23-مايو-2019

مبادرات شبابية تهدف لتغيير الواقع الثقافي المهمش في القصرين

 

تزخر ولاية القصرين أو "السليوم"، كما سماها الرومان قديمًا، بمخزون ثري من الآثار والإمكانيات الفلاحية والمواد الأولية ما يستلزم إعادة التفكير في السياسة التنموية المتبعة تجاهها، فهي تحتوي على نسبة مهمة من الآثار الواقعة في البلاد التونسية أغلبها تحت طائلة الإهمال، وأراضي زراعية شاسعة من الكروم والتفاح والقمح والشعير والزيتون إضافة إلى احتوائها على جبال من الحجر الأبيض الذي يمثل مادة أولية لصناعة الإسمنت وكذا مادة الرخام المتواجد في تالة بجودة عالمية. بيد أن التهميش يعصف بهذه الولاية منذ عقود ما جعلها تتذيل الترتيب في مؤشر النمو مقابل تصدرها المراكز الأولى في نسبة البطالة.

وقد انعكست هذه المؤشرات السلبية بصورة مباشرة على الواقع الثقافي في القصرين التي تضم واحدًا من أعرق المهرجانات الصيفية في تونس وهو "مهرجان سيدي تليل" الذي تأسس قبل سنتين من مهرجان قرطاج، بيد أن هذه العراقة لم تشفع للواقع الثقافي في الولاية. هو واقع ظل حبيس انتظار استثمار الدولة في ظل محدودية دور الثقافة في تنشيط الحياة الثقافية لأسباب متعددة منها الافتقار لأبسط المعدات وغياب تام لقاعات السينما عدا عن العزوف الشبابي على الأنشطة الثقافية المقترحة من أجهزة الدولة على محدوديتها.

شهاب (ناشط ثقافي من القصرين): وضع ولاية القصرين يتقهقر لأن الدولة لا تهتم بدور الثقافة والشباب التي تقدم أنشطة هزيلة وضعيفة لا تثير اهتمام الشباب في الجهة

اقرأي أيضًا: "هذي غناية ليهم".. "للناس اللي تعاني" في سفوح جبال القصرين

يرى شهاب، ناشط في المجال الثقافي من مدينة القصرين، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن وضع المدينة يتقهقر لأن الدولة لا تهتم بدور الثقافة والشباب في ولاية القصرين قائلًا :"تنظم دور الثقافة أنشطة هزيلة وضعيفة لا تثير اهتمام الشباب، لو كانت هناك مراقبة حقيقية لكان الوضع أفضل من ذلك". هذا الرأي يوافقه حمزة العجلاني، مهندس ورئيس المجموعة الموسيقية "ميعاد"، الذي يؤكد أن ولاية القصرين تعاني من غياب تام للاستثمارات الثقافية للدولة "لا تقوم الدولة بدورها، لا توجد مشاريع تنموية فما بالك بالمشاريع الثقافية"، هكذا يقول.

ولكن دون انتظار استثمار الدولة في الشأن الثقافي، استطاع مجموعة من شباب الولاية تحقيق اختراقات بمبادرات فردية أهمها تنظيم مهرجان الشباب في القصرين الذي تمكن في ثالث دورة من بلوغ مرتبة "المهرجان الدولي" وجلب فنانين عالميين.

يحدثنا حمزة، مدير المهرجان، أن المبادرات الفردية هي أهم سلاح لمحاربة التهميش الذي تمارسه السلطة المركزية وفق قوله، مشيرًا إلى أن المجهودات الشبابية المبذولة أمكنت من إنتاج "أوبريت عالية" وهو مشروع فني ضخم يجمع أكثر من 50 مشروع فنان من ولاية القصرين. يعتبر حمزة أن مشروع "أوبريت عالية" هو قصة نجاح قائلًا: "مكن هذا المشروع عددًا كبيرًا من الفنانين الصغار من الظهور والمشاركة في مهرجانات دولية والعزف أمام ألاف الاشخاص وهذا في حد ذاته نجاح".

يضم "أوبريت عالية" أكثر من 50 مشروع فنان من القصرين

ولم تتوقف المبادرات الثقافية لهذه المجموعة الشبابية عند حدود تأسيس المهرجان، بل أسست أيضًا مجموعة موسيقية باسم "ميعاد". وتعتبر جمعية البعد السابع للثقافة والمواطنة أول نواة لتأسيس "أوبريت عالية" ومن بعدها مجموعة "ميعاد" الموسيقية.

يقول حمزة، مؤسس المجموعة، لـ"ألترا تونس" إن المجهود المبذول والذي لا يزال مستمرًا إلى الآن أكسب الجميع خبرة جيدة ساهمت في تأسيس هذه المجموعة، مبينًا "درست في تونس العاصمة أين كبر شغفي بالثقافة وازددت تمسكًا بآلتي الموسيقية وهي الكمان، وعند عودتي إلى القصرين بعد نهاية الدراسة بقي حلم تأسيس مجموعتي الموسيقية الخاصة يراودني واليوم بعد ثلاث سنوات أصبح الحلم حقيقة ولا تزال الأحلام تكبر".

حمزة (مؤسس "ميعاد"): هدفنا هو تسويق صورة ثقافية حقيقية عن القصرين التي طالما عانت من صورة سيئة بسبب تفشي الإرهاب

اقرأ/ي أيضًا: الأدب الرعوي وأغاني الرعاة.. سيرة "أنبياء" رسالتهم حب الحياة

وينتمي جميع فريق مجموعة "ميعاد" الموسيقية إلى ولاية القصرين، وهدفها الرئيسي، وفق حمزة، هو تسويق صورة ثقافية حقيقية عن ولاية القصرين التي طالما عانت من صورة سيئة بسبب انعدام الأمن وتفشي الإرهاب وفق قوله، مشيرًا إلى أن إنتاجات المجموعة في أغلبها تنتمي للمخزون الثقافي للجهة. وتتكون الفرقة من مؤسسها وعازف الكمان حمزة عجلاني، وعازف القيثارة نزيه بن عبد الله، والمغنية أمنة نجلاوي، وعازفي الإيقاع محمد هيشري وعز الدين علوي.

وقد مضى على تأسيس المجموعة ما يقارب 5 أشهر، قامت خلالها بعدة عروض موسيقية أغلبها في ولاية القصرين إلى جانب عروض في ولايات أخرى. كما أصدرت أول كليب فيديو خصصته لتكريم أرواح ضحايا فاجعة "سبالة أولاد عسكر"، من كلمات حمزة عجلاني ولحن نزيه بن عبدالله وصوت أمنة نجلاوي الجميل. وتقول إحدى مقاطع الأغنية "في يدو محرمة خضرة بالنوار يتسمى كبير وهو تحتو ثلاثة صغار.. قالولو أمك من كادحات الدوّار ركبت من تالي في كميون الجار.. اتخطفت في فجر مضبب غدّارهاجت غبّارة و المكتوب صاير.. ماتت هي وأربعطاش حراير".

أغنية "حراير" للمجموعة الموسيقية "ميعاد"

كمتابع للشأن الثقافي في ولاية القصرين، يرى شهاب، خلال حديثه لـ"ألترا تونس" أن هذه المجموعة هي بادرة أمل ستكون قاطرة الثقافة التي يدفعها شباب الجهة عبر المبادرات الفردية وفق قوله، مضيفًا: "أنا متأكد اليوم أنه يوجد شباب في الجهة بدأ فعلًا في تأسيس مبادرة ثقافية بعد رؤية تجربة ميعاد الموسيقية، هذه المبادرة هي التي ستعطي الأمل لشباب الجهة لبناء واقع ثقافي جديد".

تمثل المبادرات الثقافية الشبابية مؤشرات جدية على تغيير الواقع الثقافي في القصرين، فنجاح مهرجان الشباب في القصرين عبر جذب عدد كبير من الزوار وتحويله في مدة وجيزة من صفة المهرجان الجهوي إلى الدولي وكذا تأسيس مجموعة "ميعاد" الموسيقية، هي خيوط أمل على قدرة الشباب في القصرين على التألق والإبداع في المجال الثقافي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة.. إحياء لذاكرة الفن البديل وتشبّث بالحرية

"بين حياة وموت".. عندما يضع المسرح إصبعه على جرح العدالة الانتقالية