22-أكتوبر-2019

لعب القانون الانتخابي دورًا في تشتيت نتائج الانتخابات التشريعيّة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

يبدو عنوان "حكومة مهام وطنيّة" من العناوين الأقرب إلى انتظارات الرأي العام، بعد خمس سنوات على انتخابات 2014 التي مكّنت حزب نداء تونس العنوان السياسي للقديم العائد، من الرئاسات الثلاث. ورغم ما بين حكومتيْ الحبيب الصيد ويوسف الشاهد من فروق، فإنّ "حكومة التوافق" مثّلت التسمية الجامعة بينهما، إضافة إلى عجزهما عن مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة المتفاقمة وتوفير شروط الانتقال الاقتصادي الاجتماعي الذي تأخّر عن الانتقال السياسي بما تحقّق من خطوات في مسار بناء الديمقراطية. فكيف بدا تفويض 2019 في التشريعية خاصّة؟ وما العنوان الذي ستستقرّ عنده الحكومة الجديدة؟

اقرأ/ي أيضًا: تونس: المشهد السياسي في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية (تقدير موقف)

تفويض منقوص واختلافات جوهريّة

نحتاج في كلّ مرّة إلى استعادة ثنائيّة قديم/جديد لتقريب صورة المشهد السياسي، رغم ما عرفه القديم والجديد كلاهما من تحوّلات أعادت رسم الحدود بينهما. ويمكن اعتبار الانقسام الحالة المشتركة بين الجهتين، رغم مستويات هذا الانقسام ومداه وآثاره السياسيّة، فقد كان الأثر الأكبر على المشهد السياسي ما عرفه حزب النداء من انقسامات تواصلت ارتداداته لتمتدّ إلى الاستحقاق الانتخابي الأخير في الرئاسة والتشريعيّة، فتعدّدت الواجهات الحزبيّة بشكل لافت. وأمّا "الصف الثوري" فإنّ الانشقاقات التي عرفتها أحزابه قد استقرّت نوعًا ما منذ 2013.

 لعب القانون الانتخابي دورًا في تشتيت نتائج الانتخابات التشريعيّة وتراجع نسبة المشاركة وانحسار خزّان الأحزاب الانتخابي والوصول إلى تفويض منقوص

وإلى جانب واقع التشتّت الحزبي، لعب القانون الانتخابي دورًا في تشتيت نتائج الانتخابات التشريعيّة وتراجع نسبة المشاركة وانحسار خزّان الأحزاب الانتخابي والوصول إلى تفويض منقوص. وظهر أثر التشتّت كذلك على الانتخابات الرئاسيّة في دورها الأول.

فازت حركة النهضة بالمرتبة الأولى بـ52 مقعدًا من 217 مقعدًا يتكوّن منها البرلمان، في حين جاء حزب "قلب تونس" المنتمي إلى المنظومة في المرتبة الثانية بـ38 مقعدًا، وبعده كان التيّار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وحركة الشعب، وتعتبر الانتخابات في مجملها تفويضًا واضحا لـ"الصفّ الثوري"، واعتبرت هذه النتيجة رسالة لهذا الصف ليحزم أمره ويجتهد في تجاوز المختلف بين مكوّناته ويبني على المشترك بينها.

غير أنّ التصريحات التي أعقبت ظهور النتائج الأولى لم تكن مشجّعة، رغم أنّها مثّلت خطوة أولى في مسيرة التفاوض على تشكيل الحكومة. فبادر محمد عبو أمين عام التيّار الديمقراطي بأنّه اختار المعارضة ثم ليعود عن رأيه ليطلب ثلاث وزارات الداخليّة والعدل والوظيفة العموميّة شرطًا للمشاركة في الحكومة المكلّفة النهضة بتشكيلها. في حين ركّزت حركة الشعب على البرنامج، مع تردّد في المشاركة في حكومة تقودها النهضة التي كانت جزءًا من منظومة حكم عنوانها الأبرز الفشل، وانتهت إلى اقتراح مقترح "حومة الرئيس" صيغة لتجاوز ما أسمته المحاصصة الحزبيّة، ولم يكن ائتلاف الكرامة بعيدًا عن هذا التوجّه وإن كان أعلن مبدأ المشاركة في الحكومة ودعمها بناء على برنامج قاعدته تحقيق أهداف الثورة، مشدّدًا على ثانويّة الخطط الوزاريّة بالنسبة إليه.   

السلطة والحكم و"مأزق" تشكيل الحكومة

هذه هي المرّة الثانية التي تُكلَّف فيها النهضة بتشكيل الحكومة وقد كانت المرّة الأولى في حكومة الترويكا في 2011 بعض التفويض الشعبي الكبير في الانتخابات التأسيسية. ورغم وضوح المهمّة المتمثّلة في كتابة الدستور وإقامة ما تيسّر من أسس النظام السياسي الجديد، فقد عرفت المرحلة اضطرابات كبرى كادت تعصف بالمسار كلّه، غير أنّها كشفت كثيرًا مما خفي عن علاقة السلطة بالحكم وعن محاولات الثورة إعادة توزيع السلطة وما جابهته من صدّ من مراكز النفوذ القديمة وأذرعتها في الإعلام والمال والأعمال والإدارة. ومن أهمّ الدروس المباشرة التي استخلصت أنّ الفوز في الانتخابات النزيهة والشفافة بما في ذلك الفوز الباهر ليس كافيًا لممارسة الحكم وتطبيق البرامج. ويعود الأمر إلى ما عرفته السلطة مع الثورة من إعادة توزيع بعد ما عرفته من تمركز مع الاستبداد والفرد الحاكم بأمره.

الشرعية الانتخابيّة ليست هي الشرعيّة الوحيدة عمليًا، بل تبدو شرعيّة جزئيّة، وهذا جيّد في الثورات التي لا يفقد فيها الشارع نصيبه من الشرعيّة

بعض من قيادات النهضة ردّدوا في أكثر من سياق ما للتوافق من فضل في حماية التجربة وتواصل بناء الديمقراطيّة، وكيف أمكن بواسطة التوافق تجنيب البلاد ما عرفته أقطار أخرى عربيّة من انقلابات ومن احتراب أهلي دمّر القليل الذي بُني. وهذا الكلام في مجمله مقبول غير أنّ من يردّده يهمل أمرين مهمّين: الأمر الأول هو أنّنا لم نتجنّب الانقلاب في المطلق بقدر ما تجنّبنا الانقلاب الدموي ونموذجه السيسي البائس، وعشنا مع الحوار الوطني انقلابًا ناعمًا على إرادة الناخب برعاية "الرباعي الراعي للحوار". والأمر الثاني هو أنّ البلاد صارت "غير قابلة للحكم" فالسلطة فعلًا متذررّة بين الأحزاب والاتّحاد ولوبيات المال والأعمال والثقافة والمافيا والخارج...الخ، فلكل هذه الجهات نصيب من السلطة وإن لم تكن جزءًا من الحكم. فالشرعية الانتخابيّة ليست هي الشرعيّة الوحيدة عمليًا، بل تبدو شرعيّة جزئيّة، وهذا جيّد في الثورات التي لا يفقد فيها الشارع نصيبه من الشرعيّة.

اقرأ/ي أيضًا: انتخابات 2019.. حتّى يبلغ الفرز مداه

هذا المعطى مهمّ جدّا لفهم ما يمثّله التكليف بتشكيل حكومة وترؤّسها من مأزق حقيقي، فجانب من السلطة يوجد خارج "منظومة الحكم"، وهو ما يجعل من القدرة على تنفيذ الوعود والسياسات محفوفًا بإخلاف الوعد وانتفاء الشروط. وهو أيضا ما يفسّر صفة "الفشل" التي استُهلكت حتّى كات تفقد معناها. والسؤال الغائب هو: هل يوجد قادر على الفعل والنجاح في وضعنا "غير القابل للحكم"؟

قد يكون لبعض الأحزاب حدس لهذه الحقيقة فتبادر، حتّى قبل ساعات قليلة من الإعلان عن النتائج الاوليّة، ورفع سقف الشروط المشاركة في مرحلة ثانية. والأمر قد لا يتعلّق بفائض تطهّر وزهد في السلطة من أحزاب تكوّنت للوصل إلى السلطة، بقدرما هو وعي، ولو كان سطحيًا، بتذرّر السلطة وصعوبة الحكم وإنفاذ البرامج في المراحل الانتقاليّة. ففي المرحل الانتقاليّة جوهر المعركة سياسي وحول البناء السياسي.   

تقديم الصفات على الذوات

يبدو أنّ حركة النهضة، من خلال تحمّلها لمسؤوليّة التفويض الشعبي بتشكيل الحكومة، لم تتوقّف عند هذا الدرس، وتصرّ على أن يكون رئيس الحكومة منها ومن قياداتها البارزين. ونعتبر أنّ خمس معطيات لم تتمّ مراعاتهما هي:  

ـ ضعف التفويض بسبب القانون الانتخابي وتشظّي المشهد الحزبي.

ـ تباعد الهوّة بين المنتسبين إلى الصف الثوري، وفشلهم في بناء مشترك ولو مرحلي.  

ـ تواصل شروط الانقسام الهووي وقابليتها لأن تتحوّل إلى تجاذب سياسي يمنع كل تقدّم.

ـ عمق الازمة الاقتصاديّة الاجتماعيّة وتفاقمها المطّرد.

ـ استفحال الفساد وانتشاره في الأفقي المفزع.

مراعاة هذه المعطيات يدفع إلى استعادة الدروس المستفادة من التجارب السابقة وفي مقدّمتها أنّ توسيع قاعدة الحكم يمثّل أهمّ الضمانات في الظرف الانتقالي.           

ومن ناحية أخرى فإنّ "البرنامج" عمقًا ووضوحًا وعلاقةً متينةً بالمرحلة سيكون أهمّ مقدّمة لتيسير تشكيل الحكومة، وسيساعد على تجاوز "المحاصصة الجوفاء" حين تكون اتفاقًا على غير برنامج و"المحاصصة العمياء" حين تكون على غير منهج دقيق ورؤية مسدّدة. فالحزب المكلّف بتشكيل الحكومة سيقطع نصف الطريق إذا افتتح مشاورته بورقة برنامج جادّ. وبإمكانه أن يرشّح لرئاسة الحكومة شخصيّة اقتصاديّة متخصّصة ولها تجربة في إدارة الأزمات الماليّة وسبل الخروج منها. وتسيّس هذه الشخصيّة لا يعني بالضرورة تحزّبها وإنّما إطلالتها على عالم السياسة من كوّة اختصاصها وتبريزها فيه. وللحزب المكلّف أن يكون منه فريق وزاري أمّا وزارات السيادة كالداخليّة وغيرها فمن المهمّ دعم شروط التعافي ولو بمنطق الاستمراريّة إذا تأكّدت ملامح التعافي في إحداها في الخمس سنوات الماضية.  

يمكن استعادة فكرة "حكومة الرئيس"، وهي فكرة، إذا نزعناها مما قد يكون قد علق بها من رواسب "المفاوضات السجاليّة" عقب ظهور النتائج الأولى، يمكن الاستفادة منها

في هذا السياق، يمكن استعادة فكرة "حكومة الرئيس"، وهي فكرة، إذا نزعناها مما قد يكون قد علق بها من رواسب "المفاوضات السجاليّة" عقب ظهور النتائج الأولى، يمكن الاستفادة منها. ويمكن أن تمثّل عنصر تجميع حقيقي. وهي فكرة لن تنزع عن الحكومة صفتها "السياسيّة" وتخرجها إلى "التكنوقراطيّة" ليركبها "الرعاة". وستجد من التفويض الشعبي الواسع الأشبه بالاستفتاء فيما يتعلّق بانتخاب رئيس الجمهوريّة سندًا قويًا وسيكون من الصعب محاصرتها وتعطيل برنامجها وهرسلة فريقها.

المرحلة القادمة لن تكون سهلة، ومن ستحسب الحكومة باسمه، وخاصّة من الأحزاب، فإنّ مستقبله الحزبي على المحكّ. ومن جهة الثورة وقدرتها على بدء التفكير في توفير شروط الانتقال الاجتماعي، تمثّل فكرة "حكومة الرئيس" منفذًا إلى مشترك سياسي تحتاجه المرحلة لفتح ملف التنمية والمنوال التنموي  وتصريفًا إيجابيًا للتفويض غير المسبوق الذي ناله الرئيس الجديد. وفي كلّ الحالات، لن تكون هذه الحكومة إلاّ حكومة المهام الوطنيّة، وأمّا من ينهض بها فإنّ وضوح الصفات (قدرات الوزير) سيُيسّر اختيار الشخصيّات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل أعاد النّصر السّاحق لقيس سعيّد النفس الثوري للتونسيين؟

الشباب وقيس سعيّد.. حينما يقول الشباب كلمته تحدث المفاجأة!