عندما انطلقت العروض الأولى على ركح المسرح الروماني بمدينة قرطاج سنة 1906 كانت تونس لا تزال تحت الاستعمار الفرنسي، ولم تكن للتونسيين حينها هواجس ثقافية وفنية ترقى إلى مستوى إحياء معلم أثري ضخم وتحويله إلى ركح مجيد يعتليه أهم موسيقيي العالم. المستعمر نفسه لم تكن هذه الأفعال الثقافية الثقيلة والمكلفة من صميم أولوياته.
لقد كانت هناك إرادات فردية لعل أهمها إرادة عالم الآثار الفرنسي "لويس كارتون" الذي قاد أهمّ الحفريات الأركيولوجية في قرطاج ودقة نهايات القرن التاسع عشر واعترضته صعوبات عديدة ذكرها فيما بعد في مذكراته وتتلخص في عدم تعاون السلطات الاستعمارية بالشكل المطلوب والمضايقات التي تعرض لها من قبل التونسيين الذين رفضوا إخلاء المواقع الأثرية لأنهم كانوا يستغلونها ويقيمون فيها وخاصة موقع دقة الذي كان مليئًا بالأكواخ في ذلك الزمن. فابتكر طريقة العروض الموسيقية والمسرحية حماية لتلك المعالم والمواقع الأثرية الهامة فنظّم أول عرض فني بمسرح دقة الأثري سنة 1920.
لم تكن المسألة هيّنة وسهلة بالنسبة لكارتون فترسيخ هذه العادات الثقافية في مجتمع لا يملك سيادته على أرضه ويعاني هشاشة اقتصادية اجتماعية هو نوع من المغامرة والتحدي الشخصي، لكنه كان حلًا مبتكرًا ناجحًا.
خلال صائفة سنة 1964 كان الحدث الثقافي الأبرز هو الدورة الأولى لمهرجان قرطاج التي افتتحت بعرض مسرحي تونسي أنجزته خصيصًا الفرقة البلدية للتمثيل عنوانه "مدرسة النساء"
هذا الحل المبتكر تم تطويره فيما بعد والاشتغال عليه لتنبع فكرة "مهرجان قرطاج الصيفي" بداية ستّينيات القرن العشرين مع النخبة الثقافية والسياسيّة التونسية التي كان أمامها إبّان تركيز أعمدة دولة الاستقلال العديد من التحديات لعل أهمها الدفاع عن الثقافة التونسية الصرفة بحثًا عن وجه يميّزنا بين ثقافات العالم. وبهذا الخصوص يروي الأستاذ الشاذلي القليبي، الذي كان وزيرًا للشؤون الثقافية في تلك الفترة، – في إحدى حوارته الصحفية - أن المهمّة كانت صعبة ومعقّدة أمامه لأن الاستعمار طبع المجتمع التونسي بثقافته ومن الصعب التخلص من ذلك في وقت وجيز، كما أنه لم يكن يشجع على الفنون والآداب التونسية لذلك وجدت تونس عدة إكراهات جعلتها تتأخر بعض الشيء في الالتفات إلى بعض الاختصاصات الفنية أو بعض المشاريع الثقافية المستقبلية والتي منها تركيز شبكة المهرجانات الصيفية.
انفتاح مهرجان قرطاج على ثقافات العالم كان منذ البدايات
خلال صائفة سنة 1964 كان الحدث الثقافي الأبرز هو الدورة الأولى لمهرجان قرطاج التي افتتحت بعرض مسرحي تونسي أنجزته خصيصًا الفرقة البلدية للتمثيل، عنوانه "مدرسة النساء" عن نصّ للكاتب المسرحي الفرنسي "موليار" قام باقتباسه محمد الزرقاطي. وقد حضر هذا العرض جمهور كثيف جاوز الخمسة آلاف مشاهد لتكون بذلك انطلاقة أحد أهم المهرجانات العربية والمتوسطية.
وتنزّل ذلك في إطار استراتيجيا ثقافية وطنية تقوم على مبدأين اثنين وهما انفتاح تونس على ثقافات العالم والتواصل معها لما فيه من تعريف لهذا البلد المستقل حديثًا والذي يوفر مناخات استثمار جيّدة، ومن جهة ثانية التأصيل لفعل ترفيهي صيفي الأولوية فيه لفنانين تونسيين تأصيلًا للإبداع التونسي سواء أكان موسيقى أو مسرحًا أو رقصًا أو سينما أو غناء.
مسرح قرطاج الذي بناه الرّومان بعد حرقهم لمدينة قرطاج، يتموقع في خاصرة هضبة تطل على قصور حنبعل المهزوم لتوه في حرب ضروس مع روما وتشرف على البحر الأبيض المتوسط الذي يصل صدى موجه العاتي أحيانًا إلى فضاء المسرح. أصبح من أشهر المسارح في العالم بفضل مهرجان قرطاج الدولي الذي ينعقد صيفًا وتشرف عليه الدولة التونسية رأسًا ممثلة في وزارة الشؤون الثقافية التي خصته بإدارة تعمل على مدار العام وهو مهرجان ثقافي غير ربحي تنامت ميزانيته عبر السنوات وهي محل نقاش في السنوات التي تلت الثورة التونسية على اعتبار أنه ثمة أولويات تنموية في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي يعيشها الشعب التونسي.
هذا المسرح المجيد ولأكثر من نصف قرن من الزمن استقبل على ركحه التاريخي فنانين كبار ونجوم طرب يمثلون ثقافات عريقة. وفي هذا الخصوص استمعت للمدير التاريخي للمهرجان المرحوم حسن بوزريبة في مجلس ثقافي صباحي بمقهى فلورنسا بشارع قرطاج بالعاصمة تونس يقول "نحن نوزع المساحات في المهرجان بوعي ثقافي بعيدًا عن الحساسيات السياسية والإيديولوجية، إنها صورة تونس المنفتحة والمعتدلة التي ننحتها منذ الاستقلال". وأضاف أن الركح يعتليه أصحاب الأرصدة الفنية الثقيلة "لأننا بذلك نضيف لتاريخية الركح الروماني".
لا تخلو دورة لمهرجان قرطاج من الحضور العربي فأغلب الأصوات الذهبية مرّت من مسرح قرطاج
الموسيقى والغناء التونسي قلب رحى كل الدورات
وتقريبًا اعتلت ركح مسرح قرطاج أهم الأسماء التونسية غناء ومسرحًا ورقصًا. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لا يمكن البتة أن يغيب رضا القلعي عن الركح العريق. الجمهور يطلب بإلحاح "هز جوابين لجربة" و"زرزيس وبناويتا" معزوفات تتطاير من كمنجة خيوطها تخرج من قلب الفنان. "علية" العائدة لتوها من الشرق يصدح صوتها القوي بأغنية "علّي جرى من مراسيلك" ليصل إلى حدود القصر الرئاسي الذي لا يبعد سوى أمتار عن المسرح، حتى أن بعضهم يروي أن "الماجدة وسيلة بورقيبة" هزها الصوت الشجي فحضرت لتتم السهرة بين جماهير المهرجان.
الهادي الجويني عبقري الأغنية التونسية، مازال صدى صوته الرخيم يتردد في جنبات المسرح العظيم " تحت الياسمينة في الليل" و"اللي تعدّى وفات زعمة يرجع" ودور العتاب الذي كتب كلماته علي الدوعاجي. محمد الجموسي الفنان المتعدد وقف على ركح المسرح الروماني بقرطاج وغنى "وينك يا غالي" و"ريحة البلاد" و"تمشي بالسلامة" و"النساء الله يعيش النساء".
قاسم كافي وأحمد حمزة ونعمة وسلاف وزهيرة سالم وشبيلة راشد وعدنان الشواشي وذكرى محمد و لطفي بوشناق ولطيفة العرفاوي وصوفية صادق ونجاة عطية وعبد الوهاب الحناشي وصلاح مصباح وشكري بوزيان وزياد غرسة... كلها أسماء لمعت تحت سماء المهرجان فالمادة الفنية التونسية هي قلب رحى كل الدورات فالفن التونسي ركيزة أساسية في كل البرمجات.
كل نجوم الغناء والطرب العربي مرّت من قرطاج
لا تخلو دورة من الحضور العربي فأغلب الأصوات الذهبية مرّت من قرطاج. الفنانة اللبنانية "لوردكاش" إلى آخر يوم في حياتها وهي تتحدث عن سهرتها القرطاجنية، "وردة الجزائرية " حضر حفلتها بقرطاج آلاف الجزائريين الذين جاؤوا خصيصًا وشهد المسرح ليلتها زحمة استثنائية.
الفنانة المصرية نجاة الصغيرة أعادها مهرجان قرطاج للغناء بعد اعتزال السنوات. نعيمة سميح المغربية ذاك الصوت الجريح لم يتركها الجمهور تغني من فرط حفظه لأغانيها. وديع الصافي الصوت الذي يلخص كامل لبنان غنّى أكثر من مرة في قرطاج، سيد مكاوي وصباح فخري وسعاد محمد وملحم بركات ورياض السنباطي وعبد الهادي بالخياط ووليد توفيق و إيدير والشاب خالد وراغب علامة.
مهرجان قرطاج الصيفي يطمح إلى المأسسة وإدارة شأنه بنفسه بعيدًا عن بيروقراطية وزارة الشؤون الثقافية
مهرجان قرطاج الدولي والانفتاح على موسيقات العالم
أما الموسيقات القادمة من القارات الخمس فهي تقريبًا حلّت على الركح العتيق ممثلة لكل ثقافات العالم، شارل أزنفور وخوليو إقليزياس وإيرس رامازوتي ولارا فابيان، إنها سهرات الرومانسية الخالدة التي علقت بتاريخ المهرجان.
ماريام ماكيبا وإسماعيل لو وموري كونتي وألفا بلندي ويوسو أندور، أصوات إفريقيا التي لا تغيب شمسها عن المهرجان. جيمس براون وري تشارلز وباتريسيا كاس وبافاروتي وجوكوكر وويلي وليامز، أيقونات البلوز والروك و الجاز في العالم، كان مرورها عابقًا في ذاكرة المهرجان. هذا فضلًا عن عروض خالدة لفرق مسرحية وموسيقية وكرنفالية وباليهات وفنون الرقص بأنواعها وعروض سينمائية.
صيانة تاريخ المهرجان تقتضي عدم التسرع والارتجال في برمجات السنوات القادمة
إن مهرجان قرطاج الصيفي راكم السنوات وراكم التجربة واتسعت بذلك حدائق الذاكرة وهو ما جعل المسؤولية جسيمة أمام إدارات السنوات الأخيرة وربما أجسم أمام إدارات المهرجان القادمة، فتاريخ المهرجان والأسماء التي مرّت تحت سمائه الذهبية لا تسمح بأي نوع من الرداءة تحت أي مسمّى أو عنوان، فلا مجال للارتجال والتسرّع، كما أن هذا الركح المجيد وفي إطار صيانة ذاكرته لا بد من تركيز متحف صغير في الجوار يروي السهرات الخالدة.
مهرجان قرطاج الصيفي يطمح إلى المأسسة وإدارة شأنه بنفسه بعيدًا عن بيروقراطية وزارة الشؤون الثقافية دون الانفصال عنها لأنه واجهة ثقافية أساسية لبلد يراهن على الثقافة الحرة كما يراهن على التربية والتعليم والصحة والتنمية للجميع.
اقرأ/ي أيضًا:
"أيام قرطاج".. نحو ابتذال التسمية
ميشال بوجناح.. صهيوني على عتبات مهرجان قرطاج واستنكار متصاعد