لا يكتمل صيام شريحة هامة من التونسيين، في هذا الشهر الكريم، إلّا عبر ممارسة تيه ليليّ رمضانيّ في مدينة تونس العتيقة.
الأمر يبدو كمتلازمة نوعًا ما، تمامًا كما يُقبل التونسي على البريك.. الشمس التي لا تغيب عن مائدة رمضان.
كثيرون ممّن جرّبوا السهر بالمدينة العتيقة في شهر رمضان، عبّروا عن عزوفهم عن تكرار الأمر، بعد تجارب غير موفّقة خاضوها
فبعد ما تيسّر من شَربة الماء، والتمر المحشوّ بالزبدة والشامية، و"صحفة الشُربة"، وما جادت به أيدي كلّ من وقع على عاتقه إعداد الفطور لعائلته، تنقسم عادات العائلات التونسية بين من يفضّل المكوث بالبيت ومتابعة المسلسلات الرمضانية، وترصّد بعض المساحات الإشهارية التلفزيونية الطويلة نسبيًا في هذا الشهر، لغسل الصحون وتحضير أطباق حلويات السهرة، وبين من يسارع إلى المقهى بعد صيام جسده وانقطاعه عن النيكوتين ليوم كامل، فيما يهرع البعض إلى المساجد لأداء صلاة التراويح.
الفئة التي تعنينا اليوم هي فئة لم نذكرها فيما سبق، وهي الفئة التي تجدها تعدّ الأيام في انتظار شهر رمضان، بما يمثّله لها من سهرات ليلية متنوّعة، في المهرجانات والعروض الموسيقية والمسرحية المختلفة. وفي ذلك، قد تنافس المتنافسون في تخيّر أفضل البرامج والحجوزات، لكنّ الرياح لم تأت كما اشتهت سفن من حاورنا، إذ أنّ فئة واسعة منهم عبّرت عن عزوفها عن الذهاب للمدينة العتيقة شهر رمضان، بعد تجارب غير موفّقة خاضوها.
نور المناعي (23 سنة) لـ"الترا تونس": كي تجد مكانًا في المدينة العربي في رمضان، عليك أن تنهض من مائدة إفطارك بعد أول ملعقة حساء.. فإذا وجدتَ مكانًا، سيكون عليك مجابهة غلاء الأسعار
توجّهنا بالسؤال إلى بعض من خاضوا -أو حاولوا في الواقع- تجربة السهر في المدينة العتيقة، في رمضان بعد الإفطار، فجاءت إجابة نور المناعي (23 سنة)، على النحو الآتي: "وصلتُ رفقة أصدقائي حوالي الساعة التاسعة، (الإفطار في حدود 18.50)، وكانت وجهتنا مقهى (المرابط)، إلّا أنّنا فوجئنا بالازدحام الشديد، ولم يتمكّن النادل إلّا من أن يشير بيده نحو ركن قصيّ مظلم لا يثير شهيّة المكوث أبدًا" وفقها.
تتابع محدّثتنا بقولها: "ورغم ذلك، غامرنا بالجلوس كي لا نبدأ رحلة بحث أخرى، إلاّ أننا فوجئنا لدى حصولنا على قائمة المشروبات، أنّ كلّ الأسعار قد ارتفعت بشكل صادم، فقهوة الإكسبراس مثلًا، وهي الأرخص في القائمة، بـ 6د كاملة، وهي التي لا تتجاوز في الأيام العادية دينارًا و500 مليمًا.. قهوة الحليب (DIRECT) بـ 9د، رغم أنّها لا تتجاوز الـ 4د سابقًا".
تواصل نور المناعي حديثها فتقول إنّها غادرت المقهى رفضًا لما وصفته بـ"الاستغلال"، فذهبت مع أصدقائها إلى مقهى "الشواشين"، التي رفّعت في أسعارها بدورها قبل رمضان بأسبوع، وفقها. وأضافت: "كأسا عصير وشاي قفزا من سعر 4د في اليوم العادي إلى سعر 9د في ليل رمضان، ثمّ إنّك لا تجد موطئًا لقدم في كل مقاهي المدينة، فهناك أصلًا من يقف فيما يشبه الطابور في انتظار أن تفرغ طاولة".
ولم يبق لمحدّثتنا وفق وصفها، إلا أن تخرج من المدينة العتيقة، لتشتري بعضًا من المكسّرات، وتجلس مع أصدقائها في ساحة القصبة، وهو ما نفّذته حرفيًا، وختمت بقولها: "كي تجد مكانًا في المدينة العربي، عليك أن تنهض من مائدة إفطارك بعد أول ملعقة حساء.. فإذا وجدتَ مكانًا، سيكون عليك مجابهة الأسعار التي بالغوا في ترفيعها" على حد تعبيرها.
شهادة أخرى يرويها صبري (31 سنة) لـ"الترا تونس"، تلقي الضوء على محنة أخرى لفئة الساهرين في المدينة الذين لا يملكون وسيلة نقل خاصة، وإنما يعمدون إلى وسائل النقل العمومي، أو إلى سيارات الأجرة، يقول محدّثنا: "أقطن بضاحية حمام الأنف، ورغبتُ في السهر في المدينة العتيقة رفقة أصدقائي في ليلة من ليالي رمضان، التنقل إلى المدينة بعد الإفطار كان سهلًا نسبيًا، على أنّ عودتنا شهدت صعوبة بالغة".
صبري (31 سنة) لـ"الترا تونس": كاد المبلغ الذي دفعناه لسيارتيْ أجرة عبر تطبيقات طلب سيارات الأجرة، أن يتجاوز مبلغ سهرتنا ومشروباتنا في المقهى
يتابع صبري في شهادته لـ"الترا تونس"، أنّه وأربعة من أصدقائه، يقطنون بالضاحية الجنوبية للعاصمة، قد أتمّوا سهرتهم في المدينة العتيقة بعد الساعة الواحدة صباحًا، لكنّ الظفر بإحدى سيارات الأجرة ليس سهل المنال، بعد أن تحوّل هذا الوقت إلى "وقت ذروة"، وفق تعبيره، وتابع: "العديد من الأفراد والأسر احتشدوا في تلك الساعة بساحة القصبة لمحاولة اصطياد وسيلة نقل تعيدهم إلى منازلهم قبل موعد السحور، لكن هيهات، ما اضطرّ الكثيرين إلى اللجوء إلى تطبيقات طلب سيارات الأجرة، فكان المبلغ الذي دفعناه لسيارتيْ أجرة عبر هذه التطبيقات، يكاد يتجاوز مبلغ سهرتنا ومشروباتنا في المقهى" وفقه.
فئة الساهرين في المدينة العتيقة في رمضان، أيضًا، فئة من طراز خاص جدًا، فهي باحثة عن الزهو والسعادة والطرب، كلّفها ذلك ما كلّفها، وهي لا تجد غضاضة في أن تمارس حياتها وهواياتها وسهراتها بشكل طبيعي، في شهر يحمل طابعًا روحانيًا كبيرًا هو شهر رمضان، ولعلّ المشهد نفسه المتكرّر كلّ سنة، بات معروفًا، أن يتحرّج المصلّون في جوامع المدينة من أصوات بعض هذه السهرات. هذا التضارب في الواقع المعيشي اليومي للتونسي، يطرح جملة من التساؤلات، نجد بعض إجابتها لدى تعمّقنا في الشخصيّة القاعدية التونسية.
يقول المفكّر التونسي البارز، وأحد أعمدة علم الاجتماع، الراحل المنصف ونّاس، في كتابه المرجع "الشخصية التونسية، محاولة في فهم الشخصية العربية"، إنّ "من علامات الواقعية الاجتماعية، توظيف الدين في تصريف الحياة اليومية، ولكنه توظيف انتقائي يعزّز ما أسميناه بالقدريّة. ولكن هذه القدريّة انتقائية لا تعبّر بالضرورة عن تديّن حتى إن كان شعبيًا.. بمقدور الشعوب أن تبني السعادة بناء افتراضيًا وأن تخلقها حتى وإن لم تكن موجودة.. فالسلوك الاجتماعي والعلاقة بالمال يستحضران الدين في سياق محدّد ويغيّبانه في سياق آخر، وليس أدلّ على ذلك من منظومة الأمثال الشعبية 'أدّي الفرض وانقب الأرض' (أدّي الواجب وافعل ما شئت)" وفقه.
وفي هذا الإطار، عبّرت الناشطة في المجتمع المدني خلود التبيني، في تدوينة نشرتها من جانبها، عن استيائها من بعض المشاهد التي تلاحظها في بعض الصور والفيديوات خلال شهر رمضان، وقالت: "لو كانت حيطان المدينة تتكلم لطردت هؤلاء الساهرين بها وسط الاكتظاظ والنشاز والتلوث السمعي، وهم الذين لا يعنيهم سوى الرقص دون أي ذوق" وفقها.
وأضافت التبيني أنّ ارتفاع أصوات هذه السهرات، يسبّب أحيانًا تشويشًا على المصلّين بجامع الزيتونة، معتبرة أنّ "المدينة العتيقة مكان لفنّ راق كالمالوف"، وفقها، وذكرت أنّ محبّي "المدينة العربي حقًا، سيهجرونها في رمضان ليعودوا إليها بعد انقضاء الشهر"، وفق وصفها.
المدينة العتيقة في تونس إذن، محطّ رحال الباحثين عن سهرة ممتعة في ليالي رمضان الطويلة نسبيًا، ولئن كانت هذه السهرات محلّ إقبال من كثيرين ينتظرونها من سنة إلى أخرى، فإنّ آخرين قد أعلنوا مقاطعتهم لها في هذا الشهر، باحثين عن أماكن أخرى للسهر، قد لا تكون أفضل حالًا من "المدينة العربي" من ناحية اكتظاظها وغلاء أسعارها و"استغلال" الترفيع في العرض، لكثرة الطلب.