القصير والوجيز في الفنّ، سواء كان أدبًا أو سينما أو مسرحًا أو مكتوبًا صحفيًا أو فنونًا تشكيلية، دائمًا ما يعتبر عتبات أولى لتجربة الفنان أو الكاتب أو هي البدايات التي تقود إلى المساحات الوسيعة للفنون. لكن هناك أيضًا من يعتبر أن ما يمكن وصفه بقصير الفنون هو درب مستقل ومفرد، له عوالمه الخاصة وتقنياته ونظرياته وأصفياؤه الذين يرون في هذه الفنون إمتاعًا خاصًا لا تحققه ما يمكن تسميتها بـ"الفنون الطويلة" حتى أن أب القصة القصيرة في العالم الكاتب الروسي أنطوان تشيكوف يرى أن القصة القصيرة ذات مظهر خادع و تبدو من الوهلة الأولى شقيقة للرواية لكنها في واقع الأمر هي كيان مستقل بذاته.
والأشرطة السينمائية القصيرة بالرغم من مراكمة تجربتها العالمية إلا أنها مازالت إلى اليوم تعاني من الدونية الثقافية والجمالية وذلك رغم التظاهرات والمهرجانات السينمائية الخاصة بالأشرطة القصيرة، وأيضًا رغم تصريحات كبار السينمائيين العالميين بأن السينما القصيرة هي مجال فنّي لوحده. وكان قد ظل كل من مارتن سكورسيزي وكريستوفر نولان يشتغلان بالأشرطة القصيرة حتى بعد ذيوع صيتهما السينمائي.
انتظمت الدورة الثالثة لتظاهرة "قصيّر ويحيّر" يوم 10 سبتمبر 2019 بمدينة الثقافة بحضور ممثلين سينمائيين وإعلاميين ثقافيين ونقاد السينما ووجوه سينمائية معروفة وذلك بتقديم 5 أفلام قصيرة
اقرأ/ي أيضًا: فيديو: تونسيون يتحدثون عن آخر فيلم تونسي شاهدوه
وفي تونس، بقيت سينما الأفلام القصيرة على مرّ تاريخها مجالًا للهواة والمبتدئين رغم انتعاشتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مع العديد من المخرجين الألمعيين نذكر منهم الراحل حمودة بن حليمة وعبد اللطيف بن عمار وفريد بوغدير، أما في الثمانينيات والتسعينيات فقد خفت الحلم بالفيلم القصير لتنشغل السينما التونسية بالأشرطة الطويلة.
لكن بعد الثورة ومع ظهور الموجة الجديدة من السينمائيين الشباب، يبدو أن انتعاشة ما حصلت في أفلاك الأشرطة السينمائية القصيرة عبر تجارب مهمة لعلّ أهمّها، في هذا الصدد، تظاهرة "قصيّر ويحيّر" التي دأب على تنظيمها منذ سنتين نشطاء سينمائيين من موزعين ومخرجين ومنتجين ةنقاد. وهو يوم يُخصص للاحتفاء بسينما الأفلام القصيرة وتُقدّم ضمنه أجود الأفلام وأحسنها من المزمع عرضها في القاعات خلال الموسم الثقافي الجديد.
وقد انتظمت الدورة الثالثة لتظاهرة "قصيّر ويحيّر" يوم 10 سبتمبر/أيلول 2019 بمدينة الثقافة بالعاصمة تونس واحتضنتها قاعة "عمار الخليفي" بحضور ممثلين سينمائيين وإعلاميين ثقافيين ونقاد السينما ووجوه سينمائية معروفة وممثلي جمعيات سينمائية. ولمدة ساعتين تم تقديم خمسة أفلام عرضت لأول مرة وهي:
"بلاك ممبا" أو عندما تنتصر الأحلام
"بلاك ممبا" شريط للمخرجة آمال قلاّتي وبطولة سارة الحناشي، هو يحمل مشاهديه إلى الكثير من التخييل والحلم والأمل. ففي مجتمع ذكوري محافظ، يمكن لشابة تونسية أن تحلم بمجد في رياضة الملاكمة متحدية بذلك واقعها الاجتماعي. ولم تكن كاميرا المخرجة توثيقية مباشرتية بل كانت مفعمة بالفانتازم السينمائي وبالكوميديا أحيانًا أخرى.
"بلاك ممبا" هو رسالة موجهة للشابات التونسيات والعربيات من أجل المثابرة والإصرار على تحقيق الحلم والانتصار بـ"الكاوو" (الضربة القاضية) على المكبلات المجتمعية والتقاليد التي تحد من حرية المرأة وطموحها بأن تحقق ما تصبو إليه نفسها.
حاولت كاميرا المخرجة آمال قلاّتي تقديم مضمون اجتماعي بأدوات جمالية بسيطة وبصورة سينمائية فيها تعويل واضح على اللقطات القريبة وأحيانًا القريبة جدًا وهو ما يمكن تأويله سرديًا بإقناع عين المتلقّي برسالة الشريط.
"كعبة حلوى": عندما نكتشف العنف الساكن فينا
"كعبة حلوى" هو عمل سينمائي قصير للمخرج عبد الحميد بوشناق ويقوم بتمثيل أدواره الأساسية كل من عزيز الجبالي وشادية عزوز وهالة عيّاد.
العمل بسيط كـ"كعبة حلوى" لكنه عميق كحكمة من الواقع، فكاميرا بوشناق لم تجانب الواقع بل ذهبت إلى أعماقه ودغدغت الراكد وأضاءت بعض ظلماته. فقصة الشاب الذي قدمته كاميرا بوشناق الذي يبحث عن انتماء الى الحياة بعد تخرجه من الجامعة هي تقريبًا قصص آلاف من الشبان التونسيين مع اختلافات الحيثيات.
"كعبة حلوى" تفصيل صغير ملتقط من اليومي التونسي وهو تقريبًا ما تحتاجه السينما التونسية الآن وهنا.
صعوبة اندماج هذا الشاب الجميل والأنيق في مهنة عدل المنفذ أو "اللوسي" كما يسميه التونسيون، تعكس بشكل من الأشكال شراسة المجتمع المتسترة وميله للعنف بشتى أنواعه متناسين بذلك أعين الأجيال الصغيرة المتلصصة على كل شيء.
كاميرا عبد الحميد بوشناق رغم حداثتها، فهي تحسن التقاط الزوايا وتحسن قول ما يجب أن يقال في الموضوع المطروق، فـ"كعبة حلوى" تفصيل صغير ملتقط من اليومي التونسي وهو تقريبًا ما تحتاجه السينما التونسية الآن وهنا.
اقرأ/ي أيضًا: الرعب في "دشرة".. عن السحر والشعوذة والهلاك المؤجّل
"بلبل": كبسولة كوميديا
شريط "بلبل" الذي تخرجه خديجة المكشّر هو من النوع الكوميدي أو هو ما يمكن تسميته ببهجة "الضّمار" التونسي ويقوم ببطولته قطبا المسرح التونسي فاطمة بن سعيدان وفتحي العكّاري بمساهمة الممثل الشاذلي العرفاوي.
بلبل تزوجت بعد يأس وقطنت قبالة قاعة أفراح "الليلة ليلتك"، ومن فرط وحدتها تقوم بدعوة نفسها لحفلات الزفاف التي تقام ليليّا بتلك القاعة لنغوص معها في الجوانب النفسية الاجتماعية لحفل الزفاف في تونس وضيوفه ومؤامراته الصغيرة. وتبرع هنا كاميرا خديجة المكشر في التقاط النظرات والحركات والتحركات والرقصات.
الطريف في هذا الشريط أنه صيغ بطريقة كاريكاتورية كوميدية دونما تكلف فممثل مسرحي مجرّب مثل فتحي العكاري تثير بنيته الجسدية في هذا الشريط نوعًا من الضحك المتواصل وهو الصامت القليل الكلام. هو شريط ينظر من زاوية مستحيلة لواجهة اليومي التونسي يحملنا على أجنحة كوميديا نحن دومًا في حاجة إليها.
"السماء تصرخ": رعب الشعوذة والبحث عن الكنوز
يجنح خيال المخرج السينمائي قيس الماجري في شريطه القصير "السماء تصرخ" الذي يقوم ببطولته كل من سهير بن عمارة ونجيب بلقاضي وفاطمة بن سعيدان، فبأسلوب هيتشكوكي نادرًا ما تتوخاه السينما التونسية يعالج الشريط وفي وقت وجيز قضيتان قديمتان وأحيانا تبدوان متداخلتان ومازال لهما حضورًا إلى اليوم رغم مدنية المجتمع التونسي وتحضره وهما الشعوذة والبحث عن الكنوز.
حاولت كاميرا الماجري تفجير الموضوع بنفيها في البداية لبعدي الزمان والمكان، فعلى طريق منسية وبعيدة يتم خطف رجل وزوجته الحامل بعد أن توقفا بسيارتهما للاستراحة في الخلاء لتنطلق رحلة رعب موزعة بين غابة وأبنية خربة ومهجورة ووجوه قاسية تبحث عن قرابين من أجل فتح سراديب الكنوز المغلقة بأيادي الجنيات والقوى الغيبية. يمثل شريط "السماء تصرخ" بالنهاية طرحًا سينمائيًا مغايرًا لمواضيع مثيرة وخطيرة لم يحسمها المجتمع بعد.
"بطّيخ الشيخ" أو صراعات المساجد
تراوح المخرجة كوثر بن هنية بين الأشرطة الطويلة والقصيرة إيمانًا منها بأن السينما فعل حرية ومنطقة تفكير ولا فرق لديها بين الأعمال الطويلة أو القصيرة. فشريطها القصير "بطّيخ الشيخ" الذي يقوم ببطولته النجم السينمائي أحمد الحفيان مع أحمد سليم يتناول الوجه الآخر للمساجد والجوامع في تونس بعد الثورة وما يحدث فيها من مؤامرات بين المتشددين والشيوخ المعتدلين.
لكن كاميرا كوثر بن هنية كانت مازحة بعض الشيء لتخفف الوطء على عين المتلقي، فللإطاحة بالشيخ الطاهر يعمد الشاب المتشدد حامد والعائد لتوّه من سوريا إلى الخديعة والابتزاز، لكن في النهاية ينتصر الشيخ.
وخلاصة، إن تظاهرة "قصيّر ويحير" بقدر ما هي تعلي من شأن الفيلم القصير كنمط سينمائي له مذاقه الخاص وله عشاقه، فإنها تقدم أفلامًا جديدة وطروحات جدية بطعم الواقع التونسي المعيش.
اقرأ/ي أيضًا:
السينما التونسية ما بعد الثورة: سرديات الواقع.. بجماليّات جديدة
فيلم "بابا هادي": حياة عرّاب الموسيقى التونسية كما رأتها حفيدته