مقال رأي
كانت الأیام الأولى من الثورات العربیة حمالة أجوبة، لقد أرفق الشعب التونسي المنتفض على نظام استبدادي شعار "الشغل والحریة والكرامة الوطنیة" "الشعب یرید تحریر فلسطین" وھو الھدف الأسمى الذي سكن كل مواطن عربي. ومجرد رفعه بالتزامن مع فعل الانعتاق من أغلال الاستبداد، كسر حاجز الخوف والھزیمة التي جثمت على صدر الشعوب عقودًا طویلة نتیجة أنظمة مھزومة.
وھي رسالة دقیقة فھمت وقتھا على أنھا تنفیس على كل الكبت الذي كانت تخضع له الشعوب، لكنھا وصلت سریعًا إلى التحالف الموضوعي بین الأنظمة العشائریة والعائلیة المتحكمة في بلدانھا وبین حماة إسرائیل في المنطقة وانتھت بوأد نفس الحریة إما بالحروب الأھلیة أو الانقلابات العسكریة الدمویة والأقل خشونة.
رغم أنّ الشعوب خرجت في الأیام الأولى من العدوان على غزة للشارع للتظاھر وإبلاغ صوتھا دعمًا لفلسطين إلا أنّ شعلتھا بدأت تنطفئ شیئًا فشیئًا مع الاقتصار على الضغط عبر وسائل التواصل الاجتماعي رغم تواصل المجازر بشكل متواتر وأكثر دموية
مر أكثر من شھر على ما یصفھ الملاحظون بأكبر تحول قد تعرفه منطقة الشرق الأوسط منذ النكبة في عام 1948، بینما تعیش الشعوب العربیة عاجزة أمام عجز حكامھا عن إمكانیة تغییر المعادلة على المیدان إما بمساندة واضحة للمقاومة الفلسطینیة أو ممارسة ضغط مباشر على الولایات المتحدة الأمريكية وإسرائیل لوقف إطلاق النار.
ورغم أنّ ھذه الشعوب خرجت في الأیام الأولى للشارع للتظاھر وإبلاغ صوتھا مناصرة للمقاومة إلا أنّ شعلتھا بدأت تنطفئ شیئًا فشیئًا مع الاقتصار على الضغط عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالرغم من تكرار المجازر الإسرائیلیة في القطاع بشكل متواتر وأكثر دمویة، مما یطرح أكثر من سؤال حول ماھیة ھذا العجز وتفسیره انطلاقًا من التحولات التي عرفتھا المنطقة العربیة في السنوات الأخیرة.
من الإطلالة الأولى على معاني مسك الشعوب مصیرھا بیدھا في التغییر وصولًا إلى قطع ھذه الید عبر موجة ردة أرفقتھا الأنظمة التقلیدیة المتحكمة منذ عقود بمناخ من التخویف والقمع والنفس الاستبدادي "النیولوك"، ممّا خلف حالة من الإحباط المستشریة في المنطقة بدأ بالتوازي معھا رسم طریق السعادة المصطنع الذي ینطلق بخطف ھذه الشعوب إلى وجھة الرفاه والترفیه ووزارات السعادة وجلب نجوم كرة القدم والمؤثرین من أنحاء العالم لمحاولة تخلیص الذات من صورة علقت لدى الغرب بأنّ ھذه البلدان رافضة للتغییر وأنّھا منبع التطرف والإرھاب وصولًا إلى إرادة في تصفیة القضیة الفلسطینیة من خلال عدوى التطبیع.
ھذه المفارقة التي تعیشھا الشعوب العربیة منذ النكبة عام 1948 عندما اكتشف الفلسطینیون أن أرضھم بیعت تحت طاولة الصفقات الدولیة، ھي ذاتھا التي تكررت في السنوات الماضیة عندما بدأت الأنظمة العربیة، تحت یافطة المحافظة على استقرارھا وضیق صدرھا بمساءلة شعوبھا لھا بعنوان الدیمقراطیة والانتخابات، ترتیب المشھد الجدید الذي یسوي المطالب الفلسطینیة بقیام دولتھم واستعادة أرضھم بالقضاء على كل نفس مقاوم.
هناك مزیج متناقض بین شعوب تحمل في جنباتھا معدن الحق الفلسطيني وبین أنظمة غارقة في السلبية والعجز والتواطؤ ومنشغلة إما بالصمت الراضي أو المندد العاجز
لم یكن خافیًا على الجمیع أنّ الحدیث عن صفقة القرن ورسم طریق تجارة دولیة ینطلق من الھند لیصل إلى إسرائیل والترویج إلى التغییر الشكلاني الذي تعیشه بعض الأنظمة العربیة نحو الانفتاح إنما ھو تتمة لسیناریو التسویة النھائیة أو الإجھاز النھائي على حقوق الشعب الفلسطیني.
لكن بعضكم سیتساءل "ألیس في ذلك مبالغة عندما نضع البلدان العربیة كلھا في موضع واحد یحاول بكل الطرق التخلص من ثقل القضیة؟"، وھو طبعًا تساؤل منطقي لكن الإجابة عنه تفترض أن ھناك طرفین متناقضین متخافلین حول القضیة وإن وجدا يكونا على قدر من التوازن دیمغرافیًا وعلى مستوى إمكانيات الفعل المالي وحتى العسكري.
الافتراض ھنا غیر موجود بالنظر إلى أنّ النفس المقاوم داخل البلدان العربیة ظلّ محصورًا في نطاق تنظیمات داخل بعض البلدان مثل حزب ﷲ وبعض التنظيمات المسلحة في العراق وسوریا والیمن والعراق، وھي فعلیًا من تناور وتشغل إسرائیل في الحرب على غزة. بينما تبدو كل الأنظمة العربية منشغلة إما بالصمت الراضي أو المندد العاجز.
لا بدّ أنّ الشارع العربي قد تسلّح بدروس تمسّك الشعب الفلسطیني في غزة بأرضه رغم القصف الھمجي والقتل والتنكیل، لأنّ الشعوب التي تقاوم ھي شعوب حرة وإلا ما الذي یدفعھا للتمسك بحقھا الذي لم یسقطه الزمن والمؤامرات والصفقات؟
وھنا نعود إلى أصل ھذا المزیج المتناقض بین شعوب تحمل في جنباتھا معدن الحق الفلسطيني وبین أنظمة غارقة في السلبية والعجز والتواطؤ، وھو سبب خروج العرب من دائرة الفعل الحضاري الذي یغیر ولا يخضع للتغيير، بالإجابة عن السؤال الكبیر "لماذا تستفرد إسرائیل والولایات المتحدة بقطاع غزة؟ وما جدوى ھذه الأنظمة التي تحكم شعوبھا بالإخضاع الغرائزي إذا لم تعبر عن إرادة شعوبھا في أن تكون فاعلة بعیدًا عن الوصایة الخارجیة؟ وكیف نرید تحریر فلسطین بشعوب غیر حرة؟".
وإذا نظرنا إلى الزاویة العكسیة وأمام فشل المحاولة الأولى في تقریر الشعوب لمصیرھا، قد تكون الحرب على غزة بدایة أولًا لقطع الطریق أمام خطف ما بقي من الحق الفلسطیني، ثم الالتفات إلى الخذلان الكبير الذي مارسته الانظمة ومحاولة استعادة المبادرة مرة أخرى للتغییر، وعلى الأقلّ افتكاك حق اختیار من یحكم ھذه الشعوب وحق تغییره عندما ینزاح عن العقد المبرم بین الطرفین. فكل ما تفعلھ الأنظمة العربیة حالیًا نابع من احتقار لشعوبھا واستخفاف بقدرتھا على الفعل.
الشعب الذي یرید الحریة والكرامة ھو ذاته الشعب الذي یرى الحریة والكرامة في استعادة أرضه المحتلة وھي ثنائیة الاحتلال الخارجي والاحتلال الداخلي
ولا بدّ أنّ الشارع العربي قد تسلّح بدروس تمسّك الشعب الفلسطیني في غزة بأرضه رغم القصف الھمجي والقتل والتنكیل، لأنّ الشعوب التي تقاوم ھي شعوب حرة وإلا ما الذي یدفعھا إلى التمسك بحقھا الذي لم یسقطه الزمن والمؤامرات والصفقات؟، وما الذي یترك المواطن العربي حبیس أنظمة لا تعبّر عنھ ولا تنقل مشاغله إلى العالم غیر الإخضاع الذي تدیره سطوة المال المتحالف مع سلطة الأجھزة المسلحة؟ وبالنتیجة، فإن الشعب الذي یرید الحریة والكرامة ھو ذاته الشعب الذي یرى الحریة والكرامة في استعادة أرضه المحتلة وھي ثنائیة الاحتلال الخارجي والاحتلال الداخلي.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"