03-أغسطس-2019

سهرة تكريم للفن الفلسطيني في مهرجان قرطاج الدولي

 

في اللحظة التي كان يرتّب فيها الزعيم ياسر عرفات، أبو عمّار، حقائب العودة من تونس إلى رام الله، كان الشاعر محمود درويش في المسرح البلدي يمتّن الأواصر التونسية الفلسطينية التي تشكلت عبر الحقب وعتقتها الأيام في لحظات وداع قاسية تحت أنوار المسرح وهالات التصفيق الذي أبى الانقطاع.

امتزجت حينها الدموع بهتافات الحضور، وقال الشاعر قولته الراقية التي ظلت موشومة في قلوبنا: "كيف نشفى من حبّ تونس الذي يجري فينا مجرى النفس"، والرد التونسي على هذه الحيرة الدرويشية هو المزيد من الحب لفلسطين "أمّ البدايات وأمّ النهايات"، الحب الذي لا نتنازل فيه عن ذرة تراب من أرضها ولا قطرة ماء من بحرها.

أفرد مهرجان قرطاج الدولي في نسخته الـ55 لسنة 2019 سهرة لفلسطين محبة وتكريمًا أحيتها المطربة ريم تلحمي وفرقة "الإنس والجام "

شاهد/ي أيضًا: فلسطينيون في أرض الخضراء: كيف نشفى من حب تونس

فلسطين لا تغيب شمسها عن تونس، نخبئ أعلامها في منازلنا كالتمائم ونحمل ألمها في رقابنا كالقلائد، ونفرح كلما هبت ريح من فلسطين تحمل إلينا وجوه الثقافة والفن والمسرح والسينما. وتفسح تظاهراتنا الثقافية والفكرية المجال واسعًا للتجارب الفنية الفلسطينية.

وها هو مهرجان قرطاج الدولي، شيخ المهرجانات التونسية وأشهرها، يفرد في نسخته الـ55 لسنة 2019 سهرة لفلسطين محبة وتكريمًا، أحيتها المطربة ريم تلحمي وفرقة "الإنس والجام "، مساء 2 أوت/أغسطس واكبها جمهور تونسي جاء حاملًا للأعلام الفلسطينية وراغبًا في اكتشاف مادة فنية قادمة من أرض فلسطين.

ريم تلحمي.. على مسرح قرطاج مجددًا

ليست هذه الوقفة الأولى لريم تلحمي على ركح المسرح الروماني بقرطاج، فقد سبق لها صعوده سنة 1992 ضمن حفل "مجموعة أصوات الحرية" بدعوة من الموسيقار التونسي محمد القرفي بمناسبة الذكرى 25 لاحتلال القدس الشريف.

وتعود تلحمي إلى هذا الركح العتيق بعد نضج تجربتها الفنية والموسيقية لتغني من ألبوماتها الصادرة "عاشقة كلمات" و"يحملني الليل"، وغنت من التراث الفلسطيني "يا أما الهوى"، و"مرمر زماني". وكان صوتًا مليئًا بالمساحات العاطفية يتسلل إلى الأفئدة ليحملها عبر المواويل والآهات إلى عذوبة الطرب الفلسطيني.

ليست هذه الوقفة الأولى لريم تلحمي على ركح المسرح الروماني بقرطاج

 

وكان حضورها الركحي متميزًا، فهي تميل إلى الرقص لكن لا ترقص، وهي تتحرك بسلاسة متناغمة مع الجمهور وتدعوه أحيانًا إلى التجاوب مع ألحانها وأغانيها. هذه القدرات الركحية متأتية من التجربة المسرحية لريم تلحمي، فلا ننسى تجربتها مع المسرح الوطني الفلسطيني ومسرح القصبة، وقد عرفها الجمهور التونسي سنة 2006 في فعاليات أيام قرطاج المسرحية ممثلة لدولة فلسطين بعملين مسرحيين هما "جدارية" للشاعر محمود درويش و"عرس الدم".

كما غنت ريم تلحمي من المدونة التونسية مجموعة من الأغاني الشهيرة مثل "بحذا حبيبتي تحلا السهرية" و"لاموني اللي غاروا مني"، وهي أغاني صعبة بعض الشيء لكنها نكّهتها بالخامة الصوتية الفلسطينية فجاءت في حلّة مغايرة لها بشكل أنيق تقبلها الجمهور وتفاعل معها.

اقرأ/ي أيضًا: عدنان الشوّاشي في مهرجان قرطاج.. "رحلة فنان" تأبى النسيان

فرقة الإنس والجام.. عن الموسيقى الفلسطينية الجديدة

الجزء الثاني من الحفل كان وجهاً مغايرًا لما ألفه الجمهور التونسي عن الموسيقى الوافدة من فلسطين، والتي تأتي عادة مغمورة بتيمات وفلكلور التراث الموسيقي الفلسطينين ومنها الكوفية، والدبكة، والقفطان المطرز والمواويل الجبلية.

إذ ظهرت فرقة "الإنس والجام" على ركح المسرح الروماني بقرطاج بدجينزات وقبعات إفرنجية وأقمصة رياضية لتقدم صورة جديدة عن الأجيال الموسيقية الفلسطينية التي تعيش لحظة الثورة الاتصالية من خلال انخراطها في شبكات التواصل الاجتماعي.

 تجربة الفرقة الموسيقية "الإنس والجام" تطرح عدة أسئلة تتعلق بالأغنية الفلسطينية في زمن العولمة

 

تأسست هذه الفرقة سنة 2017 واجتمع أعضاؤها على فكرتين أساسيتين هما أولًا تقديم صوت فلسطيني حداثي ومغاير للنمطي والسائد، وثانيًا مشروع فني وموسيقي فيه المخبري والتجريبي ويحمل أيضًا الوفاء للتراث الغنائي والموسيقي الفلسطيني والعربي.

فرقة "الإنس والجام" ووفاءً لاختياراتها، غنت في سهرة قرطاج بعض القطع من الأغاني العربية والتونسية، وقدمت من رصيدها الخاص "فنتازيا" و"الرونديفو"، و"أنا داري"، و"حبك تاراللّي"، وهي أغاني عرفت انتشارًا واسعًا في الميديا الاجتماعية وخاصة عبر اليوتيوب.

ظهرت فرقة "الإنس والجام" على ركح قرطاج بدجينزات وقبعات إفرنجية وأقمصة رياضية لتقدم صورة جديدة عن الأجيال الموسيقية الفلسطينية

وتعكس هذه الأغاني روحًا من الانسجام والمرح رأيناها بين أعضاء الفرقة عبر العزف والغناء حتى أنك لا تخالهم فوق ركح مسرح مهيب له ماضيه الكبير، بل يتعاطون مع الأمر وكأنهم مجموعة من الأصدقاء في ساحة الجامعة أو في ساحة الحي يقضون وقتًا ممتعًا مع بعضهم البعض.

إن تجربة الفرقة الموسيقية "الإنس والجام" تطرح عدة أسئلة تتعلق بالأغنية الفلسطينية في زمن العولمة وخاصة مدى استفادة الأجيال الفلسطينية الجديدة من عناصر التحديث حتى تسهم ثقافيًا في فك الحصار على القضية الفلسطينية في ظل سياسة دولية تمعن في تجاهل الحق الفلسطيني.

بنهاية المطاف، كانت السهرة الفلسطينية على ركح المسرح الروماني بقرطاج تأكيدًا متجددًا من أهم مهرجان ترفيهي وثقافي في تونس بأن فلسطين كانت ولا تزال دائمًا في البال، ونستعيد محمود درويش لنقول نحن التونسيون "كيف نشفى من حبّ فلسطين؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"بحيرة البجع" في افتتاح مهرجان قرطاج.. موسيقى ورقص في أرقى حالتهما

أيام قرطاج الشعرية.. هاجس التأسيس لا يمنع التفلسف حول جدوى الشعر