26-أكتوبر-2022
حي التضامن الشعبي في تونس

يضم حي التضامن نسبة كبيرة من العائلات محدودة الدخل، يصارعون الظروف والأزمات من أجل البقاء (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

"لا أتمنى في هذه الحياة سوى بيت يأويني أنا وزوجي وأبنائي"، لفظت الخالة (ن.ع) هذه الكلمات بكل وجع العالم، حاملة بين ثناياها قصة امرأة حاربت الحياة من أجل عائلتها.

شاركتنا الخالة خديجة (اسم مستعار) قصّتها وعبرت بكلمات متقطّعة وبحسرة كبيرة عمّا تعانيه خلال يومها من تعب منذ أكثر من عشرين سنة، تقول لـ"الترا تونس" إنها أجبرت على الخروج للعمل لمساعدة زوجها على مجابهة مصاريف العائلة المتكوّنة من ستّة أفراد يجمعهم منزل مستأجر صغير، ممّا يدفع الزوجين  إلى المبيت على أرضيّة المطبخ.

الخالة خديجة، من حي التضامن: أجبرت على الخروج للعمل للمساعدة على مجابهة مصاريف العائلة المتكوّنة من 6 أفراد يجمعهم منزل مستأجر صغير، ممّا يدفعني وزوجي إلى المبيت على أرضيّة المطبخ

  • "أعاني الأمرّين من أجل عائلتي وأخاف أن يهاجر ابني في غفلة مني"

تقطن هذه المرأة الستّينيّة في أكبر حي شعبي في تونس، وهو حي التضامن الذي يضمّ نسبة كبيرة من العائلات محدودة الدخل، يصارعون الظروف والأزمات من أجل البقاء.

وازدادت أوضاعهم تعقيدًا مع الأزمة الاقتصادية المتصاعدة التي تشهدها تونس في ظلّ ارتفاع نسبة التضخم التي بلغت 9.1% حسب المعهد الوطني للإحصاء. ولم يعد هاجس أبناء هذا الحي ارتفاع الأسعار وتراجع المقدرة الشرائيّة فقط، بل أصبح  فقدان بعض المواد الأساسية كابوسًا يلاحقهم على امتداد يومهم.

لم يعد هاجس أبناء حي التضامن ارتفاع الأسعار وتراجع المقدرة الشرائيّة فقط، بل أصبح  فقدان بعض المواد الأساسية كابوسًا يلاحقهم على امتداد يومهم

مع بروز فجر كلّ يوم جديد، تسابق خديجة عقارب الزمن من أجل الحصول على "حفنة سكر" و"قطرات زيت" و"فتات خبز". وتضطر لانتظار طوابير طويلة لـ"تغنم" بما يسدّ الرمق ولا يخفت جوع البطن.

 

 

تتحدّث أم محمّد عن يومها لـ"ألترا تونس": "أعمل كمعينة منزليّة عند عدد من العائلات وأمضي يومي ما بين طهو وكوي وتنظيف لأتحصل على عشرين دينارًا آخر اليوم، أقسّمها ما بين مصاريف التنقل ومصاريف البيت وأحاول جاهدة أن أكسب مبالغ إضافية لكي أستطيع إعالة أبنائي".

الخالة خديجة لـ"الترا تونس": أحد أبنائي قد خرج في الاحتجاجات الأخيرة التي جدّت في حي التضامن، لم أستطع كبح جماحه كما حاول مرارًا إقناعي بأن يهاجر بطريقة غير نظامية مع بعض أبناء الحي

للخالة خديجة أربعة أبناء، ثلاثة منهم من أصحاب الشهائد العليا ولكنّهم عاطلون عن العمل وابنها الرابع هو من الأشخاص المصابين بمرض نفسي معقّد يفرض على العائلة تحمّل نوبات عصبيّة قويّة ومصاريف باهضة للتداوي.

وتؤكّد محدّثتنا أن أحد أبنائها قد خرج في الاحتجاجات الأخيرة التي جدّت في منطقة التضامن، مضيفة أنّها لم تستطع كبح جماحه لما يحمله من ألم بسبب وضعيّتهم الاجتماعية.

 

صورة من الاحتجاجات الشعبية في حي التضامن بتاريخ 14 أكتوبر 2022

صورة من الاحتجاجات الشعبية في حي التضامن بتاريخ 14 أكتوبر 2022 (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

 

وأشارت إلى أنّه حاول مرارًا إقناعها بأن يهاجر بطريقة غير نظامية مع بعض أبناء الحي إلّا أنّها كانت رافضة هذا الأمر، وعبّرت عن مخاوفها لـ"ألترا تونس" من أن يقوم بهذا العمل "الطائش" في غفلة منها.

تواصل الخالة خديجة الحديث عن ابنتها التي تستكمل إعداد رسالة الدكتوراه في إحدى الولايات التونسية ولهذا فهي دائمًا ما تستدين من أصحاب الخير، على حدّ قولها، من أجل مصاريف التأجير والدراسة.

يبلغ مدخول عائلة الخالة خديجة 700 دينار شهريًا، تقسّمهم بين 350 دينار لكراء المنزل وما يبقى من مال هو للمصروف اليومي للعائلة

يبلغ مدخول هذه العائلة 700 دينار شهريًّا، تقسّمهم محدّثة "الترا تونس" كالآتي: "أدفع 350 دينار لكراء المنزل وما يبقى من مال هو للمصروف اليومي للعائلة وقد أثّر وضع البلاد الحالي وما نواجهه من غلاء للأسعار على طبيعة عيشنا فأنا لا أقدر على اقتناء المواد الأساسيّة والخضار بصفة دوريّة. وقليلاً ما تزور اللحوم أو الغلال طاولتنا المتداعية. ولولا بعض الصدقات أو كرامات الناس الذين أشتغل عندهم كنّا لنعيش الأمرّين في هذه الفترة الحالكة".

 

 

  • "تمنيت لو ماكنتش تونسي"

على أبواب السوق المركزية بتونس العاصمة، يتمركز باعة من كلّ حدب وصوب وقد ضمن زوج الخالة خديجة (س.م)، مكانًا بينهم. تنطلق معركة البحث عن القوت لـ (س.م) منذ الساعة الخامسة صباحًا، فالرحلة تنطلق بالبحث عن مكان للوقوف وسط حافلة تعجّ بالركاب، تنطلق مفتوحة الأبواب لتقل "الناس الّي تعاني ونساتهم الأغاني".

حال وصوله للسوق المركزية، يعدّ محدّثنا عربته الصغيرة المحملة بالبخور واللبان في ظاهرها، لكنها محملة بالتعب وسبعين سنة من الشقاء. يقول (س.م) لـ"ألترا تونس" بكلّ لوعة وحسرة: "لا يربطني بهذه الدولة سوى بطاقة الهوية الوطنية، حيث كتب عليها أنّي تونسي الجنسية، وصدقًا "تمنيت لو ماكنتش تونسي" فلا الدولة تعترف بي ولا الناس تشفق على حالي".

زوج الخالة خديجة لـ"الترا تونس": أكسب في اليوم الواحد بين 10 و20 دينارًا من عربة البخور ولا يربطني بهذه الدولة سوى بطاقة الهوية الوطنية

ويضيف محدّث "الترا تونس" أنه يعيش تاركاً الحظ يلاعبه كل يوم حيث يعوّل عليه لكسب قوته، ليعود إلى منزله وفي جيبه بضعة دنانير، يروي صوت ارتطامها قصّة الساعات الطويلة التي أمضاها ينظر إلى المترجّلين راجيًا الله والحظّ أن يلاحظوا وجوده وعربته وأن تغريهم حفنة اللبان ورائحة البخور، وفق قوله.

ويضيف بائع البخور أنه يكسب في اليوم الواحد بين 10 و20 دينارًا ليعود بها إلى البيت ويجمعها مع ما توفّره زوجته من شغل البيوت ليجابه بها مصاريف العائلة، مؤكّدًا أنه لم يعد ينتظر شيئًا من المسؤولين وأصحاب القرار وأنّه لم ولن ينحني لهم ليسد احتياجاته وعائلته، على حدّ تعبيره.