07-أكتوبر-2019

جوهر الحكم المحلّي تحويل القيم الثقافيّة والأهليّة إلى قيم تنمويّة (ناصر طلال/وكالة الأناضول)

  

ظهر مصطلح الحكم المحلّي في معجمنا السياسي الذي تبلور وتوسّع مع حياتنا السياسيّة الجديدة، رغم أنّ مضامينه غير بعيدة عمّا استمرّ من أصداء للممارسة المحليّة في الثقافة وفي حياة الناس، وفيما يبدو من مظاهر تضامن اجتماعي وبقايا أشكال انتظام أهلي لم تأتِ عليها عمليّة التحديث القسري التي عرفت أوجها مع دولة الاستقلال.

 مثّلت فكرة الحكم المحلّي ومسألة الانتظام الأفقي نقطة مركزيّة في خطاب المرشح الرئاسي قيس سعيّد وبرنامجه الانتخابي

وترسّخ المصطلح مع الباب السابع من دستور الثورة، وكانت تجربة واحة جمنة بمنحاها التضامني التشاركي أولى الخطوات العمليّة قبل نشر الباب في قوانين تفصيليّة وردت بمجلّة الجماعات المحليّة. ولكنّ الموضوع عاد بقوّة إلى السطح مع نتائج الدور الأول من الاتنخابات الرئاسيّة ومرور أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد ورجل الأعمال في مجال الإعلام نبيل القروي الموقوف من أجل تهم بالتهرّب الضريبي وتبييض الأموال، إلى الدور الثاني. وقد مثّلت فكرة الحكم المحلّي ومسألة الانتظام الأفقي نقطة مركزيّة في خطاب الأستاذ قيس سعيّد وبرنامجه الانتخابي.

اقرأ/ي أيضًا: تونس.. محنة الرئاسة واحتمال المجهول

أوجه المفاجأة في الدور الاوّل

مثّلت نتائج الدور الأول مفاجأة حقيقيّة عند الرأي العام وبدا ذلك، رغم ما كانت تُجمع عليه استطلاعات الرأي من تقدّم لقيس سعيّد ونبيل القروي.   

ولعلّ عنصر المفاجأة يأتي عند عامّة المتابعين من مرور مرشّحيْن إلى الدور الثاني كلاهما لا يملك حزبًا سياسيًا ولا حاضنة انتخابيّة واضحة المعالم، فنبيل القروي عُرف بميدان الإعلام وهو صاحب قناة كان لها دور فاعل في توجيه الأحداث السياسيّة في 2013 وإرباك مسار التأسيس، مثلما كان لها تأثير قوي على اتجاهات الرأي في انتخابات 2014 وتحديد نتائجها. والقروي لا يفتأ يذكر أنّه صانع الرؤساء، وأنّ له يدًا في وصول الباجي قايد السبسي إلى قرطاج. 

وكذلك الأمر بالنسبة إلى قيس سعيّد، فقد غلبت عليه صفة الاكاديميّ، ولم يُعرف له نشاط سياسي حزبي بارز في مرحلة الاستبداد، وكانت مواقفه السياسيّة نادرة، حتّى بعد الثورة، ومنها دعوته القويّة إلى رحيل من أسماهم بالطبقة السياسيّة التقليديّة على إثر الاغتيال السياسي الثاني الذي عرفته البلاد وما صحبه من تداعيات سياسيّة كبيرة. وإذا أردنا مقارنة قيس سعيّد بغيره من السياسيين قلنا: هم ساسةً لهم مواقف فكرية وهو صاحب فكر له مواقف سياسيّة.

نتيجة الدور الأوّل  للرئاسية يمكن نعتها بـ"ثأر الهامش" في مستوييه: الأخلاقي السياسي الذي تنكّر له الإسلاميون بعد أن جعلوا منه أصلًا تجاريًا، والاجتماعي المعيشي الذي تنكّر له اليساريون بعد أن احتكروا الكلام باسمه

هذا معنى أول للمفاجأة لا نراه إلا ظاهرًا للمفاجأة الحقيقية التي تتمثّل بالنسبة إلينا في قفز فكرة الحكم المحلّي، من الهامش إلى الدولة. ونعني في هذا السياق أمرين اثنين: تجربة جمنة الرائدة التي انزاحت إلى الظلّ، وأهميّة فكرة الحكم المحلّي في مشروع الأستاذ. فمن المهمّ التأكيد على أنّ مدار خطاب قيس سعيّد السياسي على فكرة الحكم المحلّي وأنّ البناء عنده يبدأ من الأسفل، وأنّ أساس الأزمة يعود إلى مركزيّة الدولة.

ولعلّ المفاجأة الأكبر هي التي عاشها الأستاذ قيس سعيّد بينه وبين نفسه، فهو لم يكد يهمّ بوضع الحجر الأساس لفكرة البناء المحلّي بما هو بناء بالناس ولأجل الناس ومشاركة واسعة في تحمّل المسؤوليّة حتّى وجد نفسه منجذًبا إلى رئاسة الجمهوريّة أعلى مؤسسات الدولة ورمز سلطتها المركزيّة. فكان التعارض واضحًا بين أفقيّة الفكرة (أطروحة الأستاذ) وعموديّة المؤسسة.  

ولا نظنّه لم ينتبه إلى ما طرأ على السياسة والنضال السياسي وطرق الوصول إلى الحكم من تغييرات جوهريّة، وهو يرى إلى جانبه أصدقاء أمضى البعض منهم ثلثي عمره في مناهضة الدكتاتوريّة والثبات الصعب على المبدأ، ولكنه عندما تقدّم مُرشَّحًا وجد نفسه في آخر الترتيب بنسبة تصويت موجعة.   

نتيجة الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسيّة بقدر ما مثّلت ردّة فعل عنيفة يمكن نعتها بـ"ثأر الهامش" في مستوييه: الأخلاقي السياسي الذي تنكّر له الإسلاميون، بعد أن جعلوا منه أصلًا تجاريًا، والاجتماعي المعيشي الذي تنكّر له اليساريون، بعد أن احتكروا الكلام باسمه. وكأنّه لا مجال للجمع بين المستويين في هويّة واحدة.  حتّى ردّة الفعل التي عبّرت عنها نتائج الدور الأوّل لم تتخلّص من انفصال المستوويْن وتقابلهما الحادّ في شخصيّتي أستاذ القانون الممتلئ مُثُلاً، ورجل الأعمال المثقل بتهم التهرّب الضريبي وتييض الأموال.  

إعادة طرح الأسئلة

نتائج الدور الأول تعيد طرح الأسئلة التي واجهتنا في أوّل عهدنا بالثورة، ولذلك كان من الصعب التمييز بين أثر ما يسمّيه البعض بـ"عودة روح الثورة" وأثر "عودة الأسئلة" التي يبدو أنّنا لم ننجح في الإجابة عنها حين لم نوفّق في جمع شروط الإجابة الملائمة.

من هذه الأسئلة سؤال الدولة والأخلاق، وسؤال الانقسام الاجتماعي الذي يعرفه بلدنا. والسؤالان يبدوان وجهين لعلامة سياسية واحدة. فالانقسام الاجتماعي صورة من تجربة الدولة التي حوّلت كلّ الأخلاق إلى قوانين، ولهذا السبب قامت الثورة، فالثورة دوريّة كالنبوّة لا تأتي إلا لتذكّر بالأخلاق عندما تحتكرها الدولة وتحوّلها قوانين.  

نتائج الدور الأول تعيد طرح الأسئلة التي واجهتنا في أوّل عهدنا بالثورة، ولذلك كان من الصعب التمييز بين أثر ما يسمّيه البعض بـ"عودة روح الثورة" وأثر "عودة الأسئلة" التي يبدو أنّنا لم ننجح في الإجابة عنها 

من مظاهر استعادة هذه "الأخلاقيّة" في مواجهة الدولة كانت تجربة جمنة التي حملت اسم "جمعيّة حماية واحات جمنة" وكانت مبادرة سياسيّة أخلاقيّة، استعاد بها الأهالي/ مع الثورة، حقّا لهم اغتُصاب في الحقبة الاستعماريّة وتواصل مع دولة الاستقلال بطرق مختلفة نسبيًا.

اقرأ/ي أيضًا: هل كشفت جمنة أزمة دولة ما بعد الثورة في تونس؟

إلا أنّه مع عودة القديم في 2014، لم تراع الدولة في التعامل مع مبادرة الأهالي "الجانب الأخلاقي" المتمثّل في استعادتهم "واحتهم" ضمن تقاليدهم في التضامن المحلّي والروح الجماعيّة. وعمدت إلى مواجهة الجمعيّةَ بترسانة من القوانين أربكت التجربة. فكان القانون مرّة أخرى في مواجهة الأخلاق. ويبدو أنّ المواجهة بين الجديد والقديم، في بدايات الثورة، كانت، في معنى من معانيها، مواجهةً بين الأخلاق والقانون. ومع تبلور النظام السياسي الجديد المقرّر في الدستور، وتغير الحدود بين القديم والجديد وما صحبها من تداخلات وتخارجات، عرفت المواجهة تحولات مهمّة نجد أثارها اليوم في نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسيّة. ونكتفي منها بالإشارة إلى أنّ المواجهة التي كانت بين القانون والأخلاق هي اليوم بين القانون واللاّقانون (سعيّد/القروي).

كان هذا التحوّل مع انفجار الواجهة السياسيّة للمنظومة، وظهور بعض روافدها العميقة إلى العلن بواجهات سياسيّة لا تخفي عمقها المافيوزي، ولا تتحرّج من فتح المجال السياسي السيادي ليكون تحت تأثير أجندات أجنبيّة. ويمثّل القروي بتعاقده مع شركة لوبيينغ صهيونيّة و"عيش تونسي" بتمويلاتها الضخمة المشبوهة وتحيّلها الظاهر في توظيف الجمعياتي لأغراض سياسية أمثلة عن هذا التحوّل. وهو ما يعطي للانتخابات الرئاسيّة في دورها الثاني، في علاقة بالانتخابات التشريعيّة ونتائجها المنتظرة، صفة الانتخابات الحاسمة.  

سياق الحكم المحلّي ومضمونه

ما لفت انتباهنا في جمنة أنّ تركيبة مكتب الجمعيّة شملت كلّ الطيف السياسي ( الجبهة الشعبية، النهضة، حركة الشعب، المؤتمر إلخ) وهو الطيف السياسي نفسه الذي تناحر ويواصل تناحره في المركز وكان انقسامه الثغرة التي تسرّب منها القديم بعد الانتخابات التأسيسية في 2011. وكان التحوّل عميقًا من واجب محاسبة القديم على قاعدة التأسيس إلى واقع منافسته على قاعدة الانتقال الديمقراطي.

يومها قيل: "من فرّقتهم الدولة جمعتهم الواحة"، والأمر المثير هو أنّ الظاهرة نفسها التي نشأت في الواحة في الهامش تقفز مع الأستاذ سعيّد إلى مؤسسة الرئاسة. فالفريق الذي يحيط به ومن خلال ما رشح عنه من سِيَرِ أفراده يشيىر إلى أنّ من فرّقتهم الدولة تجمع بينهم أحد مؤسساتها وهي رئاسة الجمهوريّة. والقاسم المشترك بين من جمعت بينهم الواحة ومن جمعت بينهم مؤسسة الرئاسة هو مرجعيّة الحكم المحلّي من ناحية، وهومن ناحية أخرى تنوع مرجعيّاتهم واختلاف تجاربهم السياسيّة مع اختلاف من مهم الوقوف عنده:

ـ في تجربة جمنة: عموديّة الفكرة (انتماء أعضاء الجمعيّة إلى أحزاب هرميّة) وأفقيّة الإطار (الجمعيّة).

ـ في تجربة الرئاسة المتوقّعة: أفقيّة الفكرة وعموديّة المؤسسة.  

كأنّ فكرة الحكم المحلّي قطعت مسافة المشهد السياسي من جمنة لتحطّ بمؤسسة رئاسة الجمهوريّة. وهذا القفز لا يبرّره إلاّ حقيقة الانقسام الذي يعرفه بلدنا، وهو انقسام اجتماعي بالأساس كان سببًا في قيام الثورة ثمّ صارت مهمّ رأبه أولويّة الثورة. والانقسام صورة من مركزيّة الدولة التي لم تقدر على تغطية كلّ المساحة الاجتماعيّة.

 المشهد الاجتماعي بقي وسطًا بلا يسار، فـ"يسار الفكر" لم يكن على يسار الحركة الاجتماعيّة وفضّل أن يكون في أقصى يمينها مع عبير لا يميّز خطابه عن خطابها إلاّ العنوان الحزبي

بين الواحة والرئاسة مساحة اجتماعيّة ممتدّة يشقّها الانقسام، فمثلما لنا اقتصاد رسمي واقتصاد موازي صار لنا مجال سياسي رسمي يعرف انتقالًا ديمقراطيًا متعثّرًا وديمقراطيّة تمثيليّة مهدّدة بالفساد ومجال سياسي موازي يعرف احتجاجات دوريّة لا يميّز فيها بين الأصيل والدخيل. وكان منتظرًا أن تنهض الأحزاب ذات التوجّه الديمقراطي الاجتماعي برأب الصدع الاجتماعي بتطوير الديمقراطيّة التمثيليّة إلى ديمقراطيّة تشاركيّة قد تكون مرحلة ضرورية نحو ديمقراطيّة مباشرة. ولكن المشهد الاجتماعي بقي وسطًا بلا يسار، فـ"يسار الفكر" لم يكن على يسار الحركة الاجتماعيّة وفضّل أن يكون في أقصى يمينها مع عبير لا يميّز خطابه عن خطابها إلاّ العنوان الحزبي.

في هذا السياق، نفهم "ثأر الهامش" وظاهرة قيس سعيّد المصاحبة، ونفهم جزئيّة رؤيته للمشهد السياسي الاجتماعي وتصوّره للدولة والحكم المحلّي، من خلال ما صرّح به في المقابلات القليلة. وفي هذا السياق يكون الحديث بوضوح عن جوهر المشروع الوطني بما هو إعادة بناء للدولة وتعزيز قدرتها على تغطية كلّ المساحة السياسيّة (مجال سياسي واحد في ظل ديمقراطيّة تشاركيّة) وكلّ المساحة الثقافيّة (بناء مشترك وطني) وكلّ المساحة الاجتماعية (رأب الصدع الاجتماعي)، فيكون جوهر الحكم المحلّي تحويل القيم الثقافيّة والأهليّة إلى قيم تنمويّة.

سيكون للانتخابات التشريعيّة علاقة بالثأر المذكور، غير أنّ هامش الثأر في الانتخابات التشريعيّة سيتقلص، فالنظام البرلماني بقدرما سيُعطي فرصة للمستقلّين فإنّ لحضور المترشّحيْن للدور الثاني نصيبًا، رغم زهد الأستاذ سعيّد غير المفهوم في الظفر بكتلة برلمانيّة تكون من بين أدوات الرئيس في إنفاذ برنامجه. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

"اللّطخة" الانتخابية وإعادة ترتيب الأولويات.. السياسة بعيون الناس

في أزمة الديمقراطية التونسية المزدوجة: السياسة والميديا