18-أكتوبر-2019

حفل السجينات بمدينة الثقافة كان مشبعًا بالرمزية والدلالات (صورة تقريبية)

 

رغم الإجراءات الأمنية المشدّدة على قاعة مسرح المبدعين الشبّان بمدينة الثقافة مساء 16 أكتوبر/تشرين الأول 2019، إلا أنّ الإحساس العالي بالحريّة والانعتاق الذي خيّم على المكان لم يمنع إحدى السجينات من البكاء خلال العرض الذي قدمته فرقة موسيقية وغنائية وفدت من سجن النساء بمنوبة في إطار فعاليات الدورة السادسة لأيام قرطاج الموسيقية.

كانت دموع السجينة تسيل على خدها وهي تغنّي أمام جمهور خاص من الإعلاميين ومسؤولي الإدارة العامة للسجون والإصلاح التابعة لوزارة العدل وأهالي السجينات. ولم تكن تلك الدموع سوى مساحة أمل تتخارج من ذات السجينة لتهيمن على فضاء المسرح بأكمله ولتقول ما يختلج في صدور باقي السجينات من توق لزرقة السماء وتبعث رسائل للحضور أن السجن لم يعد مؤسسة عقابية همها الزجر وسلب الحرية بل هي مؤسسة لإصلاح وتقويم ما يطرأ على الذات البشرية من اعوجاج سلوكي ظرفي قابل للتطويق والمرافقة.

قدمت مجموعة من سجينات سجن النساء بمنوبة عرضًا موسيقيًا ضمن فعاليات الدورة السادسة لأيام قرطاج الموسيقية

اقرأ/ي أيضًا: افتتاح أيام قرطاج الموسيقية: رحلة موسيقية نفخت روحًا جديدة في الحياة

دام العرض الموسيقي السجني ساعة كاملة وقد أنجزته عشر سجينات اصطففن وقوفًا بكامل أناقتهن وفساتينهن ذات الطراز التونسي التقليدي وفي أبهى زينتهن خلف عدد قليل من عازفين موسيقيين ينتمون لإدارة السجون.

وكانت الاصوات بديعة ورقيقة وناعمة وكان الشجن يملأ الفضاء المسرح مباشرة مع شروع السّجينات في أغنية منتقاة من المالوف التونسي يقول مطلعها "زعمة النار تطفاني ونبرا من وجعاتي"، وتواصلت الاختيارات التونسية وغنّت إحدى السجينات المطربات أغنيتين للراحلة صليحة هما "شرقي غدا بالزين" و"عرضوني زوز صبايا"، وغنّت ثانية رائعة الفنان زياد غرسة "المقياس".

وتقدّت سجينة أخرى لتغني من رصيد موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب "يا ورد مين يشتريك" و"يا مسافر وحدك"، فيما غنت نزيلة رابعة إحدى أجمل أغاني الفنانة أسمهان وهي "ليالي الأنس في فيانا" ليُختم العرض بترديد النشيد الوطني التونسي.

صرّحت سجينة مغنيّة لـ"ألترا تونس" أنه عندما أتت بها الأقدار للسجن لم تتردّد في الانخراط في نادي الموسيقى الذي ساهم في تطوير موهبتها

الحفل في ذاته كان مفعمًا بالجانب الإنساني وخاصة عندما فسح المجال في نهايته للسجينات بلقاء الأهالي والتحدث للإعلاميين، وقد صرّحت إحداهن لـ"ألترا تونس" أنها تحب الموسيقى وتهوى الغناء منذ صغرها مضيفة أنه عندما أتت بها الأقدار للسجن لم تتوانى في الانخراط في نادي الموسيقى الذي ساهم في تطوير موهبتها في الغناء خاصة مع النشاط الدوري ثلاث مرات في الأسبوع تحت إشراف أستاذ في الموسيقى.

وختمت السجينة حديثها أنها منخرطة أيضًا في أنشطة نادي المسرح وهي تعشق الفعل الثقافي داخل السجن لأنه ينسيها همومها ويهون عليها قسوة سلب الحرية ويجنبها الوحدة القاسية، على حد قولها.

أما السجينة التي غنّت باكية قالت لـ"ألترا تونس" إن دموعها كانت تلقائية وعفوية خاصة عندها شاهدت عائلتها بين الجمهور وأيضا لشعورها أنها بصدد تسويق صورة جديدة لذاتها أمام الحضور. وحدثتنا عن نادي الموسيقى بسجن النساء بمنوبة الذي اعتبرته مساحة حرية وفضاء للتواصل قبل الفن خاصة وأن النادي يقيم حفلين في الشهر داخل السجن.

قالت السجينة التي غنّت باكية لـ"ألترا تونس" إن دموعها كانت تلقائية وعفوية خاصة عندها شاهدت عائلتها بين الجمهور وأيضا لشعورها أنها بصدد تسويق صورة جديدة لذاتها أمام الحضور

اقرأ/ي أيضًا: "أيام قرطاج السينمائية" في السجون.. السينما تجتاح السجن!

كما التقينا سفيان مزغيش، الناطق الرسمي للإدارة العامة للسجون والإصلاح، الذي بيّن في البداية أن هذا الحفل الموسيقي القادم من سجن منوبة هو الثاني من نوعه بعد مشاركة نوعية في الدورة الخامسة من أيام قرطاج الموسيقية مشيرًا إلى أن هذه الأنشطة تندرج ضمن اتفاقية شراكة تجمع الإدارة العامة للسجون والاصلاح بوزارة الشؤون الثقافية.

واعتبر مزغيش أن "المنظومة السجنية التونسية تعتبر الفن والثقافة من المحفزات الأساسية لتعديل السلوك والذهاب نحو الاندماج وتجنب العود" مضيفًا أنه وحسب المعايير الدولية وخاصة "قواعد نيلسن مانديلاّ" فإن سلب الحرية لا يمنع السجين من ممارسة حقه الانساني في الثقافة لان ذلك يقلص الفوارق بين ما يحدث داخل السجن وخارجه وفق تأكيده.

سفيان مزغيش: المنظومة السجنية التونسية تعتبر الفن والثقافة من المحفزات الأساسية لتعديل السلوك والذهاب نحو الاندماج وتجنب العود

وختم الناطق الرسمي للإدارة العامة للسجون والإصلاح حديثه معنا بالإشارة إلى وجود مسارات إصلاح وتعديل شملت المنظومة السجنية أقدمت عليها تونس في السنوات الأخيرة بالاشتراك مع المجتمع المدني التونسي والمنظمات الدولية على غرار المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب وذلك من أجل كسر الصورة القديمة للسجن والسجين وبناء صورة جديدة تليق بتونس الآن وهنا.

حفل السجينات بمدينة الثقافة لم يكن حفلًا نمطيًا ضمن تظاهرة أيام قرطاج الموسيقية في دورتها السادسة بل كان حفلًا مشبعًا بالرمزية والدلالات، وهو يمسّ في جوهره بالجوانب الإنسانية والقيمية بجعل السجين المسلوب الحرية بمقتضى القانون مواطنًا مكتمل الحقوق كما يمكن تنزيله ضمن مشهديات تونس الجديدة بعد الثورة.

لم يكن حفل نزيلات سجن النساء بمنوبة، بالنهاية، ترفًا أو إثارة بل كان استثناءً جماليًا وتجديديًا ضمن برمجة فعاليات أيام قرطاج الموسيقية إلى جانب باقي الأنشطة الأخرى الموزعة بين الحفلات الموسيقية التونسية والعربية والافريقية الموزعة أغلبها على مسارح العاصمة، إضافة إلى التجريب الموسيقى والفعاليات العلمية من ورشات وندوات ولقاءات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في أدب السجون: قصائد عمّار منصور المهرّبة من السجن نموذجًا

السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية