10-يونيو-2019

صداقات مؤقتة على هامش معضلة الانتظار اليومي لوسائل النقل (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

نساء ورجال، تختلف هيئاتهم وأعمارهم، ولكنهم يلتقون عند الأرصفة المحاذية لمفترق حي النصر التابع لولاية أريانة، يؤمون جنبات الطرق الرئيسية مثنّى وفرادى ينشدون وسيلة نقل تقلهم إلى منازلهم.

معينات منزليات، وعاملات في محلات التنظيف الجاف، ونادلو مقاه، تجمعهم قارعة الانتظار في الأماكن ذاتها وفي أوقات مختلفة من المساء، ينتظرون حلول الفرج. والفرج في مفترق حي النصر، قد يكون حافلة أو سيارة نقل جماعي أو تاكسي فردي أو سيارة عادية تتحوّل مساء إلى سيارة أجرة.

موظفون وعملة تجمعهم قارعة الانتظار في مفترق "حي النصر" مساء كل يوم (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

أما الحافلة فهي تمتد على خطان أحدهما ينطلق من محطة "البساتين" إلى محطة "الشرقية" تؤمنه حافلة تابعة لشركة نقل تونس (عمومية)، والآخر تؤمنه حافلة تابعة لشركة النقل الحضري والجهوي بتونس (خاصة) تنطلق من "حي التضامن" إلى "حي النصر".

وأما النقل الجماعي، فينطلق من ثلاث محطات مختلفة هي "حي التضامن" و"حي الانطلاقة" و"البساتين" لتنتهي الرحلة في "أريانة"، علمًا وأنّ النقل الجماعي الذي ينطلق من "حي التضامن" لا يمر من مفترق "حي النصر".

وأما التاكسي الفردي، يصبح هو الآخر جماعيًا، يقلّ أربعة أفراد يصطفون بعضهم مسبقًا على قاعدة الاشتراك في ذات الوجهة، وأما السيارات العادية فيجعل منها أصحابها أيضًا وسيلة لنقل المرابطين على الأرصفة.

اقرأ/ي أيضًا: في الـ514.. الأبواب مفتوحة والحافلة تسير و"نورمال"

سؤال.. فجواب.. فصداقة مؤقّتة

وفي أوقات مختلفة من المساء تراوحت بين الساعة الثالثة والساعة السابعة مساء، كان "ألترا تونس" حاضرًا في مفترق حي النصر ليلحظ رحلة العملة مع النقل، رحلة تنطلق بسؤال عن الوجهة وتنتهي بصداقة مؤقّتة تربط 4 أشخاص على الأكثر.

"وين مروّح(ة)؟" سؤال يتردّد كثيرًا من قبل الوافدين على المفترق لتكون إجابته أربع وجهات مختلفة لكنّها تقع كلّها في ولاية أريانة وهي "حي الانطلاقة" "حي البساتين" و"حي التضامن" و"المنيهلة العليا"، وانطلاقًا من السؤال السابق ذكره ينطلق تشكيل صداقات تحتّمها أحكام النقل في المكان.

ينتظر الركاب يوميًا في مفترق "حي النصر" الفرج الذي قد يكون حافلة أو سيارة نقل جامعي أو تاكسي فردي أو سيارة عادية تتحوّل إلى سيارة أجرة

وحينما تلوح بناظريك في المكان، تلوح لك تجمعات من أربعة أشخاص، يتوزّعون على المفترق للظفر بوسيلة نقل تمثل في تاكسي فردي أو سيارة عادية، وعادة ما ينفرط الجمع حينما يتمكّن أحدهما من إيجاد مكان في النقل الجماعي أو الحافلة التي لا تمرّ ببعض الشغور إلا مرات نادرة، وعملية "افتكاك" مكان عادة ما تكون مرفوقة بتدافع وتلاسن بين المنتظرين الذين أعياهم الوقوف.

وفي أيام الحر أو البرد، قد يحتمي المنتظرون بالقنطرة الواقعة في المفترق، فيما يتطوّع أحد "الأصدقاء" الأربع ويتكبّد عناء البحث عن تاكسي فردي أو سيارة أخرى تقلّهم إلى وجهتهم. وأنت تعبر من المفترق تلوح لك الأيادي ممدودة تستوقف السيارات، ولا يخلو الأمر من الشجار والمناوشات إذا ما حاول أحدهم أو إحداهن أن تتسلل إلى مقاعد السيارة وتفتكّ مكان صديق من الأربعة.

واللافت للانتباه أنه من النادر أن تستمر هذه الصداقات أو تتكرّر أكثر من مرة، ولكن الثابت أن الأصدقاء الأربع يتقاسمون ثمن "التوصيلة" وتتراوح مساهمة كل واحد منهم بين دينار واحد أو دينار ومائتي مليّم، والثابت أيضًا أنّ سائق سيارة الأجرة يكون من متساكني إحدى الوجهات التي ينحدر منها "الأصدقاء".

عن البعد الاجتماعي.. حكايات مختلفة

ولأن للنقل أحكام، يجتمع أربع أشخاص مختلفون في وسيلة نقل واحدة، وتنشأ بينهم علاقة صداقة ولكنهم في الواقع ليسوا بأصدقاء، وطيلة فترة انتظارهم للتاكسي أو في الفترة التي يستغرقونها في الطريق قد يتجاذبون أطراف الحديث ويتحدّث كل منهم عن عمله أو أشياء أخرى يجرهم إليها الكلام.

ويحدث وأنت تنتظر تاكسي فردي تقلّك من مفترق "حي النصر" إلى "البساتين"، أن تغيّر أصدقاءك في أكثر من مناسبة لأن أحدهم تمكّن من الظفر بمكانك دون معارضة منك لتنتظر مزيدًا من الوقت، ثم تنطلق في رحلة اجتماعية جمعتك فيها الصدفة بمعينة منزلية وعامل في مقهى وعاملة في محل تنظيف جاف.

مشهد الانتظار اليومي لوسيلة نقل في مفترق "حي النصر" (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

وأما المعينة، فهي غزالة تقطن في "حي البساتين" عند نهاية خط الحافلة، وتعمل في أحد المنازل بمنطقة "المنزه 9"، تقول في حديثها لـ"ألترا تونس" إنّها تعمل في هذه المنطقة منذ ما يزيد عن الخمس سنوات وإنّها تستقل الحافلة في القدوم إلى العمل على اعتبار أن منزلها محاذ لنهاية الخطّ، ولكنّها تضطرّ مساء إلى مشاركة أشخاص آخرين في سيارة تاكسي أو سيارة عادية تقلّ الركّاب.

وتشير إلى أنّها وبحكم اختلاف توقيت خروجها من العمل من يوم إلى آخر، فإنّها ترافق في كل مرّة أشخاصًا جددًا ولا يحدث أن تلتقي ببعض معارفها وجيرانها إلا نادرًا، مبيّنة أنّ مشاركتها لتاكسي فردي مع غيرها لحلّ لمشكلة النقل في مفترق "حي النصر" خاصة وأن الحافلة التي تستقلّها صباحًا لا تتوقّف في المكان حينما تكون مكتظّة والأمر نفسه بالنسبة للنقل الجماعي.

تضطر غزالة (معينة منزلية) لمشاركة تاكسي فردي مع غيرها لحل لمشكلة النقل في مفترق حي النصر خاصة وأن الحافلة التي تستقلّها صباحًا لا تتوقّف في المكان حينما تكون مكتظّة

وتضيف محدّثتنا أنّها تتنقل من منطقة "المنزه 9" إلى مفترق "حي النصر" مشيًا على القدمين، وأحيانًا تقلّها مشغّلتها بالسيارة حيث تنطلق رحلة البحث عن وسيلة نقل تنهي معاناة الوقوف التي تتكرر معها يوميًا باستثناء يوم الأحد.

وأما هادية فهي عشرينية انقطعت عن الدراسة منذ أربع سنوات لتتلقّى تكوينًا في مجال التنظيف الجاف، وهي الآن تعمل في محلّ في منطقة حيّ النصر، تقطن في منطقة المنيهلة وهي محظوظة نوعًا ما لأنها يمكن أن تستقل سيارة تاكسي أو سيارة أخرى سواء كانت تقلّ إلى "المنيهلة العليا" أو "حي البساتين" على اعتبار أنّها تقطن بمنطقة عبور بين الوجهتين، وفق لحديثها معنا.

وتشير إلى أنّ شقيقها يوصلها بسيارته إلى العمل في الصباح على اعتبار أنه يعمل في نفس المنطقة، ولكنها تعود إلى المنزل في وسيلة النقل المتوفّرة والتي تكون عادة سيارة تاكسي تتقاسمها مع ثلاثة أشخاص آخرين، أو سيارة عادية أو أيضًا الحافلة التي تقل إلى "حي التضامن" وحينها تضطر إلى قطع مسافة سير على قدميها.

اقرأ/ي أيضًا: "الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"

ولا تخفي هادية تذمّرها من معاناة الانتظار، وهي تتحدّث عن الوقت الذي تمضيه في مفترق حي النصر بحثًا عن وسيلة نقل تقّلها إلى المنزل خاصة في أوقات الذروة التي تتزامن عادة مع الخامسة مساء وهو وقت انتهاء عمل المعينات المنزليات، وفق تعبيرها.

ومن جهته، يؤكّد محمد أمين وهو نادل بأحد المقاهي في منطقة المنزه السادس ما ذهبت إليه غزالة وهادية في علاقة بعناء الانتظار خاصة في ذروة اكتظاظ المحطّة، مشيرًا إلى أن الأمر قد يتطلّب من الفرد أن يكون فظًّا أحيانًا ليتمكّن من العودة إلى منزله دون الانتظار طويلًا.

ويقول في حديثه مع "ألترا تونس" أنّه يتدبّر أمره في الذهاب إلى العمل، سواء من خلال امتطاء الحافلة من خط النهاية أو  سيارة أحد الأصدقاء أو الجيران الذين يعملون في مناطق محاذية لمكان عمله، وفي المساء يوصله مشغّله إلى مفترق "حي النصر" حيث يجد غيره من العملة ينتظرون سيارات التاكسي وغيرها من وسائل النقل.

محمد أمين (نادل بمقهى): الأمر قد يتطلّب من الفرد أن يكون فظًّا أحيانًا ليتمكّن من العودة إلى منزله دون الانتظار طويلًا

ويشير إلى أنّ معاناة الانتظار ورحلة البحث عن التاكسي مكّنته من تكوين عديد الصداقات ومن الاطلاع على تجارب أشخاص آخرين في الحياة، مبيّنًا أن رفاق الطريق يختلفون من يوم إلى آخر ويتبدّلون حسب توقيت الانتظار.

والشهادات السابقة، دليل على أن مفترق "حي النصر" وسيارات التاكسي أو السيارات العادية تنطوي على بعد اجتماعي إذ تعدّ فضاءات للتعارف، وإن كان وقتيًا، ولتبادل التجارب والأحاديث، فالمعينة المنزلية تتحدّث عن مشغلاتها وعن يومها الذي تقضيه بين التنظيف والترتيب والطهو، والنادل يتحدّث عن المقهى وروادها والطرائف التي تحصل بين الفينة والأخرى، والعاملة في محلّ التنظيف تتحدّث عن الحرفاء وعن لين بعضهم وغطرسة بعضهم الآخر.

عن البعد الاقتصادي.. مورد رزق إضافي

وأنت تعايش تجربة النقل في مفترق "حي النصر"، يتبيّن لك بعد تجارب متكرّرة تتراوح بين ركوب سيارة تاكسي فردي أو سيارات عادية يحوّلها أصحابها إلى سيارات أجرة، أن الأمر لا يخلو من بعد اقتصادي ذلك أن سواق التاكسي الذين ينقلون الركاب من المفترق إلى وجهاتهم المنشودة يكونون عادة متساكني تلك المناطق أو مناطق قريبة منها، وتكون السفرة آخر سفراتهم.

أما بالنسبة لأصحاب السيارات العادية، فأغلبهم ينطلقون في العمل مساء انطلاقًا من الساعة الخامسة فما فوق، وهم يعتبرون الأمر مورد رزق إضافي، وفيما يلتزم أغلبهم بأن يقلوا أربعة ركّاب فإن البعض الآخر قد يقلون أكثر.

 سيارات عادية يحوّلها أصحابها إلى سيارات أجرة (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

وفي هذا الصدد، يقول أسامة وهو سائق سيارة تاكسي، إنّه دأب على المرور من مفترق "حي النصر" لنقل أربعة أشخاص منذ أكثر من 5 سنوات، تحديدًا منذ أن أصبح له سيارة تاكسي على ملكه، مشيرًا إلى أنه يحاول أن تكون كل سفراته في ولاية أريانة.

ويضيف أنّه حينما يقرر العودة إلى المنزل في منطقة "حي الانطلاقة" يمر من مفترق "حي النصر" ويقل 4 ركّاب يدفع كلّ منهما دينارًا ثمن السفرة، وهو في كل الحالات ماض إلى نفس الوجهة، وهو ما يجعله يضرب عصفورين بحجر واحد، وفق تعبيره.

ومن جهته، يستعمل نزار سيارته العادية أحيانًا لنقل الركاب من مفترق " حي النصر" إلى "حي البساتين"، وذلك بعد إنهاء دوامه في إحدى الشركات الخاصة، مشيرًا إلى أنّه يؤدّي أكثر من سفرة إلى المكان وفي الغالب يقلّ أكثر من 4 ركّاب على اعتبار طبيعة سيارته ذات الباب الخلفي.

يحوّل نزار سيارته العادية مساءً لسيارة لنقل الركاب من مفترق "حي النصر" كمصدر رزق إضافي أمام ارتفاع أسعار المحروقات

ويرجع سبب مخاطرته بنقل غير قانوني للأشخاص، إلى الموازنة بين استهلاك الوقود وبين ثمن السفرة الذي يعدّ دينارًا واحدًا لكل فرد، مبيّنًا أن الأمر لا يخلو من المجازفة ولكنّه يعدّه مصدر رزق إضافي خاصة في ظل ارتفاع الأسعار بما فيها أسعار المحروقات.

ويلفت إلى أنّه على بيّنة من أنّ الأمر غير قانوني وأنّه يلجأ إلى بعض الطرقات الفرعية التي لا تتمركز بها الدوريات الأمنية والركاب على بيّنة من الأمر، وفق تعبيره.

والتجربة التي عايشها "ألترا تونس" في مفترق "حي النصر" ليست إلا وجهًا لتدهور قطاع النقل في تونس ونقص الأسطول الذي جعل من المواطنين أمام خيارات بعضها غير قانوني، في انتظار أن يتم تعزيز الحافلات وإحداث خطوط جديدة وإعادة إحياء أخرى تم إلغاؤها، مثلما حصل مؤخّرًا بعد تزويد الأسطول بعدد من الحافلات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التاكسي الجماعي في سوسة.. فوضى وبلطجة وتحميل متبادل للمسؤولية

"عواطف" عميدة سائقات التاكسي: أشجع من الرجال