12-نوفمبر-2018

نجاح تنظيمي وجدل حول نتائج المسابقات الرسمية

على مرّ تاريخها لم تكن أيام قرطاج السينمائية حدثًا ثقافيًا فلكلوريًا بسيطًا رغم المحاولات العديدة والمتكرّرة للخروج بها عن ثوابتها وقيمها الفكرية والإبداعية، إذ ظلت مهرجانًا راقيًا للتفلسف السينمائي، قريبة من الحقيقة وتتقصى الجمال أينما كان وتزرع الأمل في النفوس وفي المجتمعات.

أما وقد طويت فعاليات الدورة التاسعة والعشرين للتظاهرة السينمائية وسط إجماع المتابعين بنجاحها على المستوى التنظيمي. وتتمثل أبرز نقاط هذا النجاح في الإبهار في حفلي الافتتاح والاختتام حيث تشبّه المهرجان بالمهرجانات السينمائية التجارية العالمية بأضوائه وسجّاده الأحمر القاني وفساتين الضيفات وياقات الممثلين.

على مرّ تاريخها لم تكن"أيام قرطاج السينمائي"ة حدثًا ثقافيًا فلكلوريًا بسيطًا إذ ظلت مهرجانًا راقيًا للتفلسف السينمائي

كما تميزت الدورة بإحكام مسألة التذاكر وتجنب الفوضى التي كانت تحصل في الدورات السابقة في القاعات، وذلك إضافة لدور المؤسسة الأمنية بحضورها اللافت أمام قاعات السينما والنزل حيث يقيم الضيوف حماية للمهرجان من خطر الإفشال والإرهاب.

غير أن المتابع لنتائج المسابقات الرسمية ولأنشطة المهرجان الرئيسية والموازية بإمكانه طرح عدّة مسائل للنقاش والجدل الثقافي. إذ تبقى نتائج المسابقات في هذه الدورة مسألة تتداخل فيها المقاييس التقنية والذوقية للجان التحكيم التي عادة ما تتكون من سينمائيين متمرّسين ونقاد مختصين في الصورة والسينما. هذه اللجان لها أحيانًا نظرة مختلفة عن المتفرج العادي، إذ يبدو تذوقهم وقراءتهم للأفلام مختلفًا لذلك تأتي نتائج مداولاتهم مغايرة لما يراه الجمهور الذي يتسلح بعاطفته بدرجة أولى للحكم على الأشرطة المعروضة وهو تقريبًا ما حدث خلال هذه الدورة.

اقرأ/ي أيضًا: أيام قرطاج السينمائية.. وديكتاتورية السجّاد الأحمر

ففي المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، كانت النتائج غير متوقعة. إذ انتظر الجمهور والمتابعون من إعلاميين ثقافيين ونقاد للمادة السينمائية وحتى الجمعيات المعنية، تتويج شريط "في عينيّا" للمخرج التونسي نجيب بلقاضي بـ"التانيت الذهبي"، وهي أهم جائزة في أيام قرطاج السينمائية. وقد فاز بهذا التانيت مخرجون كبار نحتوا أسماءهم على جدار التظاهرة السينمائية على غرار المصري يوسف شاهين، والسوري محمد ملص، والفلسطيني ميشال خلايفي، والتونسي النوري بوزيد، والجزائري مرزاق علواش، والسينغالي جبريل ديوب واللبناني برهان علوية وغيرهم.

بيد أنه على خلاف المتوقع، اختارت لجنة التحكيم التي ترأستها الناقدة السينمائية الأمريكية ديبورا يانغ، شريط "فتوى" للمخرج التونسي محمود بن محمود، وهو ما خلق جدلًا فنيًا وثقافيًا تداولته شبكات التواصل الاجتماعي حتى أنه ثمة من ذهب للحديث عن مؤامرة تحاك ضد شريط نجيب بلقاضي يقودها وزير الثقافة.

لكن النقاشات حول الأعمال الفنية والابداعية باعتبارها أعمالًا تتسم بالنسبية لا يمكن إخضاعها للعلوم الصحيحة، وبالتالي تتطلب جانبًا من الموضوعية والتواضع. تستلزم مثل هذه المسائل نقاشًا هادئًا وأكثر عمقًا، يخوض في تقنيات السينما والدوافع التي حملت المخرجين إلى الأفكار التي أرادت طرحها وأهمية هذا الطرح مجتمعيًا. ويبقى، في اعتقادي، يبقى النقد السينمائي المختص هو الأقدر على الخوض في هذه التباينات.

من  أكثر الكلمات ترديدًا خلال الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية هي عبارات الأمل والحرية والحب وهي القيم العليا للمهرجان

في الأثناء، من أكثر الكلمات ترديدًا خلال هذه الدورة، سواء في تصريحات الممثلين والمخرجين والفاعلين السينمائيين بل وأكدها رؤساء لجان التحكيم والمتوّجين في حفل الاختتام، هي كلمات: الأمل والحرية والحب. ومن يتأمل هذه الكلمات المفاتيح يجد أنها القيم العليا للمهرجان بل هي القيم الإنسانية، إذ تحدث رائد أنضوني، المنتج السينمائي الفلسطيني ورئيس لجنة تحكيم الافلام الوثائقية، خلال تقديمه الأفلام المتوجة، عن تطرق هذه الأفلام لهذه القيم الأساسية في الحياة.

وأشار بدوره المخرج التونسي محمود بن محمود بعد تتويجه إلى دور السينما في بث الأمل في مواجهة الإرهاب والتشدد والعنف. كما تحدث المخرج المصري محمد صيام، صاحب شريط "أمل" المتوج بـ"التانيت الذهبي" في فئة الأفلام الوثائقية الطويلة، عن منع شريطه بعدة مهرجانات عربية لأنه إاتقد الوضع السياسي بمصر، وأعلى من شأن الثورة المصرية موضّحًا أن نقده ليس إلا ترجمة لمحبة صادقة لوطنه.

اقرأ/ي أيضًا: "أيام قرطاج السينمائية" في السجون.. السينما تجتاح السجن!

وقد تحدث كذلك المخرج السوري جود سعد، الحاصل على "التانيت البرونزي" للأفلام الطويلة عن شريطه "مسافرو الحرب"، عما خلفته الحرب في بلده سوريا، التي قال إنها مهد الإنسانية، من ندوب مشيرًا أنها ستنتصر وسلاحها في ذلك الأمل والحرية والمحبة. كما كان حديث الممثل التونسي أحمد الحفيان، صاحب جائزة أحسن ممثل عن دوره في شريط "فتوى، مفعمًا بحب عائلته وبمحبة تونس وقد أهدى تتويجه لكل التونسيين.

من جانب آخر، تعدّدت، خلال الدورة 29 لأيام قرطاج السينمائية، الأنشطة الموازية ومنها بالخصوص "أيام قرطاج للمحترفين"، وهي منصة بُعثت سنة 2015 مهمتها إقامة علاقة بين صانعي الأفلام من إفريقيا والوطن العربي وذلك من خلال ورشات العمل والأنشطة المختلفة. وهي مساحة مخصصة لاكتشاف مواهب جديدة، إذ تتكون هذه المنصة من خمسة أقسام هي: شبكة وتكميل واللقاءات والندوات ومحادثات قرطاج.

وقد استضاف "أيام قرطاج للمحترفين" أسماء هامة مثل أمين بوحافة، الحائز على جائزة "سيزار" لأحسن موسيقى تصويرية سنة 2015 عن شريط "تمبكتو"، والمخرج محمد صالح هارون مخرج شريط "الرجل الذي يبكي" الحائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي سنة 2010، كما تطرقت الندوة إلى مسألة الطرق الجديدة للتمويل السينمائي. غير أن "أيام قرطاج للمحترفين" على أهمية محتواها ظلت بلا جمهور وبالتالي لا بد من العناية بها أكثر والترويج لها بين المختصين والمتابعين.

  ينمي ذهاب السينما للسجون والتحامها بالسجناء وبحضور المخرجين والممثلين والتقنيين الإحساس بالحرية لنزلاء السجن

والنشاط الثاني الموازي خلال هذه التظاهرة، والذي لا يمكن إغفاله، هو "أيام قرطاج في السجون"، وهي مبادرة تشاركية بين أيام قرطاج السينمائية والإدارة العامة للسجون والمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب (مكتب تونس). وقد عرف هذا النشاط، خلال هذه الدورة، تطورًا ملحوظًا نوه به الحقوقيون والمثقفون والناشطون السياسيون.

إذ ينمي ذهاب السينما للسجون والتحامها بالسجناء وبحضور المخرجين والممثلين والتقنيين، الإحساس بالحرية لنزلاء السجن، وهو مكسب رمزي لـ"أيام قرطاج السينمائية" وسطر ذهبي في سجلها التاريخي.

ختامًا، هي دورة أخرى من أيام قرطاج السينمائية انقضت بهناتها وإخفاقاتها ونجاحاتها، لكنها أكدت أن السينما فعل حياة وجمال ومحبة، وفعل إبداعي كوني وإنساني. كما رسخت لدينا أن الثقافة في تونس ومنذ ستّينيات القرن الماضي لم تخطئ عندما اختارت تأسيس هذه التظاهرة السينمائية التي دائما ما تؤكد تميّزها في المحيطين العربي والإفريقي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قراءة في الشريط الوثائقي الروائي "غزالة ".. هشاشة ناصعة

أيّام قرطاج الموسيقيّة تأبى الارتجال