"الحياة دون موسيقى ستكون خطأ"، بهذه العبارات لخّص الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أهمية الموسيقى في حياة الإنسان ورفعها إلى درجة تصبح فيها الحياة مجرّد "غلطة" إذا انتفت الموسيقى من الوجود. فالموسيقى لها قدرة استثنائية على حمل المستمع إليها على بساط الريح والسفر به إلى أي مكان يمكن له أن يتخيّله، والموسيقى لها من السطوة ما يكفي أن يغيّر مزاجنا، وهي التي تعبّر عن كلّ ما يمكن أن يختلجنا من مشاعر كالحب والحزن والخيبة والفرح والتفاؤل. ولعلّ الأهم من كلّ ذلك قدرة الموسيقى على تقريب المسافات وتوحيد شعوب لا تشتبه في شيء، لا من ناحية اللغة أو الثقافة أو التاريخ، ولكنها تجمع على الوقوع في حبّ موسيقى بغض النظر عن مصدرها.

اقرأ/ي أيضًا: "دريم سيتي".. المضادون للثقافة السائدة

ومن هذا المنطلق، احتضنت قاعة الأوبرا، مساء الجمعة 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حفل افتتاح الدورة السادسة من أيام قرطاج الموسيقية التي عادت بفلسفة جديدة وجمعت هذا العام 33 فرقة موسيقية من 14 بلدًا كتونس والجزائر والمغرب وفلسطين والأردن ومصر وباكستان وبوركينا فاسو والكاميرون وفرنسا وبلجيكا وغيرها، ستحيي حفلات رسمية و"موازية" على مدى أسبوع كامل.

وقد مثل حفل الافتتاح، الذي أثثه عرض موسيقي للمؤلف والموزع الموسيقي التونسي أمين بوحافة والأوركستر السيمفوني التونسي بقيادة محمد بوسلامة، رحلة دامت حوالي الساعتين، إلى عوالم غاب فيها الواقع وامتزجت خلالها الموسيقى مع عالم السينما والتلفزيون.

كان أمين بوحافة يتفاعل مع الموسيقى المنبعثة من مختلف الآلات الموسيقية، كالكمنجة والـ"شيلو" والأبواق والغيتار، ويتماهى فكانت تبدو للحظات وكأنها تسكن روحه

وأمين بوحافة، موزع موسيقى بدأت علاقته مع الموسيقى في سنّ مبكرة إذ بدأ العزف على البيانو في سن الثلاث سنوات، وعندما بلغ من العمر 15 عامًا ألف أول قطعة موسيقية في فيلم قصير لتصبح الموسيقى والسينما منذ ذلك الحين رفقتين دائمتين لبوحافة لا يمكن أن تحضر إحداهما دون الآخر.

وعمل بوحافة على خلق أسلوب خاص به في نوعية الكتابة الموسيقية الأمر الذي جعله متفردًا في مجال عمله وجلب إليه أنظار المختصين ويؤلّف موسيقى عدة أعمال تلفزية عربية وأفلام عالمية منها فيلم "تمبوكتو" الحائز على 7 جوائز سيزار منها سيزار أفضل موسيقى.

اقرأ/ي أيضًا: كنوز ورقية.. عن حكايات "كتب الفريب" القادمة من وراء البحار

أما محمد بوسلامة فهو القائد الشاب للأوركستر التونسي والذي تمتد تجربته الموسيقية خارج تونس حيث شارك في أوركسترا شباب المتوسط بفرنسا وأوركستر "بو بيي دو بيارن" بفرنسا وأوركسترا جنوب غرب فرنسا وغيرها. كما شارك في الأوركستر الفيلارموني المغاربي بالمغرب وفي أوبرا كينيدي بواشنطن وأصبح منذ سنة 2017 من الموسيقيين الذين يتمتعون بصيت واسع المستوى الدولي.

وقاد بوسلامة عديد المجموعات الأوركسترالية في تونس منها أوركستر الغرفة بالمعهد العالي للموسيقى بتونس وأوركستر وجوقة أوبرا تونس ورافق عدة فنانين عالميين كما تولى في الموسم الثقافي 2018-2019 مسؤولية الإدارة الفنية للأوركستر السمفوني التونسي.

بدا محمد بوسلامة كقائد يوزع المهام على أعضاء فريقه ملوّحًا بيديه دون أن يفقد ابتسامته أو أن تغيب عنه الموسيقى التي كان يتحكّم فيها عبر أنامله

اجتمع مبدعان على مسرح الأوبرا مصحوبين بفرقة الأوركستر السمفوني التونسي، التي تتكوّن بشكل كبير من الشباب، ليقودا الأوركستر، كلّ بطريقته، في رحلة موسيقية حملت معها الجمهور الذي جاء بأعداد محترمة، متشوقًا للاستمتاع بموسيقى قد يكون قد استمع إليها سابقًا في مسلسلات تابعها أو أفلام شاهدها، أو جاء بدافع الفضول لاكتشاف عالم جديد من الموسيقى سمع عنه الكثير.

جلس أمين بوحافة، الذي لم تكد تفارق الابتسامة محيّاه منذ انطلاق الحفل، بثقة أمام البيانو الخاصة به، وكان يتفاعل مع الموسيقى المنبعثة من مختلف الآلات الموسيقية، كالكمنجة والـ"شيلو" والأبواق والغيتار، ويتماهى فكانت تبدو للحظات وكأنها تسكن روحه وتجعله يتمايل دون قصد معها فيحرّك رأسه أو يداه، وعندما لم يفعل ذلك، فكان يغازل آلة البيانو ويداعب مفاتيحها بواسطة أصابعه بكلّ خفة.

أما محمد بوسلامة، فبدا وهو يقف وسط المسرح ليقود عازفين يتلاعبون بمهارة بآلاتهم الموسيقية ويغازلون أوتارها وينفخون فيها من أرواحهم، كقائد يوزع المهام على أعضاء فريقه ملوّحًا بيديه دون أن يفقد ابتسامته أو أن تغيب عنه الموسيقى التي كان يتحكّم فيها عبر أنامله.

والتفاعل بين أمين بوحافة ومحمد بوسلامة عكست جمال العلاقة الموسيقية التي تجمعهما، فكانا ثنائيًا جميلًا يتفاعل عبر النظرات حينًا وعبر كلمات متبادلة أحيانًا أخرى. وفي هذه الرحلة الموسيقية، سافر الجمهور إلى أماكن مختلفة، لا عن طريق الموسيقى فحسب، فكلّ قطعة موسيقية قدّمت للجمهور كانت مرفوقة بمشاهد للمسلسل أو الفيلم ألفّها بوحافة من أجلها.

 المفاجأة الكبرى للسهرة كانت الفنانة الإيرانية عائدة صمرت التي أبهرت الجمهور بصوتها الجهوري الذي تحكمت في طبقاته بشكل مذهل

فكانت البداية مع مسلسل "الميزان" مرورًا بـ"جبل الحلال" و"جراند أوتيل" و"لا تطفئوا الشمس" و"حارة اليهود"، فضلًا عن فيلم "تمبوكتو" حيث قدّم أمين بوحافة والأوركستر السمفوني التونسي عدة مقاطع موسيقية مؤلّفة للفيلم. وقد تخلّل الحفل مفاجآت عديدة ظهر خلالها فنانون ساهموا في إثراء الحفل على غرار عبير دربال وراقية نصر والعازف المالي باجوتي كاراي. أما المفاجأة الكبرى للسهرة فكانت الفنانة الإيرانية عائدة صمرت التي أبهرت الجمهور بصوتها الجهوري الذي تحكمت في طبقاته بشكل مذهل، فكانت تخفّض أحيانًا وترفع في أحيان أخرى من طبقاتها، لتخلق حالة من الانتشاء ربّما تفوق ما يمكن أن تقوم به الآلات الموسيقية بمفردها.

ورغم أن الحفل انطلق متأخرًا عن موعده بسبب انعقاد مناظرة الانتخابات الرئاسية، إلا أنه مثّل فسحة جميلة من الأمل نفثت فيها الموسيقى روحًا جديدة في أرواح جمهورها مستعينة بقدرة السينما، مثبتة أن الفن وحده، وخصوصًا عندما يجمع ركيزتين أساسيتين من ركائزه، الموسيقى والسينما، قادر على إحياء الأرواح المحبطة وأن الحياة دونه لا ترتقي لمرتبة الحياة.

هذا وقد تمّ تكريم الفنانة الراحلة منيرة حمدي قبل انطلاق العرض الموسيقي من قبل وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين ومدير أيام قرطاج الموسيقية. كما تمّ الإعلان عن تكريم فنانين تونسيين وعرف فقدتهم الساحة الفنية على غرار شوقي الماجري ولطفي جرمانة ورشيد طه وريم البنا.

اقرأ/ي أيضًا:

"قصيّر ويحيّر"..5 جواهر تزيّن مهرجان سينما الأفلام القصيرة في تونس

الدّورة الأولى لأيام قرطاج لفنون الخزف.. فتح جديد في أكوان الطين التونسي