11-يونيو-2022
جمعية القضاة التونسين عزل القضاة تونس

يبدو أن القضاء سيكون المسمار الأول والأخير الذي سيدق نعش مسار الـ25 من جويلية (الشاذلي بن إبراهيم/NurPhoto)

مقال رأي

 

القضاء.. السلطة التي يسعى الجميع للاستحواذ عليها. منذ غابر التاريخ وقبل نشأة الدولة بمفهومها الحديث كان جميع الحكام يسعون إلى السيطرة على جهاز القضاء. فمنهم من جمع القضاء بباقي السلطات وترأسه بموجب إلاهي. ومنهم من كان أكثر مكرًا وفصله عنه وولى موالين له على رأسه.

ومع بداية ثورات التغيير الفكري من المشرق إلى المغرب، نشأ مفهوم الفصل بين السلطات ليحسم الجدل ويُفرد القضاء مقعدًا منفردًا ضمن التركيب الهيكلي للدولة. ليخلق هذا المبدأ جدلًا في وسط الأنظمة العربية التواقة للسيطرة وتوسيع النفوذ خصوصًا لتبعية هذه الأنظمة لاتجاهات فكرية بالية تؤمن بوجود الإنسان المستقيم العادل.

يبدو أن سعيّد، تحت حراسة إلكترونية مِمّن يدعمونه، يتوغل في معركة الهدم ضد مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، وها هو معول الهدم يأتي على آخر المؤسسات "القضاء" في محاولة للإطاحة به

في تونس، 57 قاضيًا قدموا قربانًا، عندما عانقت عقارب الساعة الرقم الثاني عشر، لمجموعة من الوحوش ذات الهيئة البشرية في سبيل معركة "التطهير". لتنطلق الألسن في نبش مخالبها في أعراض قضاة، لا يعرفونهم ولم تجمعهم بهم صلة. كان الأمر سرياليًا بطريقة لا يمكن أن يستوعبها المنطق والعلم.

يبدو أن الرئيس قيس سعيّد، تحت حراسة إلكترونية مِمّن يدعون نصرته، يتوغل في معركة الهدم ضد مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى. فبعد غلق البرلمان التونسي، وإلجام القصبة، وتشميع هيئة مكافحة الفساد، وعزل المجلس الأعلى للقضاء وتغييره بآخر مؤقت حمل أغلبه ذات الأشخاص، وفسخ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتعويضها بأخرى صورية. ها هو معول الهدم يأتي على آخر المؤسسات ويطيح بها. يبدو أن فشل قيس سعيّد في إخضاع المجلس الذي عينه بنفسه من أجل تصفية ملفات قضائية وفق تصورات معينة عجل بإصدار بمرسوم رئاسي يعطيه صلاحية في عزل القضاة بناءً على تقارير مجهولة المصدر ومحصنة من كل طعن.

سعيّد اختار هذه المرة معركة خاطئة، فخلافًا لانقسام النواب بين مؤيد ومعارض لقراراته وخلافًا لصمت بقية الهيئات المهدومة وانصياعها، توحد القضاة لأول مرة تقريبًا منذ الثورة وهتفوا بصوت واحد مطالبين الرئيس برفع يده عن القضاء

بيد أن الرئيس اختار هذه المرة معركة خاطئة، فخلافًا لانقسام النواب بين مؤيد ومعارض لقرارات ليلة "تصحيح المسار" وخلافًا لصمت بقية الهيئات المهدومة وانصياعها لقرارات الرئيس توحد القضاة لأول مرة، تقريبًا، منذ الثورة وهتفوا بصوت واحد مطالبين الرئيس برفع يده عن القضاء.

الواضح أن مرسوم العزل سيكون منعرجًا واضحًا في مسار الأزمة. فمع تعمق الأزمة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي تطفو على السطح أزمة نظام عام. فتوقف المحاكم عن العمل مرادف لشلل المرفق العام في مادة النزاعات. شلل يرافقه تأخير لآجال التقاضي وفض النزاع، ويثقل كاهل المواطن ويزيد من تعميق شعوره العدواني تجاه مؤسسات الدولة، مما ينذر بإمكانية توسع الجريمة تحت رعاية مصطلحات "التطهير من الفاسدين والسراق" والقصاص خارج هياكل الدولة المنظمة. ومع كل يوم يمر في خضم الإضراب ستزداد عزلة الرئيس داخليًا وخارجيًا.

الواضح أن مرسوم العزل سيكون منعرجًا واضحًا في مسار الأزمة. فمع تعمق الأزمة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي تطفو على السطح أزمة نظام عام

فمع الإضراب العام للقضاة طفت إلى السطح تحولات جذرية في المواقف السياسية. فالاتحاد العام التونسي للشغل من خلال خطابات قياداته أصبح حربة أخرى في يد معارضي الرئيس خصوصًا وأن القضاء تحت سلطان الرئيس سيشكل ورقة ضغط على الاتحاد للقبول بالحوار الصوري لإمكانية الطعن في شرعية هيئته الإدارية الحالية. كما تحولت مواقف أخرى أبرزها موقف "سامية عبو" التي دعت تحت قبة البرلمان إلى تقويض البناء المؤسساتي للدولة لتتهم الرئيس بإدخال العائلة في إدارة الدولة خلال آخر ظهور لها في وقفة احتجاجية من أمام أحد قصور العدالة.

يبدو أن القضاء سيكون المسمار الأخير الذي سيدق نعش مسار 25 جويلية ويحمله إلى مثواه الأخير، فرغم ما يبدو على سعيّد من عزم يزيد لهيب أنصاره ليفتِكوا بكل من يعارضهم، فإن القضاء يبدو ثابتًا في موقفه ومصرًّا على خوض المعركة

أما خارجيًا، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبحت متشبثة أكثر بمعارضة مسار الرئيس وهو ما يتأكد عبر عدم وجود تمثيل ديبلوماسي أمريكي على الأراضي التونسية حيث عمدت الولايات المتحدة إلى تعيين قائمة بالأعمال كما يزداد التأكد مع سلسلة لقاءات القائمة بأعمال السفارة بمعارضي الرئيس.

خلاصة القول، القضاء المسمار الأول والأخير الذي سيدق نعش مسار الـ25 من جويلية/يوليو ويحمله إلى مثواه الأخير. فرغم ما يبدو على الرئيس من عزم، يزيد لهيب أنصاره ليفتِكوا بكل من يعارضهم، فإن القضاء يبدو ثابتًا وحازمًا في موقفه ومصرًّا على خوض المعركة ويعرف جيدًا كل شبر من أرض النزاع. وما على الرئيس سوى أن يضمن استقلالية القضاء حتى يضمن محاكمة عادلة عندما يغادر قصر قرطاج، خصوصًا مع وجود شكايات قضائية أوقفتها الحصانة الرئاسية تتهمه فيها بمحاولة تبديل هيئة الدولة أساسًا.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"