31-أغسطس-2020

مشروع لإعادة تأهيل السجناء السابقين (ماهر جعيدان / ألترا تونس)

 

"صالح" و "رابح" (اسمان مستعاران) شابان رماهما القدر وراء القضبان. قضى كلّ منهما عقوبة سجنية و خرجا من جديد إلى الفضاء الاجتماعي.  حينها بدأ صراع الاندماج من جديد نتيجة الاهتزازات النفسية من آثار السجن و الهشاشة الاقتصادية نتيجة فقدان مصادر الرزق. قد يكون العنف أو التطرّف العنيف أحد أسباب الجناية التي ارتكباها، لكن النتيجة واحدة لشباب يجد نفسه في مهبّ الصراع الذاتي مع العالم الخارجي الذي يعقّد حياتهما كالمئات من الشباب الذي وقع في دائرة "الجرم" القانوني.

"صالح"، رغم جرمه الذي عوقب من أجله، بحث عن فرصة جديدة للاندماج الاجتماعي وكان ليّنًا في قبوله حصصًا في التأهيل النفسي وكان طيّعًا في الانضمام إلى جمعية "كشاف بلا حدود" التي تبنّت استعداده للخضوع إلى تجربة جديدة تؤهّله لكي يكون فاعلًا في المجتمع ويتجنّب العودة إلى السجن، بل كان اجتماعيًا وذا سلوك إيجابي. وكانت لـ"صالح" و"رابح"، وهما أصيلا مدينة القلعة الكبرى من محافظة سوسة، فرصة جديدة بعد تأهيل نفسي تحت إشراف مختص تم تسخيره من طرف الجمعيّة. ثم انتقلا نحو المركز القطاعي الفلاحي بشط مريم ليتلقيا تكوينًا في البستنة وتهيئة أشجار الزينة والحدائق. وكان الانطلاق نحو الحياة والحلم بـ"الحدائق المعلّقة" والمدن الجميلة المكسوّة بالأزهار والورود.

ماهر جعيدان / ألترا تونس

هذا الحلم لم يبقَ أسير فكرة أو تكوين نظري في مركز تكوين فلاحي بل سخرت بلدية القلعة الكبرى  فضاء على ذمة الجمعية لتنفيذ حلم ذلك الشباب وتنزيل التكوين النظري على أرض الواقع، فتم تصميم الفضاء بطريقة هندسية علمية ليكون منتزهًا ترفيهيًا ومتنفسًا طبيعيًا تجتمع فيه مجموعة من الخبرات لإنجازه بأيادٍ مدت من جديد لتكون صالحة في المجتمع بعيدًا عن عالم الجريمة.

حسين قليد (رئيس جمعية "كشاف بلا حدود") لـ"ألترا تونس": "نحن في مرحلة هامة من المشروع واليوم نحتفل بنجاحه

حدثنا حسين قليد رئيس جمعية "كشاف بلا حدود" عن هذا المشروع فقال "نحن في مرحلة هامة من المشروع واليوم نحتفل بنجاحه، لقد قمنا بتأهيل 5 شبان تحصلوا على شهادة في البستنة من مركز التكوين الفلاحي بشط مريم وهذا هدف من أهدافنا الأولى، ونحن الآن ذاهبون نحو المرحلة الثانية والمتمثلة في تهيئة منتزه يكون متنفسًا للجهة، والذي هو في الواقع مكان متروك لم تجد البلدية الإمكانيات الكافية لتطوير هذا الفضاء. هذا المنتزه أصبح هدفًا لجمعيتنا مع الشركاء الممولين للمشروع ومركز التكوين الفلاحي الذي قام بتكوين هؤلاء الشبان في عملية صيانة الفضاءات الخضراء إضافة إلى طرف ثالث وهو القطاع الخاص. وكان من نتائج هذا المشروع إمضاء اتفاقية هامة جدًا مع مركز الدفاع والإدماج بسوسة والذي سيكون شريكًا مهما في المرحلة القادمة.

ماهر جعيدان / ألترا تونس

و أضاف حسين قليد "نحن في البداية كان هدفنا تكوين 16 شخصًا، وبحكم تنظيمات إدارية ومالية وغيرها مع الطرف المانح قلّصنا العدد إلى 5 أشخاص، وهؤلاء وقع تأهيلهم وإدماجهم رفقة 5 شبان آخرين من جمعيتنا حتى تكون عملية الإدماج فعلية وتحصّل كافة المشاركين على شهادة في التكوين إلى جانب إشراك المنتفعين الخمس من السجناء السابقين ضمن الجمعية.

وحول الصعوبات التي اعترضت الجمعية قال رئيسها، في تصريح لـ"ألترا تونس": "نحن نعلم أنّ للبلدية إمكانيات محدودة ولها أولوياتها، ما نطلبه منها فقط هو التسريع إداريًا وترتيبيًا في الإجراءات وهو ما يمكننا من توفير دخل للجمعية وللبلدية ويسمح للقطاع الخاص من الاستفادة من هذا المشروع".

ماهر جعيدان / ألترا تونس

و أضاف قليد: "الجديد هو بداية مشروع آخر على مستوى وطني مع أكبر عدد ممكن من الجمعيات سينبثق عنه تكوين ائتلاف جمعياتي. إن المطلوب، والذي يجب أن يكون جزءًا من سياسة اجتماعية في تونس اليوم، هو العناية بمسألة التأهيل والإدماج من زاوية أخرى بعيدًا عن الزاوية الكلاسيكية القائمة على المساعدات".

صالح (سجين سابق):  الإشكال بالنسبة لي ليس في المجتمع أو في إمكانية قبول سجين سابق بل المشكلة أساسًا في الشخص المسرّح حديثًا من السجن في حد ذاته نظرًا لاهتزاز شخصيته

عدنا إلى الحديث إلى"صالح" الذي خصّ "ألترا تونس" بأول تصريح له ليحدّثنا عن أسرار تجربته فقال: "هذا أول عمل لي في فضاء جمعياتي، كنت مرّة في سفر مع أحد الأصدقاء بعد خروجي من السجن و قدّم لي اقتراحًا حول عملية الإدماج والتأهيل، وكنت ليّنًا بالرغم من أنه لم تكن لديّ أي أدنى فكرة عن البرنامج. وبدأنا أولًا بالتأهيل النفسي في هرقلة مع مختصّ نفسي وكانت لنا حصص معه ووجدت نفسي مع مجموعة من الشباب، وكانت فرصة لي للمخالطة. عالجنا مسألة السجن وما بعد السجن من منظور نفسي ووضع الخبير النفسي يده على الداء بالرغم من أنه كان لي موقف خاص من المسألة النفسية لأن الإشكال بالنسبة لي ليس في المجتمع أو في إمكانية قبول إنسان خارج من السجن أو صاحب سوابق بل المشكلة أساسًا في الشخص المسرّح حديثًا من السجن في حد ذاته نظرًا لاهتزاز شخصيته".

ماهر جعيدان / ألترا تونس

وأضاف صالح قائلًا: "التجربة مع الجمعية كانت ممتازة وتواصلت فيها مع أناس لم يكونوا أبدًا في لائحة أصدقائي المفترضين وقطعنا الحاجز النفسي مع الآخرين، كما قطعت مع فكرة عدم إمكانية التواصل معهم، ولعل هذا التجاوز النفسي دفعني إلى مزيد النجاح في الإدماج المهني من خلال تكويني في مجال البستنة وخاصة نباتات الزينة وتهيئة الحدائق".

بوراوي العوني ممثل عن "منظمة البحث عن أرضية مشتركة" الحاضنة لهذا المشروع  حدّثنا عن أهداف ونتائج المشروع فقال: "تأهيل وإدماج المساجين وخاصة مساجين العنف و"التطرف العنيف" هو مجال جديد لم يعمل عليه أحد في تونس من الجمعيات. لما انطلقنا في المشروع كنا نصطدم بالكثير من العقبات والصعوبات للاختلاف النوعي في قبول مثل هذا التأهيل وكذلك في الوصول إلى هذه النوعية من الفئة المستهدفة، وكنا نعلم أن هناك حساسية وأن مثل هذا المشروع لن ينجح دون التنسيق والتجاوب مع السلط محليًا وجهويًا وإداريًا، وإلا سيبقى المشروع منقوصًا، أما العائق الأكبر فهو مدى تجاوب المستفيدين في حد ذاتهم و رأينا ذلك في تناقص عددهم في عدة تجارب، لكن يبقى هذا المشروع هو الأفضل على جميع المستويات لصعوبته و حساسيته ومدى الإيمان بالفكرة و التأقلم مع المشاكل".

بوراوي العوني ممثل عن "منظمة البحث عن أرضية مشتركة" (ماهر جعيدان / ألترا تونس)

وأضاف العوني، في السياق ذاته: "رغم أن الصعوبات كانت جوهرية في عدة جهات فقد بادرنا بإطلاق شعار "دعنا نتعلم ونحن نعمل"، ودفعنا المشروع لأن يكون حقيقة. المجموعة المستهدفة كانت على الهامش، والمجتمع ليس حالة مثالية كي لا يعطي فرصة ثانية لهؤلاء السجناء، فللمجتمع إفرازات، والمسألة تتلخص في كيفية تحمل المسؤولية في توقيت معين. سياسة الإدماج سياسة عموميّة ،لكن لها حدود، و للمجتمع دور في ذلك ففكرة المشروع هو فتح نافذة أمام هؤلاء للحياة، فالأهم من التكوين والمؤهلات المهنيّة هو ردّ الاعتبار".

بوراوي العوني (ممثل عن "منظمة البحث عن أرضية مشتركة") لـ"ألترا تونس": تأهيل وإدماج المساجين وخاصة مساجين العنف و"التطرف العنيف" هو مجال جديد لم يعمل عليه أحد في تونس من الجمعيات

و تابع بوراوي العوني القول إن: "المشروع انطلق منذ سنة ونصف في إطار مشروع التوقي من التطرف العنيف والعنف من خلال برامج التأهيل والإدماج. باشرناه في مرحلة أولى مع الإدارة العامة للسجون والإصلاح، انطلق من داخل السجن ثم تحول المشروع مع شريك جديد هو وزارة الشؤون الاجتماعية إلى تكوين مراكز التأهيل  والدفاع الاجتماعي في مجالات إدارة الخلاف والنزاع. هذا الجزء مع المجتمع المدني كان يندرج في إطار دعم مبادرات التأهيل والإدماج على المستوى المحلّي بالتوازي مع قدرات المؤسسات و يضعه من أولويات العمل الجمعياتي. المشروع بدأ مع تسع جمعيات في مختلف أنحاء الجمهورية. الفكرة لم تكن واضحة في الأول لجدّة المجال، ثم أعطيناهم هامشًا للتحرك لكي يتأقلموا مع المعطيات المحلية ويطوروا الفكرة لتكون قابلة للتنفيذ. في مرحلة أولى، يكون هناك تأهيل نفسي، ثم تكوين مهني وعمل مع مراكز الدفاع، وتأهيل اجتماعي. وتمت عملية الدمج بين مجهود المراكز وأفكار الجمعيات وحاولنا الدفع نحو مشاريع ملموسة في التأهيل والإدماج  الاقتصادي والاجتماعي، و نحن نطرح مقاربتين: الأولى إعادة التأقلم مع المجتمع والثانية مسألة الإدماج المهني.

وأردف العوني: "كانت النتائج ممتازة بإنجاز المشروع بجناحيه، فهناك من استثمر في تعاضدية لإنتاج أكسسوارات للزينة باللوح و تكوين في الحلاقة والأليمنيوم والبستنة و بعث مشاريع صغرى إنتاج الحلويات وتهيئة حديقة عمومية، وغير ذلك من المشاريع. نحن نريد أن يكون التأهيل والتكوين جزءًا من السياسة الاجتماعية لتونس". 

ماهر جعيدان / ألترا تونس

من جهتها، قالت آمال بالحاج عبد الله مكونة بالمركز القطاعي للتكوين الفلاحي بشط مريم لـ"ألترا تونس": "بما أنّ التوجه العام لهذا المشروع كان تهيئة منتزه ثمّ تكوين هؤلاء الشبان تطبيقيًا في إنتاج نباتات الزينة وتهيئة مناطق خضراء، فإن أهمّ إشكال  تعرضنا إليه تمثل في تفاوت المستوى العلمي لهؤلاء الشبان، لذلك حاولت التوفيق بينهم عبر تبسيط المعلومة.

وأضافت آمال :"سررت بهذه التجربة وكانت ناجحة ومثمرة، والشبان كانوا متحفزين ودائمي الحضور غير متقاعسين يقدمون أفضل ما عندهم خلال التمارين. كما لم أجد أيّ إشكال في التعامل معهم، وأعاملهم كسائر المتكونين في المركز".

 

اقرأ/ي أيضًا:

في أدب السجون: قصائد عمّار منصور المهرّبة من السجن نموذجًا

السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية