المسرح، والغناء والرقص كلمات تقودنا غالبًا إلى دور العروض الثقافية وخشبات المسارح والستائر الحمراء، وإلى الأضواء الغامضة والجمهور النخبوي لحضور عروض مبرمجة مسبقًا. ولم تكن فكرة الخروج بتلك الفنون إلى الشارع فكرة سهلة قبل الثورة، خاصة أنّها تخضع لقواعد قانونية وتراخيص مسبقة.
بعض الشباب التونسي اختار أن تعود تلك العروض إلى تشكلاتها الأولى ومكان نشأتها الأول وهو "الشارع"، قبل أن تصبح حكرًا على قاعات مغلقة تُقدّم فيها العروض وفق برمجة مسبقة أو تراخيص قانونية. وقدم بعض الشباب عروضًا مباشرة في الساحات والشوارع العامة، وانتشرت العديد من العروض الفنية بشكل كبير خاصة بعد الثورة. وبدأت بعض الشوارع خاصة في العاصمة تشهد انتشار ما يعرف بموسيقى الشارع. فيما أصبحت ظاهرة "مسرح الشارع" تتشكل في عدّة مناطق منذ سنة 2011، سواء من تنظيم بعض هواة وخريجي المسرح أو بعض الجمعيات.
اختار بعض الشباب تقديم العروض في مكان نشأتها الأول وهو "الشارع" قبل أن تصبح حكرًا على قاعات مغلقة تُقدّم فيها العروض وفق برمجة مسبقة أو تراخيص قانونية
ويبدو أنّ البعض الآخر اختار الخروج أيضًا بالرقص إلى الجمهور العريض في الشارع، على غرار مبادرة قام بها الشباب التونسي سنة 2016 بعنوان "سأرقص رغم كل شيء"، وذلك خارج التراخيص القانونية وضد كلّ الحواجز الثقافية نحو جمهور أكبر في شارع الحبيب بورقيبة في عرض لا يخضع لترخيص مسبق ولا إلى رقابة قانونية، ولا يتقيد ببروتوكولات رتيبة كالتي تشهدها العروض في دور العرض. وتقوم المبادرة على ممارسة الرقص الحرّ بين عامة الناس، في الشوارع والأحياء الشعبية.
هي مجموعات شبابية ترقص في الشوارع وفي الساحات العامة أو حتى في بعض الأسواق، تحدّيًا لقرار سابق لوزارة الداخلية بمنع العروض العامة في شارع بورقيبة، بعد أن قامت مجموعة من المتشدّدين بالاعتداء على شباب يقدمون عرضًا مسرحيًا في اليوم العالمي للمسرح في مارس/آذار 2012.
اقرأ/ي أيضًا: في شارع بورقيبة.. تحدي الإرهاب بالرقص
ولم تعد عروض الشارع على اختلافها تمثل مفاجأة لدى المارة أو فعلًا غريبًا في الشوارع التونسية. ولم يعد الفضول لمشاهدة مشهد غريب عن الشارع التونسي هو دافع من يقف للفرجة على تلك العروض، بل الدافع الأكثر هو الفضول للبحث عن الاختلاف في تلك العروض التي يبدو أنّها باتت جزءًا من الشارع التونسي بعد الثورة.
رقص في الشارع.. لأن الرقص ليس حكرًا على دور العرض
نسرين بن عربية (23 عامًا) راقصة الباليه منذ 12 سنة، خرجت هي الأخرى من قاعات العروض ودور الثقافة إلى مكان أوسع. رقصت في شارع الحبيب بورقيبة، ذلك الشارع الذي شهد ولادة أغلب عروض الشارع، ورقصت أيضًا في المدينة العتيقة وفي بعض الشوارع الأخرى في العاصمة كفراشة أطلقت عنانها للريح، تحسب خطواتها على أطراف أصابعها في حركات خفيفة رشيقة، في مساحة أوسع من تلك التي قد تقيّد خطواتها على خشبة مسرح.
لا تعلم جمهورها ولا ميولاته أو مدى اهتماماته بهذا النوع من الرقص وإعجابه به. كلّ ما تعرفه في ذلك الوقت هو تقديم عرض ممتع بحركات رشيقة، تُعرّف بفنّ الباليه وجمالية الحركات الانفعالية فيه حتى وإن لم يفقه البعض كنه تلك الحركات أو تعابيرها ودلالاتها. يكفي أنّها تقدّم عرضًا رشيقًا يستهوي المارة لاكتشاف هذا الرقص، حتى تُصبح دلالته أو تعبيراته واضحة لدى البعض.
اختارت نسرين بن عربية رقص الباليه في الشارع وليس فقط في دور العرض (محمد الشرميطي)
اقرأ/ي أيضًا: أبرز أنواع الرقص التي يقبل عليها التونسيون.. تعرف عليها
تقول، في حديثها لـ"ألترا تونس"، إنّ فكرة خروجها للشارع والإيمان بثقافة القرب من الجمهور كانت باقتراح من أحد أصدقائها المصورين الفوتوغرافيين محمد الشرميطي "كنوع من التحدي خصوصا للفكر الظلامي وكلّ من يقف ضد الفنّ بجميع أنواعه". لم تُعدّل الفكرة كثيرًا في مخيلتها وفق قولها، مضيفة "بل رحبت كثيرًا بالفكرة لأنني مؤمنة بثقافة القرب من الجمهور وبأنّ الفن بجميع أنواعه من مسرح أو غناء أو رقص ليس حكرًا على دور العرض ولا القاعات المبهرجة، وإنّما يجب أن يشمل الساحات العامة والشوارع الرئيسية في كلّ الجهات وليس العاصمة فقط بعيدًا عن مركزية حتى هذا النوع من الأداء والفنّ". وأشارت إلى أنّها تفكر في زيارة كلّ الجهات التونسية لتقديم عروض في أغلب شوارعها وأسواقها العتيقة.
الباليه.. فن نخبوي لا يدخل في ثقافة المواطن التونسي
رقص الباليه نشأ في عصر النهضة في إيطاليا، ويعود الفضل في ظهور كلمة "باليه" إلى دومنيكو دي بياشينزا الذي أطلق اسم "بالو" (ballo)، بدلًا عن "دنزا" (dansa) أي رقص. وحقق رقص الباليه تطورًا نوعيًا في كلٍ من إيطاليا وفرنسا، حيث تمّ تصميم العديد من رقصات الباليه الجماعية الراقية المصحوبة بالموسيقى. ولم يظهر بداية بشكله الحالي، وإنما كان مصحوبًا بغناء أوبرالي. وهو فن يتصل أساسًا بالأداء الحركي كوسيلة للتعبير عن الانفعالات المختلفة من خلال الرقص الرشيق وخفة الأقدام والحركات التعبيرية للتعبير عن الحزن أو الفرح أو الحرية. وتطور فنّ الباليه الحالي عن ذاك الكلاسيكي سواء من حيث الحركات أو أنواع الموسيقى المرافقة للرقص والعرض، أو حتى من ناحية الأزياء التي باتت تختلف نوعًا ما من بلد إلى آخر.
نسرين بن عربية لـ"ألترا تونس": آمنت بأنّ فنّ الباليه غير مرتبط فقط بدور العرض وأنّه لا يقتصر فقط على جمهور نخبوي بل قد يصبح بفضل عروض الشارع فنًا يستهوي الجميع
ويظل فن الباليه في تونس، على غرار جل الدول العربية، فنًا لا يدخل في ثقافة المواطن التونسي، بل هو فن نخبوي يحضره أشخاص مُعيّنون خصوصًا محبي هذا النوع من الرّقص وفق قول محدثتنا. وتضيف أنّها "آمنت بأنّه فنّ غير مرتبط فقط بدور العرض، وإنّما ينبع من الشارع أساسًا، وأنّه لا يقتصر فقط على جمهور نخبوي بل قد يصبح بفضل عروض الشارع فنًا يستهوي الجميع".
لم تخش نسرين من ردة فعل الناس في الشارع وهي تمارس حقها بحرية، بل تفاعل البعض مع المبادرة ومع رقصها في الشارع إيجابيًا عبر سؤالها عن أماكن تعليم بناتهم رقص الباليه، أو مشاهدة عرضها كاملًا وفق قولها. ولكن أشارت إلى أنّها تعرّضت أيضًا إلى استهجان وسخرية العديد على مواقع التواصل الاجتماعي بعد تناول تجربتها إعلاميًا ونشر بعض العروض التي قدّمتها. فيما تؤكد أن "ذلك لن يحبط عزيمتها في شيء ولن يعدلها عن فكرة تقديم أكثر عروض لا سيما في الجهات الداخلية" وهي تؤكد، في ختام حديثها معنا، أنها تطمح إلى تقديم عروض حتى خارج تونس.
اقرأ/ي أيضًا:
عرض "خيول" لـ"كابيني كا": كوريغرافيا لترتيب الحياة من جديد
جداريات الرسام حاتم المكي... كنز تشكيلي لفّه النسيان والإهمال