28-أكتوبر-2019

الصورة السينمائية لشريط "عرائس الخوف" كانت وفية لما يعتبره النوري بوزيد "الشخصية الجمالية التونسية"

 

لم يكن غياب فقيد السينما التونسية نجيب عياد سوى ظليلة حنوّ ونثر لقوة معنوية للدورة الجديدة لأيّام قرطاج السينمائية، التي انطلقت فعالياتها بقاعة الأوبرا بمدينة الثقافة بتونس العاصمة مساء 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لتتواصل إلى غاية 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.

لقد كانت انطلاقة مغمورة بالوفاء والاعتراف لرجل سكنته السينما وسكنها فحملت الدورة وعلى غير عادة التظاهرة، اسم دورة نجيب عيّاد. لقد كانت روحه السينمائية تحرس الفعاليّة كملاك وهو الذي ترجّل منذ أكثر من شهر ليخلّف فراغًا بليغًا. بيد أن فريق العمل المساعد له في إدارة الأيام قد رتقه بكلّ اقتدار وجهد منحوت وسيبقى علامة  في مسيرة أيام قرطاج السينمائية التي تعدّ أهم تظاهرة سينمائية جنوب الكرة الأرضية مازالت تنشط بدون انقطاع منذ سنة 1966 إلى اليوم.

إن عمليّة " التّسجيد الحمراء" تحاول أن تطغى على المهرجان منذ مدّة بخلق مساحات جذب جديدة تشبه ما يحدث في تظاهرات سينمائية تجارية عالمية

اقرأ/ي أيضًا: محمّد بن صالحة و"الكَوَلَة".. عن موسيقى تحاكي عناق الأصابع والعُقَل

بعيدًا عن فكرة السّجاد الأحمر التي باتت تشغل الرأي العام الثقافي الواسع في تونس والوطن العربي وما يحفّ بها من زوائد غير مثرية لفلسفة أيّام قرطاج السينمائية ومتناقضة تمامًا مع التصوّرات الجمالية والهوية الثقافية التي أرادها الآباء المؤسسين للمهرجان... إن عمليّة " التّسجيد الحمراء" التي تحاول أن تطغى على المهرجان منذ مدّة بخلق مساحات جذب جديدة تشبه ما يحدث في تظاهرات سينمائية تجارية عالمية مثل كان أو برلين أو البندقية أو القاهرة أو حفلات الأوسكار، هي عمليّة انزياح واضحة فيها تنكر لجدية وخصوصية المهرجان الذي يدافع عن "سينما المؤلف" ويفكر حول قضايا الشعوب بالكاميرا والصورة والتخييل السينمائي.

حفل الافتتاح وبقدر محاولاته التخلص من الارتجال والتكلّف وبعض الممارسات البلاستيكية التي كنا نلمحها سابقًا، إلا أنه سقط في بعض السلبيات التي لا بد من ذكرها وهي من قبيل التشديدات الأمنية المبالغ فيها التي وصلت إلى غلق أغلب الطرقات المؤدية إلى مدينة الثقافة، والتضييق على المدعوين ومنع المواطنين من الاقتراب من الحواجز. والحال أن الحدث ثقافي يحدث في مدينة آهلة بأهلها ومن حقهم المتابعة والاقتراب من التظاهرة والانصهار في تفاصيلها.

ومن السلبيات أيضًا هو منح تنشيط الحفل الافتتاحي في الجزء الأساسي داخل قاعة الأوبرا للممثّل المعروف أحمد الحفيان الذي كان حضوره متّسمًا بالبرود والشرود لأن مسألة تنشيط هذا النوع من الحفلات هو من اختصاص الإعلاميين وليس مجالًا للممثلين.

حفل الافتتاح سقط في بعض السلبيات من قبيل التشديدات الأمنية المبالغ فيها

شريط الافتتاح: "عرائس الخوف" للنوري بوزيد.. التصاق بقضايا المجتمع ووفاء للتيمات الجمالية التونسية

أمّا فيلم افتتاح أيام قرطاج السينمائية في دورتها الثلاثين، والذي أصرّ على اختياره نجيب عياد قبل أوبته الأخيرة فهو شريط "عرائس الخوف" للسينمائي التونسي الجدلي النوري بوزيد. عرائس الخوف لم يكن هذا ظهوره الأول فقد سبق عرضه في مهرجان البندقية السينمائي من 28 أوت/ آب إلى 7 سبتمبر/ أيلول 2019. وحصد جائزة HRN Award لحقوق الإنسان.

النوري بوزيد الذي يعتبر واحدًا من أهم المخرجين التونسيين المنخرطين في فلسفة سينما المؤلف بإخراجه لتسع أشرطة روائية طويلة نذكر منها "ريح السد" و"صفائح من ذهب" و"حرب الخليج وبعد" و"بنت فاميليا"، ها هو يعود إلى حضيرة أيام قرطاج بعد غياب دام ثلاث عشرة سنة حيث كانت آخر مشاركة له سنة 2006 عن شريط "آخر فيلم" والذي نوّله تانيته الذهبي الثاني بعد تانيت أول ناله سنة 1986 عن شريط "ريح السدّ".

"عرائس الخوف"، وكعادة بوزيد، لم يتم التعويل فيه على نجوم السينما المعروفين، فإذا استثنينا الممثلة القديرة فاطمة بن سعيدان والممثل نعمان حمدة وعفاف بن محمود، فإن البقية من الجيل الجديد على غرار نور ومهدي الحجري وجيهان الإمام.

وفيما يتعلق بالعنوان فإن النوري بوزيد لم يجتهد كثيرا في تسمية شريطه "عرائس الخوف" بل اكتفى بتنويع التسمية عن شريطه القديم "عرائس الطين" الذي أخرجه سنة 2002. الشريط أسلوبيًا لم يحد عن النّهج الجمالي الذي توخاه النوري بوزيد في جميع أفلامه منذ ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم، وهو التصاق كاميراه بالقضايا المجتمعيّة الراهنة وخاصة تلك التي يتلبّس بعضها بالسياسة.

"عرائس الخوف" يقدم حكاية زينة ودجو اللتان تهربان من جحيم داعش وتعودان من سوريا إلى تونس وقد تحطمتا تمامًا

"عرائس الخوف" يعود بالمتلقي إلى السنوات الأولى من الثورة وتحديدًا إلى زمن حكم الترويكا في 2013 ليسلّط الضوء على قضيّة رئيسية مازالت تلقي بظلالها إلى اليوم وهي "قضيّة تسفير الشباب إلى بؤر التوتّر"، وما انجرّ عنها من قضايا فرعية مازالت تناقش في أروقة المجتمع إلى اليوم مثل جهاد النكاح وعودة المسفّرين وتأهيل العائدين من بؤر التوتر.

لم يكن التناول السياسي لمسألة التسفير ضمن شريط "عرائس الخوف" بطريقة وثائقية بل توخى بوزيد طرائق السينما الروائية حيث يتنوّع الحكي/ الخرافة، مع تكثيف تقنية "الترجيع" وذلك حتى يساعد المتلقي على تمثل الأحداث.

"عرائس الخوف" يقدم حكاية زينة ودجو اللتان تهربان من جحيم داعش وتعودان من سوريا إلى تونس وقد تحطمتا تمامًا، جسديًا ونفسيًا حيث لم تقويا على استعادة حياتهما الطبيعية. فما كان من دجو إلا أن جنحت إلى الكتابة والتخطيط حتى تحرر ذاتها من تلك الأغلال ويتحرر لسانها من صمته. أما زينة فاختارت التيه والتخفّي والارتماء في حضن شاب مثلي.

وهنا حاولت كاميرا النوري بوزيد تبيان تلك الانكسارات التي تعرضت إليها البطلتان من خلال تقنية اللقطات الكبيرة التي تبرز انطفاء النظرات وارتعاشات الوجه المليء بالخوف والعدم والاندحار.

اقرأ/ي أيضًا: سجينات مطربات ضمن فعاليات أيّام قرطاج الموسيقية

شريط عرائس الخوف للنوري بوزيد كان غوصًا فنيًا شجاعًا في قضايا الراهن التونسي

المحامية نادية والطبيبة درّة اللّتان كانتا في مساعدة زينة ودجو طيلة ردهات الفيلم، ومن خلالهما يمكننا أن نستشفّ ردود فعل المجتمع التونسي من قضية التسفير إلى بؤر التوتر وخاصة قضية "جهاد النكاح"، سواء في المستوى القانوني أو الأخلاقي، ليخلص بنا بوزيد إلى أن المجتمع التونسي بمختلف فئاته يرفض رفضًا باتًا ما حصل ويعتبره تشويهًا لا بد من محاسبة المتسببين فيه.

الصورة السينمائية لشريط "عرائس الخوف" كانت وفية لما يعتبره النوري بوزيد "الشخصية الجمالية التونسية"،  فالكاميرا تضمّنت بيسر وبلين لأغلب المشاهد تيمات جمالية من المعمار التونسي التقليدي بالمدينة العتيقة، البرمقلي والنقشة حديدة وجليز القلالين والباب بالخوخة، إلى جانب أغاني أواسط القرن العشرين وخاصة تلك التي أنجزها يهود تونس.

شريط عرائس الخوف للنوري بوزيد كان غوصًا فنيًا شجاعًا في قضايا الراهن التونسي ومواصلة لنقاشات سياسية واجتماعية وثقافية لم تحسم بعد.

عشرة أفلام تونسية تشارك في المسابقات الأربع للمهرجان

أيام قرطاج السينمائية في دورتها الثلاثين تفسح المجال واسعًا أمام أجيال من السينمائيين التونسيين وخاصة الشباب منهم إذ نجد حضورًا تونسيًا مميزًا  في المسابقات الأربع، ففي مسابقة الأفلام الطويلة تشارك تونس بثلاثة أفلام هي نورة تحلم لهند بن جمعة، بيك نعيش لمحمد برصاوي، وقيرّة للفاضل الجزيري.

أما في مسابقة الأفلام القصيرة فإن المشاركة التونسية تكون بأربعة أفلام هي: هروب ليؤاب الدشراوي، سارتار لصبري بوزيد، سراب لفاتن الجزيري، True story لأمين لخنش. وبالنسبة لمسابقة الأشرطة الوثائقية فإن تونس تشارك بثلاثة أفلام هي الغياب لفاطمة الرياحي، فتح الله لوداد الزغلامي، علبار لسامي التليلي.

هذا إلى جانب عرض خاص لشريط "قبل ما يفوت الفوت " للمخرج مجدي لخضر. أمّا قسم "نظرة على السينما التونسية " فيقدم خمسة أشرطة طويلة وأربعة قصيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرح الشارع.. فنّ خارج الستار الأحمر

حفل كاتب أمازيغ بمدينة الثقافة.. حي على الحرية والتحرّر