29-يوليو-2018

جميع عروض مارسال خليفة تكرّر نفسها (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

هل يستطيع أن يكون الفنان اللبناني مرسال خليفة فوق النقد؟ هذا السؤال الصعب ليس من السهل الإجابة عنه لأن مرسال خليفة هو من القامات السّامقات في سماء الغناء العربي "الملتزم" وأيقونة في حقل الموسيقى التجريبية. مرسال هو رجل مبادئ، نحت أسطورته الثقافية بجهد وعناء وهدوء وتفكير، ويغني منذ أكثر من أربعين عامًا على مسارح العالم وبات جزءًا من منظومات الموسيقى البديلة والراقية في الوطن العربي. وبات تقليدًا في العديد من البرمجات الثقافية الجمعيات والمنظمات الحقوقية.

اقرأ/ي أيضًا: مهرجان قرطاج الدولي.. السّياق التاريخي ومراكمة الذاكرة الثقافية

عندما يزور مرسال أي بلد عربي ينشدّ بالسليقة إلى المعارضة والمقاومة وخاصة فضاء المجتمع المدني الطلابي والنقابي، وله قدرة على ترويض المسارح العصيّة واختراق الجدران السياسية المضيقة على الفن التنويري. يصل مرسال إلى جماهيره عبر الموسيقى غير التقليدية والأشعار ذات النفس الثوري والعاطفي وعبر البيانات والحوار التثويري مع الجماهير التي تحضر بكثافة عالية لحفلاته، وقد علّمته أسفاره إلى البلدان العربية حسن مناورة المسؤولين الثقافيين في هذه البلدان.

ميّزت وزارة الشؤون الثقافية مرسال خليفة، خلال هذه الصائفة، بإسناده لأكثر من 10 عروض بمهرجانات دولية وأخرى جهوية ومحلية وبرر الوزير ذلك بأنه شخصية اعتبارية ومن حق كافة التونسيين الجلوس إلى فنها

منذ صدور ألبومه الأول "جفرا" سنة 1979، وأيضًا منذ حصار بيروت من قبل الكيان الصهيوني سنة 1982، اختار مرسال لنفسه طريقًا وعرة محفوفة بالمخاطر، ولكنه كان صلبًا أمام العواصف وما أكثرها في الوطن العربي.

لقد نذر حنجرته الذهبية لـ"الثورة والثوار"، لقد أصبح صوته رمزًا للمقاومة الفلسطينية ولجميع الأحرار في العالم. لقد لحّن في بداياته من أشعار الشاعرين اللبنانيين عز الدين المناصرة وخليل حاوي، وثمّ من كلمات الشاعر الفلسطيني الكبير حمود درويش إذ شكّلًا معًا ثنائي أغاني الوطن والحب والثورة والسلام. وجاب مرسال خليفة أصقاع العالم مع فرقة "الميادين" يرافقه الصوت النسيمي أميمة الخليل ليحقق أسطورة نادرة في الثقافة العربية.

في تونس ومنذ الحفلات الأولى لمرسال ببلادنا نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، ورغم الانزعاج الخفي للنظام السياسي الذي يتظاهر حينها بقبول موسيقى مرسال خليفة وأغانيه ورسائله التثويرية، إلا أنه في أعماقه لا يحبذ حضوره فنرى بعض التضييقات الطفيفة في الإعلام والإكثار من حواجز التفتيش البوليسي لجمهوره. لقد تحول هذا الفنان إلى أيقونة لدى آلاف التونسيين، ويدرك مرسال نفسه قيمة هذا الرصيد المعنوي من الجماهير التونسية لأنها في الحقيقة هي نخبة المجتمع التونسي. وظل يزورنا في الصحو كما في المطر صديقًا مبجلًا تنحني له قلوب وأفئدة أحرار هذا الوطن.

مرسال لم يكن في مستوى المكانة التي خصته بها وزارة الثقافة التونسية فالبرمجة التي أعدّها هي ذات نموذج واحد من قرطاج إلى مكثر لا يغير فيها شيئًا تقريبًا

ميّزت وزارة الشؤون الثقافية مرسال خليفة، خلال هذه الصائفة، بإسناده لأكثر من 10 عروض بمهرجانات دولية رئيسية مثل مهرجان قرطاج والحمامات ودقّة وبنزرت وحمام الأنف، ومهرجانات جهوية ومحلية مثل مكثر في ولاية سليانة، وسبيطلة في ولاية القصرين وجمّال في ولاية المنستير وغيرها من المهرجانات الأخرى. وأُعتبرت هذه الحفلات المكلفة نوعًا من التمييز الإيجابي لمدن صغيرة، وصرح وزير الشؤون الثقافية في هذا الخصوص بأن مرسال هو شخصية اعتبارية ومن حق كافة التونسيين الجلوس إلى فنها والتمتع بموسيقاها.

لكن مرسال والحقيقة تقال لم يكن في مستوى المكانة التي خصته بها وزارة الثقافة التونسية ولنا أن نبين ذلك في مستويين. يتعلق المستوى الأول بالبرمجة التي أعدّها مرسال لمهرجانات تونس فهي ذات نموذج واحد من قرطاج إلى مكثر لا يغير فيها شيئًا تقريبًا وجلّها أغاني البدايات التي اشتهر بها لأربعة عقود تلت مثل "منتصب القامة أمشي"، و"بحرية"، و"أحن إلى خبز أمي"، و"بالأخضر كفنّاه"، و"على الحدود". صحيح أنها أغاني خالدة ولا نملّها لكن مرسال لم يجدد نفسه في هذا مستوى، وحتى الأغنية اليتيمة "تونس الحرّة" التي كتب كلماتها الشاعر التونسي آدم فتحي وغناها مرسال خليفة بلكنة تونسية تكريمًا للثورة وتحية للشهداء لم ترق للعديد من التونسيين الذين تابعوا حفلاته وذلك إلى درجة استهجانها.

أيضًا لاحظنا أن مرسال خليفة لم يعد يجنح للغناء بقدر جنوحه إلى تأليف الموسيقى فأغلب ألحانه في السنوات الاخيرة تأتي بلا كلمات وغارقة في التأمل والزهد والتصوف الموسيقى. ويصر مرسال على إدراج مؤلفاته الموسيقية المطوّلة في برامج حفلاته التونسية إلى درجة أن الجمهور يشعر بالملل وهذا ما حدث في تونس هذه الأيام.

بدا مرسال في حفلاته التونسية الأخيرة مورّثا لابنه نهجًا موسيقيًا كانت كلفته نصف قرن من التعب لكنّ رامي الشاب يناله على طبق من ذهب

أما المستوى الثاني من تحفظّنا، يتمثل في فسح المجال لابنه رامي خليفة في حفلاته التونسية فكأننا إزاء نوع من "التوريث" الموسيقى. قد يكون رامي خليفة ممتازًا، ودرس الموسيقى ولكنه في اعتقادي يمتح من رصيد وتاريخ والده. ولم يشذ مرسال هنا عمّا دأب عليه العديد من الفنانين العرب من تسهيل الطريق لأبنائهم وجعلهم يختصرون الطريق ولذة تعب نحت الكيان. وسبق لمرسال إن اعتلى ركح مسرح قرطاج الأثري مع كافة أفراد عائلته حيث غنّت معه زوجته يولاّ بعض قصائد درويش، وكان نجليه رامي وبشّار يقومان بالعزف.

لقد بدا مرسال في حفلاته التونسية الأخيرة مورّثا لابنه نهجًا موسيقيًا كانت كلفته نصف قرن من التعب لكنّ رامي الشاب يناله على طبق من ذهب. فيما لم تكن، في الأثناء، حفلات مرسال بتونس، في صائفة 2018، في مستوى ما هو مطلوب من موسيقي مقتدر ومطرب ملتزم بالقضايا الانسانية وفنان صاحب مواقف. وكأنّ بالنهاية الأيقونة قد مسّها شرخ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المهرجانات الصيفية: يكفينا هدرًا للمال العام

الرداءة.. "هي تطيح وأنا نطلّعها"