شهدت الدراما التونسية سنوات ما بعد الثورة تطورًا لافتًا في عدد الإنتاجات الدرامية كمًا ونوعًا، وهو تغّير عزّزه ارتفاع عدد القنوات الخاصة التي باتت تتنافس فيما بينها على إنتاج مسلسلات تشدّ أكبر عدد من المشاهدين وتجذب أكثر ما يمكن من المستشهرين. لكن ظلت هذه الإنتاجات، رغم تعدد القنوات، موسمية مرتبطة أساسًا بشهر الصيام.
ويشير النقاد والمشاهدون، في الأثناء، إلى تكرر أسماء ممثلين في أداء أدوار معينة في المسلسلات أو تغيب ممثلين أخرين لأنّ السيناريوهات لم تتضمّن أدوارًا بعينها تعودنا على إسنادها لهم. إذ يُلاحظ تقمص بعض الممثلين لأدوار نكاد لا نراهم في غيرها، أو لا نتوقع نجاحهم دونها، بل هي أدوار باتت تمنح لممثلين دون سواهم. فهل هو خيار الممثلين أم المخرجين؟
ظلت الأدوار النمطية المصاحبة لمسيرة بعض الممثلين علامة بارزة في الدراما التونسية
من المعلوم أنّ الممثل عادة لا يحدد طبيعة دوره أو مساحته، فقد تراه ظالمًا في دور وعادلًا في آخر، وقد يكون شخصية ثانوية في مسلسل بينما تراه شخصية محورية في مسلسل آخر، وأفضل الممثلين هم من أثبتوا قدرتهم على تقمص أدوار مختلفة وأداء شخصيات مختلفة بإتقان. ولكن ظلت الأدوار النمطية المصاحبة لمسيرة بعض الممثلين علامة بارزة في الدراما التونسية عبر أداء أدوار متشابهة مع تغيرات طفيفة فيما بينها على غرار الشكل أو الاسم.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تناولت الدراما التونسية الأمراض النفسية؟
ويرجع بعض النقاد هذا التنميط إلى براعة الممثل في أداء ذلك الدور دون نفي قدرته على إتقان أدوار أخرى، فيما يرجّح البعض الآخر ذلك إلى قلّة الأعمال الدرامية فيما يشدّد آخرون على خيار المخرجين في الدراما التونسية إعطاء أدوار معينة لممثلين مشهورين يعرفهم الجمهور العريض وخبرهم في إتقان هذه الأدوار بعيدًا عن المجازفة.
أمثلة لأدوار نمطية
يوجد في سجل الممثلة نعيمة الجاني عدة أعمال درامية ناجحة على غرار "الخطّاب على الباب"، و"منامة عروسية"، و"حسابات وعقابات"، و"كمنجة سلامة"، و"دار الوزير" إضافة للسلسلة الهزلية "شوفلي حلّ"، لكن المتابع لأدوارها في جلّ هذه الأعمال يلاحظ أنّها لم تخرج عن دور الخادمة الريفية أو المرأة الريفية بصفة عامة.
هو دور نمطي أتقنته حتى لا يتخيّل البعض ممثلة أخرى تؤدي الدور مكانها، ولكن ظل يرتبط اسم الجاني في الدراما التونسية أساسًا بأداء هذا الدور مقابل ندرة تجسيدها لأدوار مغايرة.
بدورها، يكاد لا يستذكر المشاهد التونسي الممثلة دليلة المفتاحي إلا في دور الأم من وسط شعبي أو ريفي التي تعيش مأساة أو معاناة، على غرار أدوارها في مسلسلات "صيد الريم" و"نجوم الليل و"شورّب" وآخرها "قلب الذيب".
لا يستذكر المشاهد الممثلة دليلة المفتاحي إلا في دور الأم من وسط شعبي أو ريفي
نفس الأمر بالنسبة للممثل محمد قريع الذي تألق في عدّة أعمال درامية ناجحة على غرار مسلسلات "حسابات وعقابات"، و"عودة المنيار" و"بين الثنايا" عدا عن مشاركته كضيف في "شوفلي حلّ"، وقد أدى، في جلّ هذه الأعمال، دور الشاب الريفي الدرويش البسيط الذي يرعى الأغنام عادة.
اقرأ/ي أيضًا: صورة "البوليس" في الدراما التونسية.. من التلميع إلى التشنيع
فيصل بالزين كذلك تقمص أدوارًا متشابهة يظهر فيها في صورة الشاب البسيط الذي تطلق عليه تسميات وكنية بسبب صغر حجمه على غرار "سطيّش" في "الخطاب على الباب" و"فوشيكة" في شوفلي حل، إضافة لتقمصه لشخصية الشاب المريض بالصرع وقصير القامة في مسلسل "منامة عروسية". وربما اختار مخرج هذه الأعمال الثلاثة صلاح الدين الصيد فيصل بالزين لأداء هذه الأدوار، الذي تميّز في إتقانها، لتلائم شكله معها، ولكن لا يذكر المشاهد التونسي أداءه لأي دور خارج مقياس الشكل.
حاتم بالحاج: خيار المخرج وليس الممثل
بخصوص الأدوار النمطية في الدراما التونسية، يقدّر السيناريست حاتم بالحاج، وهو كاتب عدة مسلسلات كوميدية ناجحة أهمّها "شوفلي حل" و"عند عزيّز"، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن تقديم هذه الأدوار ليس خيارًا من الممثل بل من المخرج.
السيناريست حاتم بالحاج
ويرى أنه لا يوجد ممثل يريد أن يكتفي أو أن ينحصر وجوده في دور معيّن، في حين أن المخرجين يقولبون الممثل في دور نجح في أدائه، ويضيف: "عند تقمص أحد الممثلين لدور ما مثلًا في سيتكوم يضم عدّة أجزاء، يلتصق به خاصة عند نجاحه في أدائه حتى يظهر الدور كأنّه شخصية حقيقة". ويبيّن مثلًا، في المقابل، أن شخصية الممثلة القديرة منى نور الدين في الواقع تختلف عن شخصيتها في دور "أمي فضيلة" في "شوفلي حل".
ويعتبر محدثنا أن الممثل في صورة حصره في أدوار معينة يصعب عليه أن يتملص منها خاصة وأنّ المخرجين لا يريدون المغامرة أو المجازفة في تجربة ممثلين جدد في أدوار برع فيها ممثلون آخرون.
حاتم بالحاج: لا يوجد ممثل يريد أن يكتفي أو أن ينحصر وجوده في دور معيّن
ويضرب مثلًا بخصوص اختيار ممثل لأداء شخصية تتحدث اللهجة الريفية بشكل غير جارح باعتبارها لهجة صعبة، يقع تفضيل اختيار من تمثل اللهجة الريفية لهجته الأم باعتبار أن المشاهد لا يحب التصنّع. ويبيّن بالحاج، في هذا الجانب، أن نعيمة الجاني مثلًا لا تتصنع وقد أحبها الناس في أداء دور المرأة الريفية، ولا يريد أغلب المخرجين المجازفة باختيار غيرها في مثل هذا الدور.
بالنهاية، رغم تألق عدة ممثلين في أدوار معيّنة ومتشابهة، تظلّ الانتقادات تتلاحق عن سبب تقوقعهم في هذه الأدوار النمطية، وتتعدد المسؤوليات بين المخرجين أساسًا الذين يختارون دائمًا ممثلين بعينهم لأداء هذه الأدوار، عدا عن مسؤولية الممثل نفسه الذي قد يساهم في هذه النمطية، بل قد يكون المشاهد مسؤولًا، بصفة غير مباشرة، حينما لا يتقبل الممثل في دور غير الأدوار التي تعوّد على رؤيته فيها.
اقرأ/ي أيضًا: