية يتم استهلاكها وترويجها على نطاق واسع خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي تثير شهية صانعي الدراما الرمضانية الضحلة. نحن إزاء سياق يصعب السيطرة عليه. ويمكن أن ينقلب بسهولة إلى حالة تسلطية شاملة والأسوأ إلى تطبيع مع العنف وإشاعة له.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"