10-مايو-2019

أغلب النوادر والنكت على مواقع التواصل الاجتماعي شديدة الارتباط بالأزمة الاقتصادية في تونس

 

ارتفعت الأسعار، وتراجعت قيمة الدينار، وأشرفت الميزانيّة على الانهيار، والموارد في انحسار، والطّبقة الوسطى تسير نحو الاندثار، ومعطّلون عن العمل يهدّدون بالانتحار، هذه العناوين المثيرة المُوَقَّعة المُسجّعة لا تخلو منها أو من مثيلاتها صحيفة، ولا تكاد تغيب عن محادثة أو حوار، كلّ النّشرات والمؤشّرات تؤكّد أنّ الأزمة الاقتصاديّة قد بلغت ذروتها بعد سنوات ثمان من ثورة لا تزال تشقّ طريقها بإصرار رغم الإرباك والحصار.

وقد تباين التّونسيّون في تقييم هذه المحنة وطرائق تناولها، فثمّة من يقتصر على عرض الأرقام والنّسب والإحصائيّات والمعدّلات عرضًا آليًا جافًا، وهناك من يَشفعُها بتفسيرات ومقارنات وتحليلات وتعليلات وتوظيفات، غير أنّ فئة ثالثة اختارت تحويل هذه المواجع والهموم إلى رافد من روافد الفكاهة والنكت والمزاح، فتحقّق بذلك تصوّرًا يصل الإبداع والإمتاع بالمأساة والفقر والضياع، وقد عبّر التّونسيّون منذ القدم عن هذه المعادلة بمَثَل عامّي وجيز كثير السّريان على الألسن "كُثْرْ الهَمْ يْضَحِّكْ".

اقرأ/ي أيضًا: الـ"ميمز": صور تسخر من الواقع.. أنشرها ولك الأجر

ديوان النكت التونسيّة

تفتقر المكتبة التونسيّة إلى مدوّنة تحفظ النكت الرّاهنة المبثوثة خاصّة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولقد عمد أحد الكتّاب إلى تجميع عدد محدود من هذه النّوادر تجميعًا أشبه بعمليّة نسخٍ عشوائيّة متسرّعة مُشوّهة، هو عمل منشور غير أنّه لا يستحقّ الإشارة والتنويه لافتقاره إلى أبسط شروط التدوين والتأليف والتبويب. وقد ارتأينا في هذا المقام التّحليليّ العودة إلى تلك الصفحات "الفايسبوكيّة" التي تحظى بالمتابعة والتّفاعل الواسع من قبل مئات الآلاف من المولعين بفنّ النكتة، نذكر منها "ضحكة تونسيّة 100/100"، و"نكت تونسيّة"، و"نكت × نكت"، و"نكت تونسية مقتلة ضحك"، و"نكت تونسيّة مضحكة" وجلّ هذه الصفحات يتخطّى جمهور المعجبين بها عدد المتصفّحين للمواقع الرسمية للأحزاب السياسية.

تبدو أغلب النوادر والنكت على مواقع التواصل الاجتماعي شديدة الارتباط بالأوضاع الماديّة والمصاعب التي يواجهها المواطن التّونسي

النّاظر في تلك النكت المبثوثة يجد أنّها تنتمي إلى التّصنيفات التّقليديّة للنوادر منها الجنسيّة والدينيّة والعرقيّة (الإثنيّة) والسياسيّة والأسريّة والتّربويّة، لكنّ أغلب النوادر تبدو شديدة الارتباط بالأوضاع الماديّة والمصاعب الحياتيّة التي يواجهها المواطن التّونسي، وهو ما يبيح تصنيفها ضمن ما يمكن نعته بالنكت الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ويجوز أن نعرّفها من باب الاصطلاح بأنّها نوادر يمثّل الوضع المعيشيّ موضوعها الأساسيّ ومقصدها والدافع إلى كتابتها ونشرها والتّفاعل معها.

الحاجة أمّ الفكاهة

خلّف غلاء الأسعار لدى التّونسيين شعورًا بالضيق المادّي والعجز عن الإنفاق، غير أنّ هذا الإحساس سرعان ما ولّد قدرة على الإبداع، فتناسلت لغة المرح من رحم الألم والتّرح تقوم شاهدًا على ذلك إحدى النّكت التي تروى في منتهى الإيجاز حكاية رجل مضى إلى بائع الفواكه فسأله "بْقدّاش كيلو البندق فأجاب ب117 دينارْ، فسأله الشّاري ثانية بقدّاش كيلو "أكاجو"، فردّ التّاجر ب 156 دينارْ" فأنهى السّائل حواره قائلًا "باهي أعطيني 100 غ زيوان (نوع من البذور التي تقدّم عادة للطيور)".

خلّف غلاء الأسعار لدى التّونسيين شعورًا بالضيق المادّي

بصرف النظر عن القيمة الفنيّة لهذه المُلحة، فقد قامت على بعض الضّوابط الأسلوبيّة والبنيوية للنادرة منها نمط الحوار وتقنية تَخْيِيب التوقّع التي تُحدث في المتلقي دهشة يمكن أن تفضي إلى الضحك. وقد صوّرت هذه النكتة ما آل إليه المواطن من فاقة جعلته في موضع المذلّة والهوان، في هذا المعنى، يقول شاكر عبد الحميد المتخصّص في دراسات الإبداع الفنّيّ نقلًا عن كانط الفيلسوف الألمانيّ: "إنّ الضّحك محصّلة لتحوّل التّوقّعات والأمنيات الكبيرة إلى لا شيء، فنحن نسعى إلى عظائم الأمور وندرك فقط بعض الفُتاة والصّغائر". (الفكاهة والضحك، سلسلة عالم المعرفة، العدد 289، سنة 2003، ص. 22).

لم يبق للمواطن في مواجهة العسر والضيق غير الصّبر، وهو ما عبّرت عنه نكتة قامت على أسلوب المقارنة بدا فيها المواطن التونسي أكثر جَلدًا من الجمل الحيوانِ المعروف بالصبر على العطش وأقوى تحمّلًا من "الهندي" النبات الذي يحافظ على اخضراره رغم الجفاف والإهمال.

لم يبق للمواطن في مواجهة العسر والضيق غير الصّبر

سلسلة الهموم والأوحال

غلاء الأسعار جعل التونسي غير قادر على ترشيد الاستهلاك وحسن التدبير، فغرق في الديون وصارت خطّته في تغطية مصاريفه اليوميّة "شاشيّة هذا على راس هذا"، وقد صاغ المتندّرون مُلحًا عديدة تصوّر رَبَّ العائلة غارقًا في سلسلة من الأوحال، يخرج من واحدة فيقع في أخرى، من خلاص فواتير الكراء والأنترنت والماء والكهرباء إلى مصاريف الأعياد والمناسبات وذلك إلى التّصدّي للأمراض التي تأتي دون استئذان فيعجز المواطن عن مجرّد التّفكير في الادّخار.

 ربَّ العائلة التونسية غارق في سلسلة من الأوحال يخرج من واحدة فيقع في أخرى

اقرأ/ي أيضًا: "الطفلة بلا مكياج كالكرهبة بلا لفاج".. هل يثق الرجل في جمال التونسية؟

يقول أحدهم: "الوَاحِدْ كُلْ مَا يْخَبِّي فْلُوسْ عَلَى مَا يَاتِي يَلْقَى يَاتِي قُدَّامُو"، هذا الأسلوب التّقريريّ المباشر الذي يحدّ من النزعة التّخييلية والإيحائيّة يتجلّى في نوادر أخرى منها نكتة العطور ومواد التنظيف، ونصُّها "زيادة في أسعار الشومبوان والبرفانات ومواد التجميل... يعني ما يِكفيش باش نموتو مِ الجوع باش نموتو مْعَفْنين زاده". مصدر الإمتاع في هذه النادرة هو التّضخيم والمبالغة، وهو من أهمّ الأساليب التي تُثير تعجّب السّامع وذهوله وتستدرجه إلى الضّحك، بيد أنّ اقتران هذه الملحة بمعجم الفناء يكشف أنّها تنطوي على شعور بالرعب والافتقار إلى الأمان والثقة في المستقبل، وهو ما يتناسب مع موقف عالم النفس البريطاني ويليام مكدوجل في قوله "إنّ الضّحك ليس تعبيرًا عن السّرور، بل هو مولّد للسّرور، وإنّنا نضحك لأنّنا تعساء والضحك يوهمنا بأنّنا في حال أفضل".

"تونس الجحيم"

التّضخيم والمبالغة من الأساليب الأكثر تواترًا في العديد من النكت ذات الأبعاد الاقتصاديّة، وهو أسلوب تشترك فيه النّوادر مع فنون عديدة كالشّعر والكاريكاتور والقصص الخياليّة. هذه التقنية حوّلت مشهد الخصاصة والفقر في تونس إلى ما يشبه الجحيم، آية ذلك نكتة مقامها الاحتضار جاء فيها: " تُونْسِي وْهُوَ عْلَى فِرَاش الموت وصّى عايِلْتُو بَاشْ يِدْفْنُوهْ بعَلم تونس، يَاخِي اسْتَغْرْبُو، وْقَالُولُو مْنِينْ جَاتِكْ الوطنيّة، قالهم لا وطنية وْلا وذني أما باش يعرفو الملايكه اللي أنا تونسي وجايهم متعذّب (لا حاجة إلى إعادة محاسبتي بعد حساب طويل عسير في حياتي).

مثّلت المرجعيّة الدينيّة مصدر إلهام لمبدعي النكت

مثّلت المرجعيّة الدينيّة مصدر إلهام لمبدعي النكت في هذه الملحة وفي ملح أخرى، وكأنّ أصحابها يحتذون حذو أبي العلاء المعرّي في كتابه "رسالة الغفران" الذي عرض في قسم منه بجرأة فائقة بعض الاعتقادات السّائدة في عصره حول مشاهد الحساب والعقاب معتمدًا التصوير الكاريكاتوريّ. يتّضح هذا المنحى في مُلحةٍ يمكن عَنْوَنَتها بعذاب القبر حُبِكت في أسلوب مباشر تقريريّ جاء فيها " ولدت تونس سنة 1956 وماتت في 1987، وبقيت في ثلاجة الموتى 23 سنة، ودفنوها في 2011، وهي منذ 8 سنين في عذاب القبر".

الفقر أب الموبقات

ساهمت الأزمة الاقتصاديّة في انتشار الجريمة من سرقة وسطو وقتل بدافع العَوَزِ والخصاصة، ولئن كانت الخمرة أمّ الموبقات في التّصوّر الدينيّ فإنّ الفقر أبوها ودافعها ومرشدها الأعلى. تناغمًا مع هذا المشهد، أصبحت بعض النوادر تقطر في معجمها ومفرداتها دَمًا، ويخيّم عليها شبح العنف والموت، وجاء في بعض النّوادر المتّصلة بارتفاع أسعار اللّحوم الحمراء "الوالد (الأب) مِلّي سْمَعْ باللْحَمْ باش يخلط لـ35 دينار في رمضان وهو يحكليلي على قصّة سيّدنا ابراهيم بصراحة مانيش مرتاحلو الموضوع".

التّضخيم والمبالغة من الأساليب الأكثر تواترًا في العديد من النكت ذات الأبعاد الاقتصاديّة وهو أسلوب تشترك فيه النّوادر مع الكاريكاتور

ولئن أباح الفقر وشظف العيش للبعض الاعتداء على الغير فقد أصبح بالنسبة إلى فئة أخرى مبرّرًا لاجتياز الحدود خلسة (الحرقة) والتّفريط في أوكد القيم الأخلاقيّة والدينيّة والوطنيّة. يقول أحد مبدعي الملح معتمدًا نمط السّرد" واحد ناقصو 500 دينار باش يحرق، بوه ماحبش يعطيه، ياخي ضربو، وهزلو الفلوس، وحْرق، بعد عامين رجع الوْلِدْ، وعطا لبوه 200 مليون، وقلّوا سامحني بابا، واِرضَ عليّا، قالّوا صلّي ع النبي ولدي، نعرف اللي انت ضربتني على مصلحتي".

شظف العيش والفقر كمبرّر لـ"الحرقة"

لئن بدت هذه السّلسلة من الملح كاشفة عن اليأس والعجز وانسداد الأفق فإنّ عددًا آخر من النّوادر ذات البعد المادّي المعيشيّ تنحو منحى الّرفض والامتناع، وتنطوي على الاتّهام وتحميل المسؤوليّة لسلطة الإشراف ممّا جعل هذه الملح أقرب إلى النكتة السّياسيّة.

النكتة سلاح المعارضة

يرى شقّ من المنتسبين إلى المعارضة أنّ الوضع الاقتصاديّ المتردّي سببه التّقارب بين الباجي قايد السبسي، رئيس الجمهورية ومؤسس نداء تونس، وراشد الغنّوشي رئيس حزب حركة النّهضة، هذا التّقارب ساهم في استمرار المنوال الاقتصاديّ الذي تسبّب حسب بعض الأصوات اليساريّة في تأبيد الفقر.

يرى فريق أنّ الوضع الاقتصاديّ المتردّي سببه "الشيخين" الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي

ولتأكيد دور الشيخين في هذه الأزمة صاغ أحدهم نادرة قائمة على الإيحاء والتّكثيف الدّلاليّ جاء فيها: "قالولنا ثمّه شيخ يديه تجمّد الماء، جاونا زوز شيوخا جمدوا البلاد الكل"، ولئن تناولت هذه الملحة الوضع في بعده العامّ فقد بدت بقية النكت أكثر تفصيلًا، فانفتحت على مشاغل دقيقة كالبطالة مثلًا في ملحة وردت في شكل حواريّ على النّحو التّالي:

الأستاذ: شنوه تحب تخدم؟

التّلميذ: صيّاد في بحر توزر

الأستاذ (في استنكار): تِتْبُولِدْ عْلِيَّا (هل تسخر منّي) توزر فيها بحر!

التلميذ: وانتي هاذي حد نيتك، أخّي تونس فيها خدمة؟

ولئن كان موضوع البطالة مشغلًا مزمنًا في المجتمع التونسيّ، فإنّ تعديل أسعار المحروقات والزيادة في الأداءات وارتفاع نسب الضّرائب في حكومة يوسف الشّاهد قد أوحى لمبدعي النكت نصوصًا فكاهيّة بسيطة، لكنّها لا تخلو من عمق نقدّي من قبيل: "كان نَحِيوْ الكراهب، ونولو نمشو على ساقينا الحكومة هاذي تزيدنا في سوم الصبابط". هذه النّادرة كغيرها من الملح المشحونة نقدًا وسخطًا تؤكّد على حدّ تعبير الكاتب والصحافيّ المصري هشام جابر أنّ النكت "تمثّل ثورة على السّلطة وتحرّرًا من نيرها، وهذا يعلّل لنا توالي استخدامها ضدّ ذوي الوجاهة وأصحاب السّلطان" (النكتة السّياسيّة عند العرب بين السّخرية البريئة والحرب النفسيّة، ط1، الشركة العالمية للكتاب سنة 2009، ص. 12).

ثورة النكتة التونسيّة

يمكن التّسليم بأنّ الملح أو النكت التي يتناقلها رواد الفيسبوك حول عيوب الحكومة من صنيع مبدعين يقفون موقف المعارض لسياسة يوسف الشاهد ولبعض الفاعلين في الشأن الاقتصاديّ، غير أنّ هذه النوادر تبدو فقيرة من حيث التّواتر والتنويع والعمق وحسن الصّياغة، ممّا يجعلنا نقرّ بأنّها عفويّة ولا تخضع إلى "مركز عمليّات" و"مرجع نظر وتأطير وتوجيه" على النحو الذي يحدث في المعارك الكبرى بين الأحزاب والدول. ففي أوائل السّتينيات على سبيل المثال، أكّد الرئيس المصري الراحل جمال عبد النّاصر أنّ السّفارة الأمريكيّة تضمّ فريقًا مختصًا يعمل على إنتاج النكت السّياسيّة المعادية له ولنظامة وبثّها في أوساط الجماهير المصريّة (هشام جابر، النكتة السياسيّة، ص. 14).

هشام جابر: تمثّل النكت ثورة على السّلطة وتحرّرًا من نيرها وهذا يعلّل لنا توالي استخدامها ضدّ ذوي الوجاهة وأصحاب السّلطان

لو أعدنا النظر كرّة ثانية إلى النماذج والتحليلات المذكورة لانتهينا إلى أنّ جلّ النّوادر قد لبست زيًا ثوريًا، وقد بدت " ثورة النكتة التونسيّة" شبيهة بثورة الحريّة والكرامة في دوافعها ومساراتها، فلا اختلاف بينهما في القادح، فكلاهما قد نسل من رحم أوضاع البطالة والفقر والبؤس والتهميش، أمّا المسارات فقد بدت كذلك متماثلة في تلقائيّتها وحاجتها إلى العقل المدبّر والرؤية الواضحة، لذلك افتقرت الثورتان، الثورة الشعبية وثورة السخرية والإضحاك، إلى النجاعة وحسن التّوظيف، فظلّ أثرهما مقتصرًا على ما يحدثانه من نشوة آنيّة في الوجدان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أَوَخِّي، لَمَكِنْتِي ووْاشِي.. حين تصبح لهجة الأرياف مادة للإضحاك

"استهلك تونسي 619".. هل تنجح حملة إنقاذ الدينار التونسي؟