30-ديسمبر-2018

عرض تونسي بلجيكي مشترك

تصدير من رواية "زوربا اليوناني" لنيكوس كازانتزاكي:

"غمزني بعينيه وسألني: لماذا لا تضحك؟ لماذا تنظر إلي بهذه الطريقة؟ هكذا أنا، ثمة شيطان يصرخ بداخلي، وعلي أن أنفّذ ما يأمرني به كلما شعرت بنفسي مختنقًا من عاطفة ما..  

يأمرني: أرقص فأرقص وأشعر بالتحسن.. ذات مرّة حين توفي صغيري ديميتراكي نهضت كما فعلت منذ لحظة ورقصت.. اندفع الأقرباء والأصدقاء الذين شاهدوني أرقص أمام الجثة كي يوقفوني. قالوا إنّ زوربا فقد عقله.. ولكنني لو لم أرقص في تلك اللحظة لكنت جننت من الحزن لأنه كان ولدي الأول ولم أستطع تحمل فقدانه.. أتفهم ما أقوله أيها الرئيس؟".


جعلني هذا المقطع الفاتن من رواية "زوربا" أدرك ومنذ عقود سابقة أن الرقص هو أجمل لغة تسكننا وبها نفهم بعضنا البعض نحن البشر في الصحو كما في المطر، في الحزن كما في الفرح.

وقد استعدت هذا المقطع كاملًا وأنا في حضرة العمل المسرحي الراقص "خيول" الذي احتضنت قاعة الفن الرابع بتونس عرضه الأول مساء الجمعة 28 ديسمبر/كانون الأول 2018.

"خيول" هو إنتاج مشترك بين المسرح الوطني التونسي، مؤسسة عمومية تابعة لوزارة الشؤون الثقافية مهمتها إنتاج ونشر فنون المسرح، وجمعية "الشارع فنّ"، وهي جمعية تأسست سنة 2006 تهدف إلى التغيير الاجتماعي بواسطة تعميم الفن في الفضاء العمومي، ومن مهامها أيضًا العمل على خلق توازنات إيجابية ضد التمييز وعدم المساواة واستغلال النفوذ والسلطة.

"خيول" هو إنتاج مشترك بين المسرح الوطني التونسي وجمعية "الشارع فن" والمجموعة البلجيكية الراقصة "كابيني كا"

أمّا الشريك الآخر لـ"خيول" فهو المجموعة البلجيكية الراقصة "كابيني كا" التي تشتغل بالرقص كمعنى وكلغة، وهي مجموعة تشتغل على أسس فلسفية وفكرية في تعاطيها مع فنّ الرقص. ويساعد المجموعة حاليًا الفنانان الكوريغرافيان جوك لورينس، وهي تأتي لهذا العالم من مجال الفلسفة، وكوينت مانسهوفن القادم من عالم الرسم فيما يتركز منهجها في الرقص أساسًا على الجمع بين راقصين محترفين وأطفال.

"خيول" هو خلاصة راقصة أو عرض نهاية الإقامة الفنية الخاص بمجموعة "كابيني كا" صحبة مجموعة من ستّة أطفال وفنّانين مسرحيين تونسيين هم كل من آية عبيد، ومحمد ويسي، ونورس عزابي، وريهام نفزي، وياسين نجماوي، وزكرياء ويسي، وفاتح الخياري، وجهاد البلاقي، وصبرينة بالحاج علي. 

اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "كاليغولا" للفاضل الجزيري: أسئلة في الحب والحرية والإرادة

عمل "خيول" هو كوريغرافيا أو إنشاء حركي يتوزع على الخشبة ليقول ما يريد أن يقول من غير لغة بالرقص والحركة والايماء والنظر والأنات والآهات، عمل ترافقه موسيقى بالكاد نلتفت إليها وإضاءة صمّمها باستيان لاجيي.

حفاة على الخشبة بأجساد أولمبية وغضّة وطيّعة يرتعون كالخيول جامحين تارة وهادئين تارة أخرى، خيول من بشر يتحركون خببًا على خشبة مسرح قاعة الفن الرابع بتونس ممتلئين بأنفسهم.

"خيول" هو كوريغرافيا أو إنشاء حركي يتوزع على الخشبة

هو رقص يشي بطاقة تسكننا منذ الأزل، وتبدو لا محدودة وبها نستطيع أن نعبر عن أحاسيسنا، رقص لا يخون كما تخون اللغة أحيانًا. تخذل اللغة ناطقها عندما يكون في مواجهة لغة أخرى، أمّا الرقص فهو لغة كونية، فقد نرقص حكاياتنا وأحزاننا وآلامنا وفي غمرة الرقص قد نصدر أصواتًا من قاع الروح تشبه اللغة وليست باللغة.

أطفال عرض "خيول" كانوا مأخوذين بوقفتهم على خشبة المسرح في مواجهة جمهور من الغرباء، وهذا درسهم الأول في التعود على المواجهة والمجابهة. وكانوا أيضًا يتسلقون أجساد الكبار المشاركين معهم في العرض، ويتهجّون تضاريسهم وملامح وجوههم فيلمسون أنوفهم وخدودهم ورقابهم في محاورة جسدية لا يوفرها سوى المسرح، وهذا درسهم الثاني. أمّا رسم القصص الصغيرة بالرقص، فذاك درسهم الثالث.

يبدو أن الثنائي البلجيكي لمجموعة "كابيني كا" استلهما باقة اللوحات الراقصة التي قدمت على الخشبة من اليومي التونسي ومعمار المدينة العتيقة 

هؤلاء الاطفال الصغار تمنحهم هذه التجربة المسرحية الراقصة أدوات أخرى للتواصل والتفاعل ويمنحهم ثقة في أنفسهم بها يواجهون الحياة الواسعة بعيدًا عن الخوف والريبة والشك فينعمون بالتناغم والاستقرار النفسي داخل المجتمع.

ويبدو أن الثنائي البلجيكي لمجموعة "كابيني كا" يوك لورينس وكوينت استلهما باقة اللوحات الراقصة التي قدمت على الخشبة من اليومي التونسي ومعمار المدينة العتيقة وزخرف أبوابها والتواءات أزقتها وأسواقها ومشي الأجساد التونسية وحركات أياديهم عند التحدّث في انسجام غريب ولطيف. كنّا نلمح ذلك في حركة الراقصين، لقد كانت تونس تومض كالبرق من بين أصابعهم.

تقوم فلسفة عرض "خيول" بالأساس على مفهوم التواصل بين الناس بالمعنى الخلدوني للكلمة، وهو يتطلب جملة من الخطابات بما فيها خطاب الجسد، فالجسد له لغته التي بها يبعث الرسائل ويستقبل. وقد التقطت الفنون هذه اللغة واشتغلت عليها، وكان المسرح أبرزها وقد ساعده في ذلك التفكير الفلسفي الذي اشتغل مطولًا على لغة وخطاب الجسد.

"خيول" هي زاوية أو مقاربة أخرى للعلاقات بين الأجيال والوقوف أمام دهشة الطفل وملاعبته بأدوات جديدة منها جسده وعفويته وتلقائيته، وذلك للخروج بالمتفرج من روتينية ما أو من تكلس ما راكمه التاريخ داخل المجتمع.

 

اقرأ/أيضًا:

الفرقة الموسيقية ببرج الرومي: صرخة الحرّية لا تحدّها القضبان

مهرجان سينما الريف بالمكناسي.. على "الهامش" ما يستحق الحياة