04-أكتوبر-2018

حفل افتتاح الدورة الحالية لأيام قرطاج الموسيقية

أواخر العهد البورقيبي، كانت لحظة تونسية مربكة توحي بانفراط ما سيحصل في كل المجالات بما في ذلك المجال الثقافي، لكن هذه الفترة التاريخية الغائمة شقّها حدث فنّي هامّ وهو انبعاث مهرجان الأغنية التونسية وتحديدًا سنة 1986.

وأُعتبر هذا الحدث مكسبًا ثقافيًا ملحًا وأكيدًا رغم تأخره، وقد نوّهت به الصحافة التونسية واعتبرته انتصارًا للفعل الموسيقى التونسي الضارب في القدم، وكانت تصريحات أغلب الموسيقيين التونسيين آنذاك فيها نوع من الفخر بهذا الانجاز الذي اعتبروه تتويجًا لمسارات مؤسسة تاريخية تعنى بالموسيقى التونسية الأصيلة وهي المعهد الراشيدي المعروف بـ"الراشيدية".

انبعث مهرجان الأغنية التونسية سنة 1986 في لحظة تونسية مربكة أواخر العهد البورقيبي

واُعتبر أيضًا تتويجًا لمشاركة تونس في أول مؤتمر الموسيقى العربية المنعقد بالقاهرة سنة 1932، وقد ساهمت فيه تونس مساهمة بارزة على يد البارون أودولف ديرلنجي، وهو رسام وموسيقي ألماني أقام بتونس وتوفي بها، وذلك بالإضافة للفنان أحمد الوافي. زد على ذلك تلك الموجات المتتالية من الملحّنين والمطربين والمغنّين التي لمعت في سماء الموسيقى التونسية على مرّ حقب تاريخ تونس المعاصر.

لكن وبعد ما يناهز العقد من الزمن وفي وقت كانت فيه الثقافة التونسية تعيش تضييقات لامرئية تغيرت تسمية "مهرجان الأغنية التونسية" ليصبح "مهرجان الموسيقى التونسية". وسمحت هذه التوسعة في التسمية ببعض التغييرات في شكل المسابقات وحجم الجوائز ومشاركة أوسع لأغلب الأشكال الموسيقية، مع هامش من التكريمات والاستضافات لبعض الأسماء الفنية العربية. ولكن لم يعط ذلك أي انطباعًا لدى عموم المتابعين بأن المهرجان قد تغير فعلًا حيث تتالت الدورات رتيبة وباهتة ومتشابهة، وبل بقيت التظاهرة أسيرة لتلك الانبعاثة الأولى.

اقرأ/ي أيضًا: المهرجانات الصيفية: يكفينا هدرًا للمال العام

وفي محاولة ثالثة لبعث روح التجديد في هذه التظاهرة الثقافية الموسيقية والدفع بها نحو المزيد من الحيوية حتى تباري مهرجانات أقل منها عراقة في بعض الدول العربية، تم تغيير التسمية سنة 2010 لتصبح "أيام قرطاج الموسيقية". لكن أحداث الثورة التونسية وتداعياتها أجّلت فعالياتها لأربع سنوات متتالية لتعود سنة 2015 للظهور من جديد في شكل جديد وتصورات جديدة بفضل مناخ الثورة، وها نحن هذه الأيام نعيش على وقع الدورة الخامسة التي تحتضنها مدينة الثقافة إلى غاية 6 أكتوبر/تشرين الأول 2018.

رافق هذه الدورة جدل واسع بدأت تباشيره قبل الانطلاق وارتبط أساسًا بالجوانب الشكلية واللوجستية، وتعلق بتلك الاستقالات لأسماء محيطة ومساعدة لمدير الدورة الحالية الملحّن أشرف الشرفي، والتي تنقلت عبر منابر إعلامية عدّة ولم تفصح عن حقيقة ما يحدث في صلب الهيئة التي تسيّر المهرجان. وهو ما يؤكد أن أزمة تواصل حقيقية تخيم على طواقم الدورة ولا يُراد لها الظهور.

رافق أيام قرطاج الموسيقية لهذه الدورة جدل واسع بدأت تباشيره قبل الانطلاق وارتبط أساسًا بالجوانب الشكلية واللوجستية والاستقالات لأسماء محيطة ومساعدة لمدير الدورة الحالية

كما شمل الجدل عرض الافتتاح الذي تغير وفي ظرف وجيز أكثر من مرة، فبعد أن أُسند في البداية إلى الفنان هشام العمّاري تم تغييره بفرقة فرنسية، ليتم لاحقًا تعويضها بعرض زياد الزواري وضيوفه. ورغم التبريرات التي قدمها المهرجان، إلا أن رائحة الارتجال طغت وفاحت في الأرجاء.

"أفيش" المهرجان أو المعلقة هي الأخرى شملها الجدل، إذ تم تغييرها في أكثر من مرة، وكالعادة تأتي التبريرات لأخطاء بسيطة لا تليق بحجم وطموح تظاهرة باتت محاصرة بنجاحات تظاهرات خليجية ومغاربية وإفريقية. كما تمّ إلغاء جائزة مهمة في صلب المهرجان تتعلق بالجانب الأكاديمي وهي "جائزة الدكتور قطاط" ما أثار موجة من الاستياء في صلب العائلة الأكاديمية الموسيقية.

كل هذا يؤكد أن هذه التظاهرة الموسيقية مذ كانت مهرجانًا للأغنية وإلى اليوم، لم يأخذ بعضها برقاب بعض، ولم تحدد لها رهانات واضحة يتم الاشتغال عليها وتطويرها حسب التغيرات الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية.

والسؤال الفكري والفلسفي الذي يجب على الجميع طرحه وخاصة من قبل الفاعلين الموسيقيين هو: ما الغاية من هذا الحدث الثقافي؟ وما هي أهدافه السامية؟ ولمزيد إيضاح السؤال أذكر بأنه عندما أراد أهل السينما في تونس بعث تظاهرة "أيام قرطاج السينمائية"، تحلقوا حول جملة من الأهداف والقيم الفنية والإنسانية وهي الدفاع عن سينما الجنوب بواسطة سينما المؤلف. وبذلك لم تحد هذه التظاهرة السينمائية الأبرز جنوب الكرة الأرضية منذ سنة 1966 عن أهدافها المركزية.

لم لا يتم التفكير في استشارة موسعة حول أيام قرطاج الموسيقية يشارك فيها المثقفون والنأي بالنفس عن سياسة الارتجال التي شاهدناها تخيم على الدورة الحالية رغم بعض الإضاءات الصغيرة

لقد بات من الضروري وحتى تستمر "أيّام قرطاج الموسيقية"، وتنهض بتجارب وابتكارات الموسيقيين التونسيين من مختلف الأجيال، وحتى تكون علامة فارقة في المشهد الثقافي الوطني ونقطة جذب فكري وسياحي وترفيهي واقتصادي، أن يقع يفتح نقاش عميق وجدي حول أهداف المهرجان وأساليب عمله وذاكرته المهددة بالزوال.

ولم لا يتم التفكير في استشارة موسعة حول التظاهرة يشارك فيها المثقفون من شمال البلاد إلى جنوبها، والنأي بالنفس عن سياسة الارتجال التي شاهدناها تخيم على الدورة الحالية رغم بعض الإضاءات الصغيرة التي ضاعت في زحمة التصريحات والصراعات بين الموسيقيين. لقد حان الوقت أكثر من أي وقت مضى لتتم مأسسة التظاهرة، إذ لا يكفي إلحاقها بمركز الموسيقى العربية والمتوسطية المعروف بـ"النجمة الزهراء" حتى تزهر، فالمسألة أعمق من ذلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مرسال خليفة.. الأيقونة التي مسّها شرخ

في تونس.. التافهون أسياد الموقف