يغمض عينيه ليستدل بقلبه على السبيل إلى العناق بين أصابعه وعُقل الناي أو الكَوَلَة، يسكن إلى فتحة بحجم كون ينفخ فيها من أنفاسه فتتماهى روحه مع الروح الساكنة بين ثنايا الخشب. تتعانق الأصابع والعُقَل وتتسلل همسات الإنسان من بين ثقب الآلتين الموسيقيتين وتخترق حس الوجود، فتملأ الألحان الفراغات والتجاويف، وبين العناق والعناق تعبر نفحات الوجود من ذات الثقب وتلامس الإنسان وتخلق موسيقى أعمق من المناجاة.

ليس من الهين وصف ذلك الرباط المقدّس الذي يجمع بين محمّد بن صالحة بآلتي الناي و"الكولة"

حالة وصل بين فنان وآلته الموسيقية يعكسها خشوع مرتسم على محياه ويترجمها سكون صارخ يرافق حركات أنامله وهي تداعب شفاهها، ربّما هذا هو مردّ تلك الهالة الروحية التي لا تخلو منها موسيقى العازف محمّد بن صالحة.

ليس من الهين وصف ذلك الرباط المقدّس الذي يجمع بين محمّد بن صالحة بآلتي الناي والكولة حتّى أنّك حينما تستمع إلى عزفه لن تميّز بين حكاياته وأنين الناي وشجى الكولة الأبديين، وقد يبدو لك الأمر معقّدًا جدًّا لكنه أيضًا ساحر جدًّا، ساحر حدّ الصمت في حضرته.

حكايته مع الكَوَلة ليست في معزل عن حكايته مع الناي، بل أنّ الحديث عنهما معًا سيخلق في كل مرّة معاني جديدة لمسيرة عازف شاب صنع لنفسه بوصلة لا اتجاهات فيه إلا هو وموسيقى تشبهه، وهو الذي ولع بالعزف على آية الناي في سن الثالثة عشر، وفق حديثه لـ"ألترا تونس".

اقرأ/ي أيضًا: "تراتيل" العشق.. رحلة "إسرافيل" في عوالم "الديدجيريدو"

وإن وافت المنية رضا بن سعيد أستاذه بنادي الموسيقى بمنطقة تازركة التابعة لولاية نابل، فإنّه لم ينس أنّه كان نافذته الأولى على الموسيقى عمومًا والناي خصوصًا، قبل أن يشارك في نادي الموسيقى في دار الثقافة بالمنطقة. كلما مرّت سنة لتحل محلّها أخرى، يزداد شغف محمد بن صالحة بالموسيقى، ومع انتقاله للدراسة بالمعهد الثانوي بنابل تردّد على "الكونسرفاتوار" حيث تلقّى دروسًا موسيقية مسائية لكنّ الأمر لم يستغرق سوى شهر لغياب وسيلة نقل من نابل إلى تازركة.

ظل الناي خليل محمّد بن صالحة الذي يبث فيه حكاياته وبحصوله على شهادة الباكالوريا كانت دراسة الموسيقى اختياره وكان أن درّسه الأستاذان نبيل عبد مولاه وهشام البدراني عزف الناي، وهو اليوم متحصّل على الإجازة والماجستير في الموسيقى وشهادة في عزف الناي، وفق حديثه.

وعن اصطفائه للناي آلة موسيقية وسمت مساره المهني، يهب الآلة روحًا وشخصية ويشير إلى أنه ربّما يكون جزءًا من هذه الشخصية وليس العكس وأنّه إن لم يوجد الناي لما كان موسيقيًا.

محمد بن صالحة لـ"الترا تونس": الكولة التي تبدو شبيهة بالناي لكن الاختلاف بينهما جذري، ومنذ ذلك الحين اقتنى الآلة وصارت جزءًا من عالمه

أما عن الخطوة الأولى في دروب الكَوَلة، يقول إنه وبالتوازي مع تعلّم العزف على آلة الناي وجد تسجيلًا يشبه فيه الصوت الموسيقي صوت الناي وهو ليس بناي ولكنّه ينطوي على شيء مميز، ولما حاول تقليد الصوت لم يفلح حتّى أن الأمر بدا مستحيلًا، وفق تعبيره.

بعد بحث وسؤال، عرف أن الآلة ليست إلا الكولة التي تبدو شبيهة بالناي لكن الاختلاف بينهما جذري، ومنذ ذلك الحين اقتنى الآلة وصارت جزءًا من عالمه، وكان العازف حسين ميلود أوّل العازفين الذين استمع إليهم وهو يعتبره قدوة.

في بداياته، كان حسين ميلود معينًا وناصحًا وموجّها ومدرّسًا لقّنه شفاهيًا وكتابيًا طريقة العزف على الكولة، هذه الآلة الموسيقية المصرية الشعبية التي برزت في تونس في الثمانينات، وهي لا تدرّس أكاديميًا في تونس رغم أن ميلود طوّر منهجًا لتدريسها، حسب قوله.

اقرأ/ي أيضًا: كنوز ورقية.. عن حكايات "كتب الفريب" القادمة من وراء البحار

وعن الاختلاف بين آلتي الناي والكولة، يشير محمّد بن صالحة إلى أن الأمر يتعلّق بالشكل وبطريقة النفخ إذ أن الناي يتكون من ثمان عقل وست ثقوب أمامية وثقب خلفي فيما تتكون الكولة من أربع عقل وست ثقوب أمامية فحسب.

وإن كانت طريقة العزف على الآلتين متشابهة من حيث التحامها بالشفتين فإن طريقة استخدام الأصابع تختلف بينهما، ناهيك عن اختلاف الثقافات التي خُلقتا فيها ولعل اللافت للانتباه أن أغلب الآلات النفخية الشعبية على غرار الدودوك والفلوت والجوقة والشبابة والناي والقصبة تكاد طريقة وضع الأصابع في العزف عليها تكون متشابهة لكنّ الأمر مختلف بالنسبة للكولة، وفق تعبيره.

محمد بن صالحة لـ"ألترا تونس": كل آلة تريحني في موضع ما وخاصية ما مع مراعاة أن الأمر يتعلّق أيضًا بالذائقة الموسيقية

فيما يتعلّق بتسمية الآلة يوزّع المحبّة بينها وبين الناي، يقول محمّد بن صالحة إنها تحمل بين طياتها بعدًا روحيًا صوفيًا ذلك أنه في الصعيد المصري كلمة " قول" مع تفخيم القاف هي طلب العزف ومنها جاءت تسمية قولة التي أصبحت "أولة" في القاهرة ومن ثم صارت كولة.

وعن أقرب الآلتين إليه، يتحدّث بن صالحة بحس أب لا يميز بين طفليه إذ يبيّن أن الأمر في اعتقاده يرتبط بخصوصيات الآلات ومجالات توظيفها بناء على الثقافة القادمة منها، مشيرًا إلى أن كل آلة تريحه في موضع ما وخاصية ما مع مراعاة أن الأمر يتعلّق أيضًا بالذائقة الموسيقية، وفق قوله.

عزف محمد بن صالحة لأغنية فيروز "أعطني الناي"

"بعض المقامات لا يمكن عزفها بالكولة التي تضمّ سجلًا موسيقيًا واحدًا هو البياتي على خلاف الناي الذي يضم البياتي والراست، وفي الأخير أرى في الآلتين حياتي"، هكذا يختزل محمد بن صالحة رؤية عازف لرفيقيه.

وفي مساره المهني الذي انطلق منذ سنة أحد عشرة وألفين مع أستاذيه زهير بالهاني وفوزي الشكيلي، يعزف محدّثنا في عروض تجارية وأخرى نخبوية راسمًا لنفسه حدودًا للعزف لا ينحدر دونها، ويشارك أيضًا في تسجيل "ألبومات" في تونس وخارجها من بينها ألبوم للفنانة ريم البنا وآخر للفنانة لبنى نعمان بالإضافة إلى ألبوم للفنانة روضة عبد  الله يصدر قريبًا وغيرهم من الفنانين، وفق قوله.

وفيما يخصّ إنتاجاته الخاصة، فإنّ "ستاجيتاريوس" وهي تسمية لاتينية تعني القوس، هو"ألبوم" ألف موسيقاه ووزعها في مزيج بين الكولة والدودوك والغيتار، وهو تعبير عن شخصيته وانفعالاته وتصوره للموسيقى الذي لا يخلو من بعد روحي صوفي يتجلّى في ألحان نابعة من إلهام يحلّ آناء الليل وأطراف النهار، ألحان من ثقافات مختلفة ومتناقضة جمع بينها محمّد بن صالحة.

واليوم، محمد بن صالحة يدرّس الموسيقى في مدرسة إعدادية ينقل فيها حبّه للموسيقى لتلاميذه تماما كما فعلت أستاذته ليليا ناشي ذات زمن، ولكنّ حبّه الأوّل يظلّ للعزف ومن ثم يأتي التدريس فلو لم يهم بالعزف لما كان مدرّسًا، هي رؤية فنان جعل يرى في الموسيقى حيوات مدادها الشغف.

اقرأ/ي أيضًا:

سمر بن عمارة.. العازفة التي أنّثت "الزُكرة"

ألفة حمدي.. رحلة صوت بدوي في عالم السنطور