06-يونيو-2023
وزارات تونس

لا يتعلق الأمر اليوم في الإدارة بتعفن يداوى بالتطهير، بل بشلل لا تنفع معه المطهرات الطبية جميعها (صورة توضيحية/أنيس الميلي/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

عاد قيس سعيّد، في معرض حديثه عن صعوبات توفير المواد التموينية الأساسية التي تشهدها جهات عديدة من تونس منذ مدة، وأثناء لقاء له مؤخرًا مع وزير الفلاحة، لموضوع الاحتكار، ولكن أيضًا للحديث عن أولئك الذين لا يتعاونون مع الدولة من داخل الإدارة، مستعملاً مرة أخرى مصطلح التطهير.

التطهير الذي يتحدث عنه الرئيس وأنصاره في تونس، تجاوز الحقل السياسي المباشر ليصيب الإدارة التونسية بشكل عام

هذا لفظ يقع تداوله منذ مدة طويلة لدى أنصار الرئيس، وقد استعمله الرئيس نفسه مرات كثيرة في السابق في حديثه عن الوضع السياسي، وعن خصومه السياسيين. ليس الهدف هنا هو العودة، مرة أخرى لفكرة المؤامرة التي أصبحت عنصرًا قارًا في الخطاب الرئاسي، ولا لتوضيح أن الأمر يتعلق باختلال بين العرض والطلب أدى، بسبب تراجع قدرة الدولة عن الإيفاء بتعهداتها المالية للمزودين الأجانب، إلى تقلص المعروض من المواد الأساسية في الأسواق. نهتم هنا فقط بمعاني التطهير الذي يتحدث عنه الرئيس وأنصاره، والذي تجاوز الحقل السياسي المباشر ليصيب النظرة للإدارة التي يعتبر الرئيس أنها لا تتعاون بالحد الكافي مع المطلوب من إجراءات للحد من استتباعات الأزمة التموينية الحالية.

 

 

الحقيقة أن هذه النظرة هي أيضًا جزء مكمّل لنظرية المؤامرة: الإدارة تتآمر، حسب رئيس الجمهورية، وهذا التآمر هو سياسي بالضرورة، وهو ما يعيق نجاح الإجراءات التي تتخذها الحكومة من أجل حل الأزمة. المشكل فقط أن الحكومة لا تتخذ أي إجراءات، ولكن هذا أيضًا موضوع  ثانوي. نحن ببساطة إزاء موضوع يتجاوز مشاكل التموين وندرة المواد الأساسية، وطريقة تصرف الدولة في الأزمة الحالية.

إن التطهير يتطلبه التعفن، وهذا التعفن أمر واقع بالنسبة للرئيس. هناك ربط مباشر بين معنى المصطلحين، ونقل واضح للاستعارة الطبية للميدان السياسي والإداري. بالنسبة لقيس سعيّد وأنصاره، يعود هذا التعفن إلى تسرب جراثيم لجسم الإدارة، وهذه الجراثيم تسبب التعفن وكل الحمى المصاحبة له.

سياسيًا، فإن ذلك يعني أن خصوم الدولة موجودون أيضًا داخل الإدارة، أي داخل الدولة، وهؤلاء قد تسربوا إليها في "العشرية السوداء". المقصود طبعًا هم أنصار حركة النهضة، لا شك في ذلك مطلقًا.

بوضوح، يستهدف الرئيس أنصار النهضة الموظفين في الإدارة، وهذا في نظره ونظر أنصاره مجرد استتباع لاستهدافهم سياسيًا منذ 25 جويلية ولكن أيضًا منذ انطلاق "موسم التآمر على أمن الدولة" قبل بضعة أشهر

بوضوح، يستهدف الرئيس أنصار النهضة الموظفين في الإدارة، وهذا في نظره ونظر أنصاره مجرد استتباع لاستهدافهم سياسيًا منذ 25 جويلية/يوليو 2021، ولكن أيضًا منذ انطلاق "موسم التآمر على أمن الدولة" قبل بضعة أشهر. بالنسبة للرئيس، ظاهريًا على الأقل، فإن الأمر لا يتعلق باستئصال أو اجتثاث، وإنما بمجرد استعادة الإدارة قدرتها على خدمة سياسات الدولة. المشكلة ليست فيه إذًا، بل فيهم لأنهم يتعمدون التعطيل والإفشال.

لكن ذلك يُخفي في الحقيقة فكرة منطقية أخرى: لا يمكن "للمسار" أن ينجح، طالما بقي مصير قراراته رهن إرادة المتآمرين من خصومه، وقدرتهم على الفعل انطلاقًا من المواقع التي يحتلونها كموظفين في الدولة. يتطلب الأمر ببساطة أن تزيحهم الدولة من طريقها، وأن تضع مكانهم أنصارها القادرين على تبني سياساتها وإبداء الحماس اللازم لتنفيذها.

المشكل مرة أخرى أننا لا نعرف شيئًا عن هذه السياسات، حيث لم يقع الإعلان عنها أبدًا. ما الذي يعطله المناوئون إذًا؟ لا أحد يعلم، فيما عدا السيد الرئيس. بل حتى وإن لم تكن هناك سياسات من الأصل، فإن ذلك لا يهم. الأمر يتعلق بمجرد مقاربة زبونية لا تقول اسمها: تعويض أنصار الحكم السابق داخل الإدارة بأنصار "المسار"، وهذا المسار ليس إلا نوعًا من الحكم، مجرد "عهد جديد" يقوم بترسيخ سيطرته على الإدارة تمامًا مثلما قامت به كل العهود الجديدة السابقة.

يجب النظر في مميزات الفئات التي يتشكل منها معظم المؤيدين الناشطين للرئيس حتى نفهم المقصود من حماسهم لمثل هذا التوجه الاجتثاثي. بالنسبة لكثير من المختصين في علم الاجتماع، فإن هؤلاء هم أساسًا من أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل.

بالنسبة لكثير من المختصين في علم الاجتماع، فإن معظم المؤيدين الناشطين للرئيس هم من أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل وهنا نفهم المقصود من حماسهم للتوجه الاجتثاثي والرغبة في "تطهير الإدارة"

هذا أمر يشبه كثيرًا المسار الذي اتبعته حركة النهضة في السابق عبر العفو التشريعي العام الذي سمح بإعادة إدماج أبنائها في الإدارة إثر سقوط حكم زين العابدين بن علي. أقر العفو التشريعي العام، الذي صدر قبل انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011، أن هؤلاء قد أطردوا من وظائفهم دون وجه حق وبسبب انتماءاتهم السياسية فحسب، ما فسح المجال للعودة إلى وظائفهم، وحصولهم على تعويضات.

يخلط أنصار الرئيس والرئيس نفسه هنا عمدًا بين نقطتين: نقطة إدماج المتمتعين بالعفو التشريعي العام في الإدارة، ونقطة "إغراق الإدارة" بالتعيينات. الأمران مختلفان جدًا، ولكن الخلط بينهما مقصود جدًا أيضًا. عن طريق هذا الخلط سيصبح من الممكن أن تصدر قرارات عزل فردية، أما فيما عداه فإن الأمر سيستوجب إلغاء مفعول العفو التشريعي العام، أو تنقيحه بما ينزع أي شرعية قانونية عن عمليات إعادة إدماج المعنيين بهذا الجانب في ذلك القانون. هذه مسألة عويصة لا يقع حلها إلا بتعمد الخلط.

في الأثناء فإن أنصار الرئيس ينتظرون. وفيما عدا بعض التعيينات في مواقع سياسية، فإن أغلبيتهم الساحقة لا تزال تنتظر نصيبها من الدولة. لن يمكن للرئيس أن يدمج أعدادًا كبيرة منهم بسبب مقتضيات التقشف وثقل العبء على الوظيفة العمومية. كيف سيكون الحل إذًا؟ لا أحد يدري، وهذا مأزق جديد.

في الأثناء فإن أنصار الرئيس ينتظرون. وفيما عدا بعض التعيينات في مواقع سياسية، فإن أغلبيتهم الساحقة لا تزال تنتظر نصيبها من الدولة

في الأثناء، فإن تعيين موظف موال "للمسار" مكان موظف من "العشرية السوداء"، قد يكون حلاً، باعتبار أن الأمر يتعلق بالمحافظة على نفس التوازنات المالية. في كل الحالات، يمكن البدء بفئة معيّنة من الوظائف، أي بتلك الأكثر تأثيرًا في السلم الإداري. هذا ما يفكر فيه الرئيس على الأغلب.

هناك نقطة أساسية يتجاهلها قيس سعيّد. فعند حديثه عن "تطهير الإدارة من أعداء الدولة"، ورغم إشارة سريعة لمسألة "تلكأ" هؤلاء في الإمضاء كما تقتضيه وظائفهم، وفي حدود مسؤولياتهم، فإنه وضع إصبعًا على مشكل كبير تعاني منه الإدارة اليوم. هذه المعاناة تصاحب في العادة كل تحوّل سياسي كبير، حيث يشعر كبار الموظفين بأنهم غير محميين إداريًا من استتباعات القيام بوظائفهم. إن عدم اطمئنانهم إلى القضاء، والقناعة التي تترسخ يومًا بعد يوم بأن القضاة قد تحولوا منذ 25 جويلية 2021 إلى مجرد منفذين لتعليمات السلطة التنفيذية، تنسف تمامًا الثقة في قدرتهم على تلافي الثغرات التي قد يجدون أنفسهم فيها بمجرد سوء تأويل للقانون.

يبقى الفصل 96 من المجلة الجنائية سيفًا مسلطًا على كل موظف، بغض النظر عن حسن أو سوء نيته أثناء القيام بوظيفته، لأن ما أصبح مطلوبًا اليوم هو التثبت من حسن أو سوء نية من سيحقق في الأمر، ومن سيأذن بالتتبع.

 

 

هناك مجزرة صامتة تجري اليوم، وهذه المجزرة تستهدف كثيرًا من موظفي الدولة. يكفي النظر إلى الطريقة التي تبنى بها ملفات التآمر على أمن الدولة، لنفهم أن المنهج نفسه يتم تطبيقه على القضايا المتعلقة بالفصل 96. هذا أمر يعلمه كل من يحاول التدقيق في الأمر، ولو قليلًا. بالتتابع، يضاف انعدام الأمان الإداري لانعدام الأمان القضائي، ليسفر عن انعدام أمان عام. كلاسيكيًا، تصيب هذه الوضعية أي إدارة بالشلل، بغض النظر عن وجود أو عدم وجود أي سياسات تخص التنمية أو أي مسألة تقنية أخرى، ومدى نجاعتها إن وجدت.

يضاف انعدام الأمان الإداري لانعدام الأمان القضائي، ليسفر عن انعدام أمان عام في تونس وكلاسيكيًا، تصيب هذه الوضعية أي إدارة بالشلل بغض النظر عن السياسات المتبعة

إن أكبر مثال على هذا الشلل، وعلى انعدام الأمان الوظيفي، تمثله اليوم طريقة ممارسة الوزراء وكبار المسؤولين لمهامهم. يكفي النظر إلى الطريقة التي تقع بها إقالة الوزراء منذ 25 جويلية/يوليو 2021 لنفهم درجة الاعتباط التي أصبحت تحكم الدولة.

بالنسبة لهؤلاء، فإن الدرس الأساسي من المزاجية التي تحكم البلاد اليوم هو الابتعاد عن اتخاذ أي مبادرة والقيام بأي اجتهاد، والتزام الغياب عن وسائل الإعلام، وعدم الاحتكاك بالرأي العام، وبالرئيس، وبأنصار الرئيس. تغلق عليك مكتبك وتبقى منتظرًا التعليمات. هذه وضعية مستكتبين تنفيذيين في أي إدارة ثانوية في الدولة، ولا يمكن أن تكون وضعية وزراء، وهذا ما يفسر استتباعاتها على سلوك موظفي الإدارة اليوم. كيف يمكن تصور أداء مدير إذا كان ذلك هو سلوك وزيره؟ المشكل أن رئيس الجمهورية يعتبر أن انعدام الأمان كلام لا قيمة له، وأنه يفضل، كما تعوّد دائمًا، إلقاء الأمر على التآمر، وسوء النية، وتعطيل "المسار".

إن أكبر مثال على الشلل الحالي وعلى انعدام الأمان الوظيفي، تمثله اليوم طريقة ممارسة الوزراء وكبار المسؤولين لمهامهم ويكفي النظر إلى الطريقة التي تقع بها إقالة الوزراء منذ 25 جويلية 2021 لنفهم درجة الاعتباط التي أصبحت تحكم الدولة

لا يتعلق الأمر اليوم في الإدارة بتعفن يداوى بالتطهير، بل بشلل لا تنفع معه المطهرات الطبية جميعها. هذا الشلل هو وليد السياق السياسي العام الذي ينعكس انعدامًا في الأمان الوظيفي. ماذا يفعل إداريون تربوا على مقاربة المشاكل بطريقة موضوعية، عندما يجدون أنفسهم في سياق سريالي كالذي نعيش اليوم؟ إن ما تعودوا على اعتباره في أخذهم القرار، صار بلا قيمة. كما أنه لم يقع إعدادهم وتكوينهم على التعامل مع الخيال الذي تسبح فيه الدولة اليوم.

في الحقيقة فإن الرئيس على حق هنا بالذات: ينبغي أن يعوضهم بأنصاره، فخيالهم يتسع بالفعل لكل شيء. عندها فقط سينجح "المسار" الخيالي الذي تسير فيه البلاد اليوم.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"