19-أبريل-2021

"إذا ما رمنا معالجة أزمة التسرّب المدرسي، فلا بد من انطلاق حوار مجتمعي تشاركي متأنٍّ وعلمي" (صورة توضيحية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

مقال رأي

 

تعدّ ظاهرة التسرّب المدرسي في تونس من المخاطر التي طالت عمق المجتمع وتسللّت إلى مخزونه الاستراتيجي ألا وهو الأجيال القادمة، فالمدرسة التونسية أو "خزّان أحلام الأجيال"  تستنزفها ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة في صمت لأكثر من عقدين من الزمن. وقد تفاقمت في السنوات الأخيرة إلى حدّ مخيف، خاصّة إذا ما تأمّلنا مؤشرات وزارة التربية التي تقدّم معدلًا ترتعد له الفرائص وهو "تسرّب 100 ألف تلميذ دون سنّ الـ18 عامًا سنويًا".

هذا المعطى الإحصائي الخطير يبسط على عواهنه للعموم دونما تفسيرات أو تشخيص علمي عميق ودقيق لظاهرة الانقطاع قبل إتمام المستوى الدراسي ودون أن تتلقفه الجامعات بالبحث والدراسة والتدقيق والتمحيص والتيقّن ودون أن تناقشه الأحزاب بواسطة خبرائها وتبحث له عن الحلول البديلة.

سنويًا آلاف التلاميذ يغادرون دفء المدرسة نحو عراء الحياة الواسع فيواجهون شراستها ببراءة سرعان ما تنتهك لتزول إلى الأبد

سنويًا، آلاف التلاميذ يغادرون دفء المدرسة نحو عراء الحياة الواسع فيواجهون شراستها ببراءة سرعان ما تنتهك لتزول إلى الأبد من فرط تتالي السياط وقسوتها.

إنّ هؤلاء المتسرّبين يضاعفون المخاطر المحدقة بالمجتمع وهو ما يتسبّب أيضًا في نشوء ظواهر مستجّدة قد تزيد من الأمر سوءًا وتعقيدًا كانتحار الأطفال وتشغيل القصّر والتوظيف والاستغلال الجنسي والاستقطاب نحو الجريمة والتسول والتدريب على العنف...

وبالعودة إلى دستور التربية في تونس أو ما يعرف بالقانون التوجيهي لسنة 2002 وهو آخر إصلاح تربوي حصل في تونس، نجد أن التلميذ هو محور العملية التربوية إلى حدود سن الـ17 عامًا، إذ توفر له الدولة كل ظروف التأهيل والنّهوض بالمستوى المعرفي والمرافقة والإحاطة وتقديم كل الخدمات التعليمية... وإذا ما نظرنا إلى المؤشرات والأرقام المخيفة للتسرّب المدرسي ندرك، بما لا يدع مجالًا للشك، أن ما جاء في القانون التوجيهي يبقى مجرّد كلام لا غير، وأن الدولة مستقيلة وغير ملتزمة بهذا الدستور التربوي بل هي تجانبه وتترك التلميذ المنقطع في العراء وبلا حماية نحو المجهول، ولم تذهب وزارة التربية إلى جملة من الإصلاحات الضرورية والهيكلية تخرج بواسطتها المدرسة من العتمة التي تتخبط فيها منذ سنوات وتولى الأجيال حقها في الحلم والحياة.

اقرأ/ي أيضًا: مدرّسات واجهن كورونا بمفردهن.. عندما تختلط مشاعر اليأس والتنكّر والخذلان

وكل ما استطاعته وزارة التربية في الآونة الأخيرة هو الذهاب إلى إصلاح أقل ما يقال عنه إنه ترقيعي فيما يتعلّق بالتلاميذ المتسرّبين وذلك بتنفيذها ما يعرف بمشروع مدرسة"الفرصة الثانية" الذي عرف مرحلته الأولى سنة 2018 والتي حملت عنوان "المدرسة تستعيد أبناءها".

كل ما استطاعته وزارة التربية لمعالجة تنامي ظاهرة الانقطاع عن الدراسة هو الذهاب إلى إصلاح أقل ما يقال عنه إنه ترقيعي بتنفيذها ما يعرف بمشروع "مدرسة الفرصة الثانية"

وحسب إحصائيات وزارة التربية فقد استفاد من تلك المرحلة الأولى حوالى 11 ألف تلميذ من جملة مليون تلميذًا انقطعوا عن الدراسة خلال العشر سنوات الأخيرة وهو رقم ضئيل جدًا ولا يفي بالحاجة، علمًا وأن المسعفين بالعودة ضمن "المدرسة تستعيد أبناءها" لم تتم متابعتهم ومواصلة تأهيلهم وتقديم التقارير بشأن مسارهم التربوي الجديد.

أما الجزء الثاني من المشروع، فيتمثل في بعث مدارس الفرصة الثانية بكل من تونس العاصمة (باب الخضراء) خلال السنة الدراسية الجارية وقابس خلال السنة الدراسية القادمة.

وقد صدر بالرائد الرسمي التونسي يوم 19 جانفي/يناير 2021 الأمر الحكومي عدد 57 لسنة 2021 المتعلق بإحداث "مدرسة الفرصة الثانية" وبضبط تنظيمها الإداري والمالي وطرق تسييرها ومهامها. وقد وضح هذا الأمر أن المدرسة المحدثة ستستقطب حوالي ألف تلميذًا من جملة 30 ألف تلميذ منقطع تتوفر فيهم شروط الالتحاق وحسب الفصل الثالث من هذا الأمر فإن "مدرسة الفرصة الثانية" ستقوم بالتنسيق مع المندوبيات الجهوية للتربية قصد استقبال التلاميذ المنقطعين ومن ثمة توجيههم وتأهيلهم ومرافقتهم وإعدادهم للاندماج في سوق الشغل والإعداد للالتحاق بالحياة النشيطة. وستتراوح فترة التأهيل والتكوين بين شهر وتسعة أشهر وذلك بالرجوع إلى بروفايلات المنقطعين.     

مشروع مدرسة "الفرصة الثانية" الذي تقوده بالأساس وزارة التربية هو قالب جاهز ومستورد من مخابر بلدان أوروبية تسعى لترى النتائج المخبرية على مجتمعات غير مجتمعاتها

 إن مشروع مدرسة "الفرصة الثانية" الذي تقوده بالأساس وزارة التربية إلى جانب عدة وزارات أخرى مثل وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة المرأة والأسرة والمسنين والذي تدعمه "اليونيسيف" (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) وتبذل من أجله ملايين "الباوندات" من سفارة المملكة المتحدة بتونس هو قالب جاهز ومستورد من مخابر بلدان أوروبية تسعى لترى النتائج المخبرية على مجتمعات غير مجتمعاتها.

اقرأ/ي أيضًا: "الدولة لا تبالي".. محيط مدارس تونسية يتحوّل إلى أسواق

إنه مشروع هجين لم تنبته أرضنا وليس أصيلًا، إنه في النهاية محاولة يائسة لرأب شرخ كبير حصل في المنظومة التربوية التونسية وهو الانقطاع عن الدراسة قبل سن 18 سنة، هذه المنظومة التي شاخت واهترأت وخضعت للشدّ السياسي والنقابي طيلة السنوات الأخيرة مما أفقدها توازنها وعطّل دواليبها ودفع بها إلى العرج.

وإذا ما رمنا معالجة أزمة التسرّب المدرسي أو الفشل المدرسي أو عطالة النشاط الثقافي والرياضي بالمؤسسات التربوية أو مراجعة التوجيه المدرسي أو تغيير البرامج وإدماج المواد ومراجعة الضوارب، وغيرها من الملفات والمواضيع التربوية الآنيّة والحارقة، فإنه لا بد من انطلاق حوار مجتمعي تشاركي متأنٍّ وعلمي وتكون مخرجاته متطابقة مع أحلام الشباب ومتطلّبات المجتمع لأن الإصلاحات المسقطة لا تزيد الأمر إلا سوءًا.     

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

حينما يكشف فيروس "كورونا" هنات المنظومة التربوية في تونس

المتحصلة على جائزة أفضل معلمة في العالم: انتهى عهد الطباشير والورقة (حوار)