04-فبراير-2017

تظاهرات ضد التحرش الجنسي في مصر (صورة أرشيفية/أحمد إسماعيل/الأناضول)

رغم أن التحرّش الجنسي هو من أكثر الجرائم ارتكابًا في الواقع اليومي، فإنه غالبًا ما يفلت المتحرّش من التتبع القضائي والعقاب في تونس. حيث لا يزال يجهل عديد الضحايا تجريم القانون للتحرّش الجنسي. وعلى فرض بلوغ علمهم، فإن غالبيتهم يخيّرون عدم التتبّع، فالذهاب لمركز شرطة ومتابعة الشكاية وبعدها الذهاب للمحاكم هو ممّا لا يشجع الضحيّة عمومًا على عدم المبادرة، كما يكيّف العديد منهم، أساسًا، هذه الجريمة بأنها "متداولة" و"مسكوت عنها" فلا موجب بذلك للتشكّي، خاصة في ظلّ محيط اجتماعي منفّر.

ينتشر التحرّش الجنسي في الشارع وفي وسائل النقل، ولكنّ الصّورة الأكثر خطورة تتعلّق بالتحرّش في فضاء الدراسة والعمل

ينتشر التحرّش الجنسي في الشارع وفي وسائل النقل، ولكنّ الصّورة الأكثر خطورة تتعلّق بالتحرّش في فضاء الدراسة والعمل، حينما يكون المتحرّش متمتعًا بنفوذ وسلطة معنوية على الضحيّة. وهذه الصّورة تأخذ في الغالب شكل ابتزاز، لتنتقل في مرحلة لاحقة لشكل رشوة جنسية خاصّة في الفضاء الجامعي، ولتتحوّل تباعًا الضحية إلى شريكة حينما تصبح بفضل خدماتها الجنسية محظية على حساب زميلاتها. وربّما قد سمعنا ولو لمرّة واحدة في المعهد الثانوي أو الجامعة عن أستاذ معلوم بتحرّشه بطلبته. ولذلك غالبًا ما يختار المتحرّش ضحية تكون في مستوى اجتماعي ومادّي أدنى منه، أو يتمتع بنفوذ عليها.

اقرأ/ي أيضًا: التحرش.. وسواس مدارس مصر

يجرّم القانون التونسي التحرّش الجنسي، ويجعل تعريفه واسعًا بأنه "كل إمعان في مضايقة الغير بتكرار أفعال أو أقوال أو إشارات من شأنها أن تنال من كرامته أو تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية أو بممارسة ضغوط عليه من شأنها إضعاف إرادته على التصدي لتلك الرغبات". كما يُعاقب على الجريمة بالسجن لمدة سنة وتضاعف العقوبة إن كانت الضحية طفلًا أو شخصًا يعاني من قصور ذهني أو جسدي".

غير أن التتبّع القانوني يظلّ بمبادرة من الضحية دون غيرها، حيث لا يجري التتبّع إلا بناء على شكاية منها، وذلك على غرار الزّنا. وشرط التشكّي يجد تأسيسه بصعوبة مبادرة النيابة العمومية التصدّي لجريمة التحرّش في غياب ضحيّة تعبّر عن ضررها وتشتكي، إضافة لصعوبة إثبات الجريمة على المتحرّش في غياب تدعيم من الضحيّة ذاتها.

بيد أنه قد تنقلب الصورة على الضحية في صورة الفشل في إثبات الجريمة، وهو ما يجعلها مرتكبة لجريمة الادعاء بالباطل حيث يمكن للمشتكى به قلب الاتهام بل والمطالبة بالتعويض. ويهدف هذا الخيار التشريعي لعدم إطلاق اليد لادّعاء الشاكي بحدوث الجريمة بصفة تعسّفية، حيث قد يستغلّ حقه في التتبع للانتقام من المشتكى به وتشويه صورته. وقد يكون المشتبه بتحرشّه هو في الواقع ضحيّة لعملية ابتزاز مّمن تدّعي أنها ضحيّة.

وهذا الخيار بجعل جريمة التحرش الجنسي بحدّين ورغم وجاهة النظرية جزئيًا فإنه يمثّل عائقًا تطبيقيًا إضافيًا للعديد من الشّاكيات لطلب التتبع لصعوبة إثبات الجريمة، خاصة وأنها عادة ما تتمّ في غرفة مغلقة في فضاء الدراسة أو العمل. وذلك بالإضافة إلى أنه غالبًا ما يكون المتحرّش هو الأستاذ أو المدير وهو ما يجعل عمومًا الضحية تخيّر التغاضي عن التصرّفات وعدم القيام بالتتبع خوفًا من التهديدات أو حفاظًا على موقعها.

اقرأ/ي أيضًا: المطلقات في الجزائر.. حقوق مهدورة وتحرش جنسي

وإن كان غالبًا المتحرش ذكرًا والضحية أنثى، فقد ينقلب طرفا الجريمة. يتساءل البعض هنا هل يمكن لرجل أن يذهب لمركز شرطة ليقدم شكاية بجارته التي تتحرّش به؟ نظريًا يمكن، ولكنه يعلم أن أعوان الأمن قد يسخرون منه، وربما يلومونه على "تفويته للعرض المغري الذي تلقاه"! وبالتالي فإن هذه الشكاوي في المجتمع التونسي تكاد أن تكون مختفية.

صورة التحرّش داخل العائلة هي أكثر الصور المغبونة حيث لا تتجرأ الفتاة حتى لإعلام صديقتها المقرّبة بتحرّش الأخ أو الأب بها

وعمومًا، إن كان التحرّش الجنسي من أكثر الجرائم المسكوت عنها، فلعلّ صورة التحرّش داخل العائلة هي أكثر الصور المغبونة حيث لا تتجرأ الفتاة حتى لإعلام صديقتها المقرّبة بتحرّش الأخ أو الأب بها. مؤخرًا، تناول برنامج اجتماعي في تونس قضية التحرّش الجنسي، وقدّم شهادة لتعرّض فتاة للتحرّش من والدها، وقد قامت صحبة والدتها بمقاضاته وتم سجنه لمدّة سنتين. ربما تعتبر هذه الشهادة مثالية من زاوية مبادرة الضحية للتصدّي للجريمة وعدم رضوخها ومقاضاة الأب ومكافحته في المحكمة وثبوت إدانته وسجنه.

بيد أن المسار القضائي لهذه الجريمة لا يخفي صعوبة تكييف المحيط المجتمع معها، حيث تحدثت الفتاة عن نهر والدتها لها لاحقًا، وعن معاناتها من المحيط الاجتماعي حيث يُنظر إليها بأنها الجانية وبأنها ادّعت كذبًا على والدها الذي لم ينفك عن تشويه صورتها بعد خروجه من السّجن. ربّما تؤكد للأسف هذه الشهادة بأن المجتمع لا يزال يمثل بذاته عقوبة على ضحية التحرّش الجنسي، وقطعًا هذه العقوبة، الوصم بالعار والإقصاء، هي أشد من عقوبة السجن للجاني.

ومن المنتظر أن يلحق جريمة التحرّش الجنسي في القانون التونسي تعديلات يناقشها البرلمان حاليًا. وتتمثّل هذه التعديلات في مضاعفة العقوبة السجنية من سنة إلى سنتين، وبأن ترتفع لأربع سنوات إذا كان الفاعل من عائلة الضحية أو صاحب نفوذ وسلطة عليها. ولعلّ التعديل الأهم والمشّجع على التتبع القضائي هو انطلاق احتساب آجال انقضاء الجريمة منذ تاريخ بلوغ الضحية سنّ الرّشد، وليس منذ تاريخ وقوع الفعل.

هذه التعديلات قد تشجّع على إخراج جريمة التحرّش الجنسي من دائرة السكوت، ولكّنها تظلّ غير كافية، فالقانون بذاته يكون أحيانًا قاصرًا على بلوغ أهدافه، في ظلّ مجتمع، ورغم انفتاحه والمكانة المتميّزة فيه للمرأة مقارنة بمجتمعات عربية أخرى، فإنه يخفي تحفظًا أخلاقويًا في تناول الجرائم ذات الطبيعة الجنسية عمومًا.

تسعى الجمعيات المدنية ومراكز الإحاطة لتوفير تأطير نفسي وقانوني للضحايا ولكنها لا تزال غير قادرة على استيعاب ضحايا هذه الجريمة. فلو يتم فتح خدمة إلكترونية مجانية يُطلب فيها من الضحايا الإعلام بتعرّضهم للتحرش دون كشف أسمائهم، بغاية الإحصاء لا التتبع، ربما قد يكون عدد الضحايا مهولًا بشكل يجب ألا نتفاجأ به.

بالنهاية هي معركة تحسيس وتوعية، من المهمّ أن تعي الضحية حقّها في التتبع لتحفظ كرامتها وحرمتها الجسدية، ولكن من المهمّ كذلك أن يعي المجتمع على الأقل بأن المتضرّرة هي ضحيّة وبأن المتحرّش هو مجرم.

اقرأ/ي أيضًا:

شبكة "شي موريس": الاتجار بالنساء في لبنان الفاسد

تزويج قاصر من "مغتصبها" يفتح جدلًا في تونس