20-مايو-2018

صورة نمطية للريفي في الأعمال التلفزية ترتقي لدرجة الوصم اللغوي

فستان أصفر مزركش بورد غريب الشكل واللّون ترتديه فوق سروال غير متناسق الألوان والأشكال أيضًا، وشعر أشعث غير ممشط وكأنّها لم تستعمل المشط منذ ولادتها، وما زاد المشهد إضحاكًا تلك الحمرة الفاقعة التي تغطي ثلاثة أرباع وجهها، واللون الأزرق الذي غزى جفنيها. لا ندري هنا إن كنّا نصف مهرجًا بالفعل، أم نصف ممثلة تقوم بدور هزلي فكاهي، اختارت تقمص دور فتاة ريفية قادمة إلى المدينة ذات تفكير بسيط إلى حدّ الغباء، لا تعرف شيئًا عن الحدّ الأدنى من الأناقة والحياة المدنية.

هي صورة جسدتها الممثلة سماح الدشراوي في شخصية "خميسة" في سلسلة "نسيبتي العزيزة" التي يُبث الجزء الثامن منه خلال هذا الموسم الرمضاني. ولم تكن تلك الشخصية الوحيدة في هذا "السيتكوم" التي ظهرت بشكل ساذج مضحك، بل توجد شخصيات عدّة كـ"الفاهم" و"ببوشة" وغيرهم. هي شخصيات لم تخرج في مجملها عن النمطية التي تصور بها أغلب الدراما التونسية، القادمين من الأرياف على أنّهم أغبياء غير قادرين حتى على حسن اللباس، وسذج بسطاء الفهم.

تصور أغلب الأعمال الدرامية التونسية القادمين من الأرياف على أنّهم أغبياء غير قادرين حتى على حسن اللباس، وسذج بسطاء الفهم

ودائمًا ما يتمّ اختيار بعض الألفاظ الريفية والمصطلحات التي تتميز بها بعض المناطق الريفية لتكون مادة للإضحاك والهزل، مصطلحات يعمد استعمالها بصفة مبالغ فيها من قبيل "أَوَخِّي" و"لَمَكِنْتِي" و"وْاشِي" و"هضاكاهو" وغيرها من المصطلحات التي تنطق فيها حرف "ڤ".

وإذ اعتبرت المسلسلات الدرامية في المطلق العام نقلًا للواقع بطريقة جدية أو بطريقة هزلية مستوحاة من الحياة اليومية، فإنّ الفكاهة والضحكة تستند أساسًا في الأعمال الدرامية على تصوير مواقف جادة في شكل ساخر ينتقد ظواهر اجتماعية ما، أو ينقل الواقع اليومي بشكل فكاهي. في المقابل، لم يخرج الانتاج الدرامي في تونس على مرّ السنوات عن صورة التمييز بين الشخصيات حسب انتماءاتها الجهوية والإصرار على التباين بين منهم داخل منظومة الحداثة ومنهم خارجها، وهو الأمر الذي دائمًا ما يسيل حبر النقاد.

اقرأ/ي أيضًا: حين تطبّع وسائل الإعلام التونسية مع الذكورية..

وعديدة هي الأعمال التي بقيت في الذاكرة التونسية من هذا الصنف، وذلك على غرار "الخطاب على الباب"، والذي تدور أحداثه في المدينة العتيقة وينقل حياة سكانها ومشاغلها وذلك عبر شخصية "الشاذلي التمار" وزوجته التي تتباين بشكل كبير مع شخصية "حدّة" المرأة الخادمة القادمة من المناطق الداخلية، التي تم تصويرها في شكل المرأة الريفية غير المتعلمة وغير الأنيقة وذات اللهجة الريفية المضحكة. وفي نفس المنحى، يوجد مسلسل "حسابات وعقابات" الذي وإن أخرج شخصية ريفية قوية جسدها "لزهر عروش" إلاّ أنّ هذه الشخصية تنتقد في المقابل بعض عادات أهل الريف، وذلك عدا عن رفض هذه الشخصية من طرف أهل المدينة. كما لم يخرج سكان الرّيف في مسلسل "منامة عروسية" عن دور الخدم والعملة الفلاحيين لدى أصحاب الأراضي القادمين من المدينة.

 تعتمد أغلب الأعمال الدرامية على صورة التباين بين أولاد المدينة "البلدية" أصحاب النفوذ، وبين أبناء الريف الذين تنحصر أغلب أدوارهم في الخدمة المنزلية أو العمالة الفلاحية

والأمثلة كثيرة لا تحصى ولا تعدّ في الدراما التونسية التي تعتمد في أغلبها على صورة التباين بين أولاد المدينة "البلدية" أصحاب النفوذ، وبين أبناء الريف الذين تنحصر أغلب أدوارهم في الخدمة المنزلية أو العمالة الفلاحية. وحتى طريقة عرض تلك الشخصيات الريفية البسيطة غالبًا ما يتم إظهارها في شكل رثّ، فهي غير متناسقة اللّباس والشكل، وغبية أميًة لأنّها من "وراء البلايك"، و"قعار".

وهو تباين واضح استهجنه العديد من التونسيين، فالمتقبل ناقد والأمر لا يحتاج نقادًا ضالعين في فن الدراما والتمثيل. وهو نقد لم يغب عن مواقع التواصل الاجتماعي بتعبير المشاهدين عن رفضهم المتواصل للطريقة التي دأبت الدراما التونسية عليها في إظهار سكان أهل الريف، خاصة وقد انتقل الأمر من المسلسلات إلى "السكاتشات" و"السيتكومات" التي باتت رائجة خلال السنوات الأخيرة.

 

 

 

 

وباستثناء بعض المحاولات الجادة في بعض تلك الأعمال التي تعتمد على النقد الهزلي بالأساس، إلاّ أنّ أغلبها روجت نفس الصورة النمطية لسكان الريف القادمين إلى المدن، عبر الاستهجان من شكل الريفي والإضحاك بلهجته وألفاظه.

ولئن استحسن البعض هذه الأعمال التي حاولت تقديم مادة ترفيهية ومشاهد هزلية للمتقبّل، إلاّ أنّها لقيت رفضًا كبيرًا في بعض المناطق. فعلى سبيل المثال، لطالما أثارت السلسلة الهزلية "نسيبتي العزيزة" الانتقادات نظرًا للتهكم على سكان المناطق الريفية وإخراجهم في شكل الغبي، وغير الأنيق والتافه، وهي صفات جسدتها كل من شخصيات "الفاهم" و"خميسة" و"ببوشة" وكل قريب لهم قادم من الرّيف. ورغم أنّه لم يتم نسبهم إلى جهة معيّنة تفاديًا للنقد، إلاّ أنّ "السيتكوم" أثار نقد المتقبل منذ بدايته في المواسم الأولى.

المشاهدون دائمًا ما ينتقدون النمطية التي تعالج بها صورة الريفي في الأعمال الدرامية وتطويع اللهجة الريفية من أجل الإضحاك

في المقابل، أدرجت هذه السلسلة شخصية تتحدث بلكنة الصفاقسية عبر شخصية "المنجي" التي جسدت صورة ابن الأم المدلل المغفل الذي يعول على الغير ولا يشتغل، والشاب الذي يضعف أمام أي امرأة. ولم تمر تلك الشخصية دون أن تثير غضب مواطني جهة صفاقس من شخصية قادمة من جهتهم لكن دون أن تتقن اللهجة، بل والأكثر أظهرت "الصفاقسي" في صورة الشخصية الضعيفة والمتقاعسة والغبية.

 

 

 

 

ويتجه التساؤل حول كيف دأبت الأعمال الدرامية التونسية على الاعتماد على لهجات سكان الجهات الداخلية والأرياف للإضحاك، وإظهارهم في صورة السذج دائمًا، حتى بات الهزل والإضحاك في تونس يراهن على فئة معينة من المجتمع التونسي، وعلى غباء شخصيات بلهاء وفقراء من السذّج لبعث الضحكة والترفيه.

ولا يقتصر الأمر على المسلسلات فقط في اعتماد لهجة الجنوب التونسي والمناطق الريفية والقروية ومفرداتهم التي يقع استعمالها بطريقة مبالغ فيها للإضحاك، إذ تتكرر نفس المسألة في بعض "السكاتشات" التي تظهر في بعض البرامج التلفزية على غرار سكاتش" مباركة ومبروكة" الذي لم يخرج عن الصورة النمطية للمرأة الريفية التي يتم تقديمها في شكل رث، ذات شكل مضحك وشعر أشعث، وهما تتحدّثان بلهجة الريف بالتركيز على ألفاظ دون غيرها للفكاهة.

هذه النمطية في صورة الريفي في الدراما تعكس وصمًا لغويًا عبر التركيز على نطق الحروف أو الكلمات المختلفة بما يجعل فئة معينة مصدرًا للسخرية

والأمثلة عديدة من أعمال أخرى والتي لم تخرج أيضًا عن هذا الأسلوب في الإضحاك، وذلك في وصم لغوي يقع فيه التركيز على طريقة نطق الحروف أو الكلمات المختلفة أو مصطلحات دون أخرى، بما يجعل فئة معينة مصدرًا للسخرية والتفكه.

ويلاحظ المتأمل في عديد الإنتاجات الدرامية التونسية رسوخ هذا التمشي من أجل الإيحاء بالوضاعة أو من أجل إضحاك الجماهير على شريحة اجتماعية أو جهة معينة، وذلك وفق ما يشير إليه المختص في علم الاجتماع طارق بلحاج، الذي سبق وأن تحدث عما وصفه بالوصم الجغرافي الذي لا يغيب عن تركيبة المجتمع التونسي لتقديم صورة تفاضلية بين الجهات وسكانها، وهو ما تمت ترجمته في العديد من الأعمال المسرحية أو السينمائية أو الدرامية، سواء الجادة منها أو الهزلية. إذ أن أغلبها لم يخرج عن أسلوب التباين والتفاضلية بين المناطق الداخلية من جهة والمدن من جهة أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الكرونيكور" في تونس.. من يقدم الإثارة أكثر؟

فيديو: ما رأي المواطن في الإعلام التونسي؟