29-نوفمبر-2022
تونس العاصمة

العاصمة التونسية مليئة بالقصص اللامرئية وحكايا أولئك الذين نبذتهم المدينة (Stephen Pennells/Getty)

 

العاصمة تونس، بل كل عاصمة هي عادة ما تقدم نفسها كمدينة متكاملة وساحرة وباذخة بعماراتها الشاهقة وتيراسات مقاهيها المتجاورة ومحلاتها ذات الواجهات المضيئة ومكتباتها وحاناتها الصاخبة ومدارسها القديمة ومراكز التسوق المتلألئة وانتشار قاعات السينما بالأنهج وكلياتها والزوايا والشوارع الفارهة المكتظة بالسيارات على مدار الساعة وحركة المترو التي لا تهدأ وحدائقها ذات البسط الخضراء وشامخات وباسقات النخيل.

إيقاع العاصمة يمنح الوافدين عليها إحساسًا بالجذل والمتعة والشوق الأبدي والدهشة والخفة واحتمالات غريبة لأحلام مؤجلة وانخطافًا لا شفاء بعده،  بَيْدَ أن سكانها الدائمين لديهم إحساس مغاير فهي تبدو لهم أفعوانية وأخطبوطية وفسيفسائية، متشكلة من آلاف الألوان والكيميائيات والسلوكيات والعادات وآلاف الطبائع والمرجعيات، لكنها مفتقدة في نفس الوقت لأي لون وطابع وإيقاع موحّد، هي بالنسبة إليهم مزيج جنوني من كل شيء، إنها مدينة شاردة، بلا هوية، قد تتخلى عنهم في المنعطف.

العاصمة مليئة بالقصص اللامرئية وحكايا أولئك الذين نبذتهم المدينة وتخلّت عنهم بعد سنوات الإقامة الطويلة ولم يستطيعوا مغادرتها إلى مدن أخرى لأنها وببساطة قد تحولت إلى أفيون قاتل وآسر في آن واحد

العاصمة التونسية مليئة بالقصص اللامرئية وحكايا أولئك الذين نبذتهم المدينة وتخلّت عنهم بعد سنوات الإقامة الطويلة ولم يستطيعوا مغادرتها إلى مدن أخرى أو التخلص منها لأنها وببساطة قد تحولت إلى أفيون قاتل لكنه في نفس الوقت ملذّ وآسر.

هؤلاء المنبوذين قد يمرّون أمامك أو يجلسون قبالتك بإحدى حانات "باب الخضراء" أو يمرون حذو محطة الباصات بـ"البساج" أو "ساحة برشلونة" أو تتقاطع معهم بـ"نهج الجزيرة" أو تعترضهم بـ"المارشي سونترال" (السوق المركزية).. إنهم أطياف شوارع العاصمة وأنهجها الخلفية المخذولين والمنكسرين والذين طوّحت بهم الأيام وجعلتهم كأوراق الخريف يعيشون هشاشة المكان رغم تظاهرهم بالتوازن.

صورة
العاصمة التونسية مليئة بالقصص اللامرئية وحكايا أولئك الذين نبذتهم المدينة (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

هذه الشخصيات التي قهرتها المدينة عندما تراها تدخل بوابات العمارات المتجاورة كقطع دومينو والمهندَسة على شاكلة الطراز الأوروبي تخال للوهلة الأولى أنها ستصعد إلى شقة من الشقق الراقية بأحد الطوابق الفسيحة لكن الحقيقة هي عكس ذلك. إنهم سكان الأسطح  يندلفون نحو بيوتهم المعلقة في الأعالي، حيث السماء أقرب والنجوم هناك تتدلى كعناقيد العنب وتُربّت على الأكتاف حتى ينام المقهور، وحيث الأحزان تنبت مع القرنفل في الأصص المرصّفة على جنبات السطح الشاهق.  

عالم أسطح العمارات، عالم هادر بالسكون والقصص المنسية ومستنزف للطاقة، أمله الوحيد هو النهايات الهادئة.

  • سكنى السطح غربة أخرى تعاش ولا تقال

فوق سطح عمارة بشارع الحرية يقيم شاعر تونسي معروف له إصدارات شعرية ومشاركات في مهرجانات أدبية وحاصل على جوائز عربية. شربنا قهوة في الجوار ثم صعدنا خمسة طوابق رفقة الشاعر وولجنا إلى السطح الفسيح عبر بوابة خشبية مهترئة، أردناه لقاء شاعريًا علّه يخفف بؤس هذه الحالة الإنسانية لمبدع تونسي. كان الشاعر يدخن بهدوء عندما  أشار إلى غرفته الصغيرة ذات القرميد الأحمر والباب خشبي الأزرق، لقد كانت الغرفة الأجمل من بين ستّ غرف متجاورة، حبل غسيل الشاعر به قمصان ملونة تحركها نسائم الخريف. 

شاعر (أحد ساكني أسطح العاصمة) لـ"الترا تونس": السطح غربة أخرى تعاش ولا تقال.. لم أجنِ شيئًا من الساحة الثقافية التي نذرت لها عمري، لقد حلمت بتغيير العالم لكن سفني شردتها رياح الرداءة

تحدث قائلًا: هنا سكني وسكينتي، مشيرًا  بيده النحيفة إلى ركن قصي بالسطح حيث يجلس بمفرده لساعات يكتب الشعر ويرصّف القصائد. شاعرنا خمسيني يئس من الالتحاق بالوظيفة بإحدى مؤسسات وزارة الثقافة التونسية، بعد أن تبخرت كل الأحلام وبقيت أرض الشعر ملاذًا أخيرًا له من هول عواصف الحياة اليومية القاتلة. غرفته كانت على وجه الفضل من أحد سكان العمارة بعد تدخل من أحد الجامعيين وهو صديق للشاعر.

"السطح غربة أخرى تعاش ولا تقال" هكذا يصفها الشاعر مؤكدًا أنه لا نجاة من الحر والقرّ والوحدة. قبل دخول الغرفة جلت ببصري على بقية الأسطح المجاورة، إنها حياة أخرى أشد بؤسًا وأشد قساوة رغم قربها من السماء؛ عائلات تقيم بالغرف الصغيرة وأطفال يمرحون قرب النجوم وعجائز يرتبون وحدتهم الأخيرة.

صورة
عالم أسطح العمارات عالم هادر بالسكون والقصص المنسية (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

جلسنا على الكنبة التي ينام فوقها الشاعر، قبالتنا مكتب خشبي تعلوه مكتبة صغيرة ومطرية سوداء  معلقة بالنافذة الوحيدة الموجودة بالغرفة، ولكسر دهشتي بادرني الشاعر قائلًا: "لم أجنِ شيئًا من الساحة الثقافية التي نذرت لها كل عمري، لقد حلمت بتغيير العالم وبواقع أكثر سمو وأبهى، لكن سفني شردتها رياح الرداءة"، معتبرًا أن "العاصمة كبّلته وأضاعته وجعلته أسيرًا لها لا يقوى على التخلص منها والعيش في مدينة أخرى أقل ضجرًا، إنها مدينة يسفح فيها كل شيء".  

طالت الجلسة مع الشاعر، فقد حملني على حبال أحزانه وهزائمه وسرد أمامي حكايات مترعة بالأمل والألم، لكنني في النهاية حملت معي قلبًا مكسورًا وعدت من حيث أتيت.

  • حياة السطح محفوفة بالمخاطر

العم "الطاهر لمبروزو" أصيل مدينة بنزرت، يقيم في العاصمة تونس منذ أربعينات القرن الماضي، جاءها فتى يافعًا بعد تيتّمه، تبنّاه أحد أقاربه وأخذه لمحل "لبمروزو" لبيع وإصلاح النظارات الطبية بشارع فرنسا وهو محل لأحد الإيطاليين، من أجل تعلم تلك الحرفة ومن ثمة الانطلاق في العمل، وكان أن برع في ذلك وبات معروفًا لدى زبائن المحل باسم "الطاهر لمبروزو".

الآن  العم "الطاهر"  تجاوز السبعين من عمره لكنه مازال يتقد حيوية ويحافظ على أناقته وخصوصًا ربطة العنق ذات العقدة الإيطالية. يجلس يوميًا بأحد المقاهي القديمة بنهج روما يتأمل عمره الذي مضى بغتة من بين أصابعه. 

العم "الطاهر لمبروزو" سبعيني أنيق يقيم بالعاصمة منذ أربعينات القرن الماضي ولا يخيّل لك أبدًا أنه من متساكني الأسطح، يقول لـ"الترا تونس": "منحت شبابي لهذه المدينة وها أنا ما أزال صامدًا أمام عواصف الأيام"

يقول العم الطاهر إن اليُتم منذ الصغر درّبه على الوحدة وإن المدينة التي وهبها شبابه وعاش بين أنهجها وشوارعها  قصة حب كبيرة مع فتاة من البورجوازية الإيطالية التي كانت تقيم بتونس تخلّت عنه ولم تترك له سوى الذكرى تسندها الذكرى.

 اللقاء مع العم الطاهر على إيقاع مقهى نهج روما مليء بالقصص، حيث يروي أنه خسر كل شيء نتيجة سوء تقديره للأمور عندما كان شابًا لكنه ما يزال صامدًا أمام عواصف الأيام وأمراض الشيخوخة، يحصل على راتب تقاعد يشبه المنحة يكفيه الأكل والشرب. هو يقيم الآن بسطح العمارة التي كان يوجد بها محل العمل وهو "أستوديو صغير" كان قد منحه إياه معلمه الإيطالي لمبروزو قبل وفاته.

يروي محدثنا أن حياته فوق السطح محفوفة بالمخاطر فهو ليس الوحيد الذي يقيم هناك، وأغلب القاطنين يتغيرون مع الأيام وهو ما خلق بعض المشاكل سببها عدم انسجام السكان على مستوى العادات وأوقات الدخول والخروج.

العم "الطاهر لمبروزو" وجه من وجوه العاصمة التي قد تلتقيها صباحًا بالمارشي سونترال (السوق المركزية) أو بمقهى نهج روما أو بشارع الحبيب بورقيبة لكن لا تخال أنه من سكان الأسطح.

  • سكان أسطح العمارات هم ممن فاتهم قطار الحياة

"معز"، طالب الملتيميديا بجامعة منوبة، ينحدر من معتمدية "جلمة" من ولاية  سيدي بوزيد، استوفى حقه القانوني في السكن الجامعي المجاني وبما أنه لا يستطيع تسوغ منزلًا بمفرده فقد وجد نفسه يقطن مع أحد أبناء عمومته في غرفة فوق سطح عمارة بنهج الجزيرة.

صورة
شاعر لـ"الترا تونس: العاصمة هي مدينة الألف باب والألف وجه (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

"معز" الذي ينحدر من وسط ريفي ومن عائلة محدودة الإمكانيات، اضطر أيضًا للعمل في سوق بومنديل  مع أبناء جهته الذين يسيطرون على كامل السوق. وذلك حتى يجابه مصاريف الدراسة وتحقيق واحدة من أحلامه وهي شراء آلة تصوير فوتوغرافي ذات جودة عالية فهي مفتاح النجاح في العمل الميداني وإجراء التربصات.  

الشاعر عبد الرزاق المسعودي: العاصمة آكلة للأعمار ومانحة للأوهام لها عوالمها السفلية ولها هامشها ولها أيضًا جغرافيا أخرى عَليّة نسميها عالم ما فوق أسطح العمارات حيث يقطن المنسيّون

وعن تجربة السكن فوق السطح يقول "معز" إنها كانت تجربة قاسية لكنها ممتعة في بعض الأحيان وخاصة عندما يستعير كاميرا وينجز حصص تصوير لأسطح المدينة موثقًا الجانب المعماري الكولونيالي وملتقطًا صور الغروب المنكسر على بناءات العاصمة.

ويضيف أن عالم السطح مختلف عن عالم الأرض، موضحًا أن سكان أسطح عمارات العاصمة هم ممن فاتهم قطار الحياة أو ممن انكسرت سفنهم قبل الوصول، لكنهم أناس بسطاء يجنحون إلى السلم ويميلون إلى السكينة ويبحثون عن الهدوء وبعض المال من أجل حفظ ماء الوجه.

  • "العاصمة آكلة الأعمار ومانحة الأوهام"   

العاصمة تونس "آكلة الأعمار هي وسارقة الهدوء ومانحة الأوهام" هكذا يصفها الكاتب والشاعر التونسي عبد الرزاق المسعودي، إنها مدينة الألف باب والألف وجه، لها عوالمها السفلية ولها هامشها ولها أيضًا جغرافيا أخرى عَليّة نسميها عالم ما  فوق أسطح العمارات حيث المنسيين الذين اقتربوا أكثر فأكثر من السماء.