22-سبتمبر-2023
وزارات تونس

يطرح "تدقيق الانتدابات" شكوكًا حول الغايات من خلفه (صورة أرشيفية لمقر رئاسة الحكومة في تونس/أنيس الميلي/أ.ف.ب)

 

أصدر رئيس الدولة قيس سعيّد، في الرائد الرسمي الصادر بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2023، الأمر الرئاسي المتعلّق بإجراء "تدقيق شامل لعمليات الانتداب والإدماج" في الوظيفة العمومية، الذي كان قدّ كلّف رئيس الحكومة أحمد الحشاني مباشرة بعيْد تكليفه بإعداده. يأتي هذا الأمر في سياق تنزيل الخطاب الرئاسي المتواتر، طيلة الفترة المنقضية، بعنوان "تطهير الإدارة".

فلم يتردّد رئيس الدولة في توجيه اتهاماته، في عديد المناسبات، بوجود "أطراف في الإدارة" تعمل على تعطيل المشاريع الاستثمارية أو إنشاء الشركات الأهلية. وهو اتهام يتوازى مع اعتباره أن هذه الأطراف هي نفسها التي "تسلّلت" للإدارة طيلة سنوات ما بعد الثورة على أساس الموالاة، وفقه.  

يطرح "تدقيق الانتدابات" شكوكًا حول الغايات من خلفه، بين إصلاح الإدارة أو التغطية على الفشل في إدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، مع مخاوف من نزعة استئصالية وعدم احترام الضمانات القانونية وقواعد الشفافية والنزاهة طيلة مسار التدقيق

ويطرح الأمر شكوكًا حول غاياته، بين إصلاح الإدارة عبر التثبّت من نزاهة عمليات الانتداب في الإدارة العمومية، وبين التغطية على فشل رئيس الدولة في إدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية عبر تحميل المسؤولية للإدارة العمومية، دونًا عمّا يطرحه شعار "التطهير" من مخاوف نزعة استئصالية عدا مخاوف عدم احترام الضمانات القانونية وقواعد الشفافية والنزاهة طيلة مسار التدقيق. 

 

 

  • في شوائب عمليات التدقيق

يضع الأمر الرئاسي هيكلية عمودية لعملية التدقيق تنطلق سفليًا من فرق تدقيق ثم لجان تدقيق (تتكوّن من مراقبين ومتفقدين منتمين لهيئات الرقابة أو التفقديات) ثم لجنة قيادة (تتكوّن من رئيس الحكومة ورؤساء الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية وهيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية وهيئة الرقابة العامة للمالية وهيئة الرقابة العامة لأملاك الدولة والشؤون العقارية إضافة لثلاثة قضاة من القضاء العدلي والإداري والمالي يتم تعيينهم بمقتضى أمر) وأخيرًا رئيس الجمهورية الذي يتلقّى تقريرًا ختاميًا من لجنة القيادة على ضوء تقارير لجان التدقيق.

يطرح المسار الإجرائي الوارد في الأمر ملاحظات أولّها ما تم ضبطه أن مهام لجنة القيادة تتمثّل في تكليف لجان التدقيق وتحديد مهامها وإعداد تقرير ختامي يقدّم لرئيس الدولة، لكن دون تحديد آلية انعقاد لجنة القيادة هذه كجهة الدعوة ودورية انعقادها وأيضًا عدم تحديد طريقة اتخاذ القرار للمصادقة مثلًا على التقرير الختامي خاصة بالنظر لتركيبتها الزوجية.

لجان التدقيق مطالبة من جهتها بإنهاء أعمالها في أجل شهرين من تاريخ مباشرتها لمهامها، دون إمكانية التمديد، وهي مدة محدودة أخذًا بعين الاعتبار لمحدودية عدد المتفقدين والمراقبين العموميين والأعمال المنوطة بعهدتهم

غياب هذه التدقيقات يعكس الطابع الرئاسي البحت للجنة الخاضعة لإشراف رئاسة الحكومة والتي يرأسها رئيس الحكومة أو من ينوبه. ويظهر أن دور لجنة القيادة هو أساسًا إعداد أذون المأمورية التي يصدرها رئيس الحكومة لتقوم لجان التدقيق بمهامها.

الملاحظة الأخرى تتعلّق بضيق الآجال المقترحة. فلجنة القيادة مطالبة بمجرد استكمال تركيبتها بإصدار أذون بالمأمورية للجان التدقيق في ظرف 10 أيام، وهي مدة وجيزة باعتبار أن لجنة القيادة مطالبة بتحديد مهام جميع لجان التدقيق التي ستشمل مختلف الهياكل العمومية من الوزارات والهياكل التابعة لها والمنشآت العمومية والبنوك العمومية والشركات ذات المساهمة العمومية وغيرها.

ولجان التدقيق مطالبة من جهتها بإنهاء أعمالها في أجل شهرين من تاريخ مباشرتها لمهامها، دون إمكانية التمديد، وهي مدة محدودة أخذًا بعين الاعتبار لمحدودية عدد المتفقدين والمراقبين العموميين من جهة والأعمال المنوطة بعهدتهم لتدقيق الانتدابات والإدماج طيلة عشرية كاملة في عشرات الهياكل العمومية.

ستشمل عملية التدقيق دراسة ملفات ما لا يقل عن 220 ألف موظف عمومي وهم المنتدبون والمدمجون في الوظيفة العمومية بين 2010 و2021

فمهام فرق التدقيق تتمثّل أساسًا في التثبت في مدى احترام شروط الانتداب والإدماج ومدى تلاؤمها مع التشريع الجاري به العمل، والتثبّت، فرعيًا وعلى وجه التخصيص في نصّ الأمر، من صحّة الشهائد العلمية. وتباعًا ستشمل عملية التدقيق بذلك دراسة ملفات ما لا يقل عن 220 ألف موظف عمومي وهم المنتدبون والمدمجون في الوظيفة العمومية بين 2010 و2021 باعتبار ارتفاع عدد الموظفين من 435 ألف عام 2010 حسب المعهد الوطني للإحصاء إلى نحو 655 ألف موظف عام 2022 بحسب قانون المالية لعام 2022.

 

 

  • سحب الانتداب والإدماج: جزاء غامض

نصّ الفصل 7 من الأمر الرئاسي أن الإدارات والهياكل المعنيّة ستتولّى سحب قرارات الإدماج أو الانتداب التي ثبت في شأنها عدم احترام الشروط والإجراءات المحددة في النصوص التشريعية والترتيبية المنطبقة عليها أو التي ثبت اتخاذها بناء على شهائد علمية مزوّرة أو غير مطابقة لشروط الإدماج أو الانتداب، وذلك بصرف النّظر عن التتبّعات الجزائيّة في الغرض.

يحدّد بذلك هذا الفصل الجزاء الصادر من السلطة الإدارية ضد الأعوان العموميين المعنيين، بيد أنه جاء غامضًا باعتبار أن عبارة سحب قرارات الإدماج أو الانتداب تعني استحداث آلية جديدة للتخلي عن الأعوان، ليأتي السؤال حول مدى شرعية تنصيص أمر رئاسي على ما قد يكون خاضعًا لمجال القوانين وتحديدًا النظام الأساسي للوظيفة للعام 1983. كما لا يُعرف ما إن كانت الإدارة ستطالبهم تباعًا باسترجاع المستحقات السابقة خاصة بعد الإشارة لإثارة دعوى جزائية ضدهم على غرار التدليس في صورة تزوير الشهائد العلمية.

لا يُعرف ما إن كانت الإدارة ستطالب الأعوان العموميين المعنيين تباعًا باسترجاع المستحقات السابقة خاصة بعد الإشارة لإثارة دعوى جزائية ضدهم على غرار التدليس في صورة تزوير الشهائد العلمية

كما يحلّ السؤال ما إن كان السحب سيتوازى مع التعويض. فمثلًا في صورّة تبيّن أن اثنين من أصل عشرة منتدبين في مناظرة خارجية لشركة عمومية يحملون شهادة مزورة أو لم يتم احترام شروط الانتداب في حقهم، فهل سيتمّ بسحب قرارات انتدابهم، تعويضهم باثنين من القائمة الاحتياطية السابقة أم سيتمّ فتح باب انتداب مجددًا للمواقع الشاغرة، أم لن يتمّ تعويضهم البتّة. في صورة إعمال الفرضية الأخيرة، يمثّل ما سُميّ سحب قرارات الانتداب والإدماج فرصة لتقليص أعداد الموظفين العموميين، أخذًا بعين الاعتبار سياسة الحكومة في تجميد الانتدابات طيلة السنوات الأخيرة سعيًا للتقليص من كتلة الأجور في الميزانية العامة للدولة.

وفيما يتعلقّ بسحب قرارات الإدماج بالخصوص، تحلّ، نظريًا، فرضية توظيف مسار التدقيق لمراجعة قرارات حكومات سابقة في تسوية وضعية العاملين الوقتين حسب الآليات المعمول بها على غرار الآلية 16 (عقود تربّص في إطار أشغال ذات مصلحة عامّة) بعنوان عدم ملائمة التسوية للتشاريع الجاري بها العمل. وهو ما يعني استعادة مناخ التوتر الاجتماعي لآلاف الأعوان المعنيين، وهو ما لا يرجّح أن تذهب فيه حكومة أحمد الحشاني، وإن تبقى كل الاحتمالات واردة بالنظر للصيغة العامة وغير الدقيقة الواردة في نص الأمر.

من سيتمّ سحب قرارات انتدابهم، هل سيتم تعويضهم من القائمة الاحتياطية السابقة أم سيتمّ فتح باب الانتداب مجددًا للمواقع الشاغرة، أم لن يتمّ تعويضهم البتّة. وفي صورة إعمال الفرضية الأخيرة، سيعني ذلك المواصلة في سياسة تجميد الانتدابات سعيًا للتقليص من كتلة الأجور في الميزانية

ولكن استباقًا لكل ذلك، لم يحدّد الفصل تاريخ سحب قرارات الإدماج أو الانتداب، باعتبار أن مسار التدقيق منتهاه ظاهرًا هو تقديم تقرير ختامي لرئيس الدولة، الذي قد يمارس سلطة رقابية على أعمال لجنة القيادة ولجان التدقيق، وعلى إثرها يأذن بإنفاذ نتائج أعمالها أو بعد طلب تعديلها. ليمثّل السحب بذلك خاتمة مسار التدقيق بعد رفع التقرير الختامي، وإن ما كان يظلّ الغموض عمومًا  بيًنا في هذا المضمار.

وفي جانب متصل، وإن ما كان من المنتظر أن يتولى المعنيون بسحب قرارات إدماجهم أو انتدابهم الطعن بالإلغاء أمام المحكمة الإدارية، يأتي السؤال، راهنًا، حول مطالب توقيف أو تأجيل التنفيذ التي سيتمّ تقديمها بالتزامن، وموقف رئيس المحكمة الإدارية منها، خاصة وأنه من البيّن أن الأمر يتعلق بنتائج يصعب تداركها. 

  • المواجهة والشفافية؟

تغيب في الأمر الرئاسي، في الأثناء، ضمانات المواجهة وتحديدًا التنصيص الصريح على حق الأعوان المعنيين من تقديم دفوعاتهم قبل صدور قرار سحب قرارات انتدابهم أو إدماجهم. 

تغيب في الأمر الرئاسي ضمانات المواجهة وتحديدًا التنصيص الصريح على حق الأعوان المعنيين من تقديم دفوعاتهم قبل صدور قرار سحب قرارات انتدابهم أو إدماجهم

كما لم ينصّ الأمر، أيضًا، على نشر التقرير الختامي للجنة القيادة أو التنصيص على نشره بعد حذف المعطيات الشخصية أو على الأقل نشر خلاصته، سواء في الرائد الرسمي أو على الأقل في الموقع الإلكتروني لرئاسة الحكومة.

غياب الشفافية بذلك يحول دون إعمال الرقابة المجتمعية لمسار تدقيق جاء بعنوان "تطهير الإدارة" وبالخصوص مراقبة مدى احترام الضمانات القانونية وعدم توظيف التدقيق لتصفية نقابيين أو موظفين متحزّبين معارضين للسلطة مثلًا.

  • أي غاية من التدقيق؟

من اللافت، ختامًا، في الأمر الرئاسي هو أن العهدة الزمنية التي تغطيها فترة التدقيق تمتد من 14 جانفي/يناير 2011 إلى 25 جويلية/يوليو 2021، أي عشرية ما بعد الثورة التي شهدت مسار بناء "ديمقراطية غير مكتملة" تم إيقافه عبر التدابير الاستثنائية التي تحوّلت مطيّة لفترة انتقالية جديدة انتهت لتأسيس لنظام "هجين" حتى الساعة. 

يطرح السؤال حول عدم شمول فترة التدقيق لفترة ما قبل الثورة خاصة وأن شبهات الفساد في عمليات الانتداب في الوظيفة العمومية وقتها معزّزة بحكم سيطرة حزب "التجمع" حينها على مفاصل الدولة

يعكس تحديد العهدة بهذه العشرية، التي لا يردّد أنصار الرئيس بوصفها أنها "سوداء"، استهداف رئيس الدولة للطبقة السياسية بعد الثورة. وهو ما يطرح السؤال، من باب المشروعية، حول عدم شمول فترة التدقيق لفترة ما قبل الثورة خاصة وأن شبهات الفساد في عمليات الانتداب في الوظيفة العمومية وقتها معزّزة بحكم سيطرة حزب "التجمع" المنحلّ حينها على مفاصل الدولة، وإخضاع الانتداب لمعايير غير موضوعية دونًا عن استشراء الفساد في مناظرات الوظيفة العمومية.

في الأثناء، قد يمثل التدقيق فرصة مثالية لرئيس الدولة للتقليص في عدد الموظفين العموميين وبالتالي التقليص في كتلة الأجور، وهي من العناوين الرئيسية في برنامج إصلاح الوظيفة العمومية. بذلك يصبح التدقيق بابًا خلفيًا يشرعن غاية ارتآها الرئيس دون تصريح.

قد يمثل التدقيق فرصة مثالية لرئيس الدولة للتقليص في عدد الموظفين العموميين وبالتالي التقليص في كتلة الأجور، بذلك يصبح التدقيق بابًا خلفيًا يشرعن غاية ارتآها الرئيس دون تصريح

يتقاطع ذلك، بالأساس، مع الهدف الرئيسي المعلن وهو "تطهير الإدارة" بما لا يشمل فقط طرد الأعوان ولكن أيضًا الإعفاء من الخطط الوظيفية. إذ تزامن نشر الأمر المتعلق بالتدقيق في الانتدابات، مع أمر رئاسي آخر نصّ على إلغاء الفصل 9 من الأمر المتعلق بضبط نظام إسناد الخطط الوظيفية بالإدارة المركزية والإعفاء منها.

وينصّ الفصل المُلغى على أنّ "الإعفاء من الخطط الوظيفية يتمّ بمقتضى أمر وعلى أساس تقرير كتابي صادر عن الوزير الذي يمارس سلطة التسلسل أو الإشراف الإداري إزاء الأعوان المعنيين يُوجه إلى العون المعني بالأمر لتقديم ملاحظاته الكتابية'". تباعًا، يفتح هذا الإلغاء الباب لتيسير الإعفاء من الخطط الوظيفية بالإدارة المركزية (رئيس مصلحة، وكاهية مدير، ومدير، ومدير عام وكاتب عام وزارة) وتحديدًا التخلّي عن شرط التقرير الكتابي.

بالنهاية، وتجاوزًا للنوايا المعلنة لإطلاق مسار التدقيق وهو التثبّت من سلامة إجراءات الانتداب والإدماج في الوظيفة العمومية، تحوم الشكوك حول غاياته خاصة وأنه يتنزّل تحت عنوان "التطهير" بما يحمله من حمولة إجراءات استثنائية وتمييزية على حساب الضمانات القانونية.