مقال رأي
كتب الإنجليزي ألان مور في روايته "V for Vendetta"، والتي اُقتبس منها فيلم بنفس العنوان، أن "الشّعوب لا يجب أن تخاف حكوماتها، بل الحكومات هي التي يجب أن تخاف شعوبها". هي رائعة أخرى من روائع الأدب الإنجليزي على غرار مؤلّفات جورج أوريل وشارل ديكنز، أين يجسّد الكاتب الفكرة ويشخصنها لتواجه السّلطة التي تتغذّى من خلق الخوف والوهم، بل وتديره كما قال بينكديت يومًا، لتكون النّهاية تقويض النّظام عبر فضيلة العبيد1: "التّمرّد" والثورة.
يستعمل تقريبًا 70% من التونسيين حافلات النّقل العمومي و58% المترو الخفيف إلّا أنّ نسبة الرضاء عن أداء النقل العمومي لا تتعدّى 14%
يمكن اعتبار قطاع النقل قطاعًا تنمويًا إستراتيجيًا حيث يساهم بنسبة 6.6 % (2014) في النّاتج المحلي الخام مقابل 12-15% في الاقتصاديّات الشّبيهة باقتصادنا في تونس2. ورغم هذه الأهميّة، لا يزال القطاع يشهد تدهورًا مزمنًا على مدى سنوات تمتدّ إلى تسعينيات القرن الماضي ما أرهق المواطن والدّولة معًا. ولم تزل الحكومات المتعاقبة بعد الثّورة تتعهّد بالإصلاح عبر تنظيم الورشات والدّراسات وعمليّات التّشبيب العبثيّة، إلّا أنّه لا بوادر للإنفراج أو حتّى التحسّن في القريب العاجل. فماهي أهمّ معضلات الّتي يواجهها القطاع وكيف كانت السّياسات الحكوميّة تجاهها؟
اقرأ/ي أيضًا: أصدقاء وما هم بأصدقاء.. عن أحكام النقل في تونس
لئن اعتبرت المدن هي محرّكات النموّ الإقتصادي الحديث، فإن النّقل هو شريان تدفّق دماء الجسم الاجتماعي. مع مطلع الثمانينيات، شهدت المدن التونسيّة نموّ حضريًا ديناميكيًا مبكّرًا نسبيًا بلغ نسبة 67.7%3. لكن لم تستوعب سياسات الدّولة هذا النّمو المباغت وهو ما أدّى إلى عجز القطاع كقطاعات حيويّة أخرى، ما استوجب مع مطلع الألفينيّات تضمين مشاريع استثمار محلّي مباشر في مخطّطات التنمية مع توصيات إصلاحيّة وهيكليّة خاصة في النقل البرّي. ورغم مضي أكثر من 20 سنة على ذلك، ظلّت خدمات القطاع تواصل اضمحلالها.
شلل وعجز على جميع المستويات
في آخر بحث ميداني أجراه المعهد الوطني للاستهلاك بالتّعاون مع وزارة التّجارة والصناعات التقليديّة حول جودة خدمات النّقل العمومي والخاص في إقليم تونس الكبرى، يستعمل تقريبًا 70% من المستجوبين حافلات النّقل العمومي، و58% المترو الخفيف، إلّا أنّ نسبة الرضاء عن أداء النقل العمومي لا تتعدّى 14%. وحسب تقرير للبنك الدّولي، بالشّراكة مع وزارة النّقل، فإنّ من أسباب رداءة جودة قطاع النّقل البرّي، البيروقراطيّة المركزيّة المعقّدة في التّسيير بالإضافة إلى كثرة الأطراف المتداخلة في أخذ القرار. كما أنّ السّياسة المتعثّرة لحكومات ما بعد الثّورة في شراء السّلم الاجتماعي من جهة عبر إثقال الشركات العمومية بالموظّفين وتثبيت أسعار التّذاكر رغم ارتفاع تكلفة النّقل بأكثر من 400% في آخر 15 سنة، مع سياسة التقّشّف على حساب التنمية من جهة أخرى، وهو أدّى إلى تدهور حالة الأسطول وتراجع مردوديّته. على سبيل الذّكر لا الحصر، 650 حافلة فقط من جملة 1247 حافلة تابعة لشركة نقل تونس هي في حالة نشاط سنة 2017.
توجّهت الدّولة منذ بداية العقد الماضي إلى تبنّي خيار النّقل الفردي الخاص عبر تدعيم الوقود وإطلاق برنامج السّيارة الشعبيّة
في نفس السّياق، يعاني قطاع النّقل الحديدي للبضائع الأمرّين، إذ تراجع نشاطه4 إلى 6% في السّنوات الأخيرة مقابل 38% سنة 1977 وذلك لعدّة أسباب أخرى كقطع السكك الحديديّة فيما يخصّ نقل الفسفاط نتيجة الحركات الاحتجاجيّة، وانقطاع تشغيل الخط 11 بالنسبة لنقل المسافرين بين القلعة الصغرى والقصرين. وكذا الأمر بالنسبة للنقل الجوّي، لا تتجاوز حصّة النّقل الجوّي الداخلي 3% من جملة التنقّلات5، كما تراجعت حركة نقل البضائع بـ 22% سنة 2015 مقارنة بسنة 2010. كما سجلّت شركة الخطوط التّونسيّة خسائر تقدّر بـ71 مليون دينار سنة 2015 مقابل أرباح بـ43 مليون دينار سنة 2014، وواصلت تسجيل الخسائر لتبلغ خسائرها متراكمة 506 مليون دينار سنة 2016 حسب التّقرير 31 لمحكمة المحاسبات.
وترجع المحكمة أسباب هذا التدهور إلى إشكاليّات عديدة كسوء توظيف الموارد البشريّة والماديّة وارتجال الإدارة، بالإضافة إلى معضلات أخرى عديدة وردت بتقريرها ولا تخفى عن أحد. يتشارك مجال النّقل البحري أيضًا نفس الإشكاليات على مستوى نقل المسافرين والبضائع مع بقيّة مجالات القطاع، إذ تراجع عدد النّاقلات الوطنيّة إلى 8 ناقلات فقط سنة 2015 بعد أن كان الأسطول البحري يضم 29 ناقلة سنة 1990، وما سبّبه ذلك من مراكمة للخسائر واستنزاف للموارد وبالتّالي للمصلحة الوطنيّة العامّة. هي معضلة متشعّبة الأطراف ومتعدّدة الطبقات والأوجه، فكيف كان أداء السّياسات الحكوميّة إزاءها؟
سياسات الوقت بدل ضائع وترقيع المرقّع
إنّ التساؤل عن مدى جدوى السّياسات الحكوميّة تجاه قطاع النّقل هو تساؤل سفسطائيّ عقيم، فالعذاب اليومي الذي يعيشه المواطنون، سواء في النّقل الخاص أو العام هو خير دليل على الفشل الذّريع الذي نعايش أثاره كلّ لحظة. توجّهت الدّولة منذ بداية العقد الماضي إلى تبنّي خيار النّقل الفردي الخاص عبر تدعيم الوقود وإطلاق برنامج السّيارة الشعبيّة بالإضافة إلى إدراج مخطّطات متوسّطة المدى في إستراتيجيّات التنمية وتوصيات تقنيّة وإداريّة كإطلاق المرصد الوطني للنقل ورقمنة الإدارة.
اقرأ/ي أيضًا: في الـ514.. الأبواب مفتوحة والحافلة تسير و"نورمال"
عطّل الحراك الإجتماعي إبّان الثّورة كلّ المخطّطات التنمويّة للدولة التي توجّهت لشراء السّلم الإجتماعي عبر تسكين الاحتجاجات القطاعيّة والشعبيّة بالزّيادات في الأجور تارة والانتدابات العشوائيّة تارة أخرى. وعدا برنامج السّيارة الشعبيّة الذي يخدم المصالح الضّيقة لميكرو-فئة تحتضن السّلطة، فإنّه لم يقع إلى الآن إطلاق المرصد ولا رقمنة القطاع، كما لم يقع تفعيل مبدأ اللامركزيّة المنصوص عليه دستوريًا عبر إطلاق إدارات جهويّة للنقل ذاتيّة التسيير كما هو منصوص عليه في المخطط التّاسع للتنمية.
من جهة أخرى، سبّبت هذا الإرتفاع الهلامي في الأجور، مع انفلات الإنتدابات وما صاحبها من انفجار استهلاكي معولم، إلى إزدحام مروري دائم بالطّرقات داخل المدن الكبرى، ماعطّل حركتَيْ النّقل العمومي والخاص وما يكلّفه ذلك من خسائر. إذ تشير التّقارير إلى أنّ الازدحام المروري يكلّف 1-2% من النّاتج المحلّي الخام، بالإضافة لاحتلال تونس لمراتب متقدمة6 في نسبة الحوادث المروريّة على صعيد إقليمي ودولي، وما ينهج عن هذه الحوادث الأليمة من خسائر بشريّة واقتصاديّة. كلّ هذا ولم تزد سياسات الحكومات المتعاقبة في مجال النّقل البرّي عن محاولات عبثيّة في تشبيب الأسطول بالصّيانة اإقتناءات دوريّة في عمليّة أشبه بمن "يغربل مياه البحر أو يحرث رمال الصّحراء"7.
تعاني الموانئ أيضًا من بدائيّة إنشاءاتها وعدم ملاءمتها مع المواصفات الدوليّة الحديثة (International Navigation Rules-Inland). فنظرًا للغاطس المائي المحلّي (لا يتجاوز 9 أمتار) وحجم السّفن النّشطة دوليًا، فالموانئ التونسيّة غير قادرة على إستقبال أكثر من 50% من إجمالي الأسطول الدولي، عدا كونها لا تتوفّر على خاصيّة النّقل متعدّد الوسائط إذا لا تربطها مباشرة شبكة نقل حديدي وبرّي ممّا يؤدّي إلى ارتفاع تلكفة نقل البضائع بنحو 5-20%. كما أنّ تطويق الموانئ بالمدن أدّى إلى استحالة توسيعها وتحديثها، وهو ما أدّى إلى احتلال تونس للمرتبة 51 من أصل 76 دولة نامية وناشئة حسب دراسة لمؤتمر الأمم المتّحدة للتّجارة والتنمية، وهي متأخرة على محيطها الإقليمي على غرار المغرب الأقصى.
تعاني الموانئ التونسية من بدائيّة إنشاءاتها وعدم ملاءمتها مع المواصفات الدوليّة الحديثة كما أن تطويقها بالمدن أدى إلى استحالة توسيعها وتحديثها
إذًا، كلّ هذه الإشكاليّات ولا زالت السياسات الحكوميّة تتلكّأ في فتح ملف الإصلاحات الكبرى وتماطل. قطاع النّقل هو قطاع تنموي إستراتيجيّ يمكن المراهنة عليه لخلق الثّروة وتحريك عجلة النّموّ الاقتصادي عبر المبادرة بإصلاحات عديدة تنطلق من تحيين وتحديث البنية التأسيسيّة والقانونيّة. قد يبدو الحديث عن الاستثمار والإصلاح في ظلّ ما تعيشه البلاد من شلل اقتصادي جرّاء الأزمة الصّحيّة العالميّة ضربًا من خبط الجثث. لكنّ المحن تستلزم المراجعة وقد تكون محفّزًا لانطلاقة جديدة إذا ما توفّر الوعي والإرادة.
إنّ تداعيات هذه الأزمة الحالية على الحالة المعيشيّة اليوميّة للمواطنين في كلّ الجوانب الحياتيّة ليست إلّا جبل الجليد الذي ارتطمت به سفينة الوطن المهترئة وطاقمها يتصارع حول دفّة قيادتها. وما المأزق الحالي إلّا عنوان آخر ينظم لعناوين فشل المنظومة الموروثة وما صحبها من عمليّات تزويق سطحيّة. إذ ما جدوى الماكياج للسطح والقاعدة تنخرها الأورام السّرطانيّة الّتي أكلت كلّ حس بانتماء مواطني جامع، فصار الخلاص الفردي هو الحل الوحيد للنجاة من خواء هذه الأرض التي تآكلت مقوّمات مواطنتها.
المصادر والمراجع:
- "التمرّد فضيلة العبيد"، فريدريك نيتشه، هكذا تكلّم زارديشت، منشورات دار الجمل، ترجمة علي مصباح، طبعة 2006. ص. 84.
- من مخطّط التنمية 2016-2020: الباب الثّالث: المحتوى القطاعي، الصّادر عن رئاسة الحكومة. ص. 147.
- من الموجز القطري الصّادر اللجنة الاقتصاديّة لأفريقيا، التابعة للأمم المتحدة، لسنة 2016 . ص. 27.
- من مخطّط التنمية 2016-2020، ص. 148
- نفس المصدر السّابق.
- Selon une étude de la banque africaine de developpement intitulé : ETUDE DE LA STRATEGIE DE LA SECURITE ROUTIERE.
- أمثلة شعبيّة من المتداول اليومي للتونسيين.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
"الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"
التاكسي الجماعي في سوسة.. فوضى وبلطجة وتحميل متبادل للمسؤولية