17-يونيو-2019

محمد البرصاوي هو أول عازف محترف في شمال إفريقيا لآلة "الديدجيريدو"

 

"لا شيء يحدث صدفة" هي الكلمات التي كانت فاتحة حديث العازف محمد البرصاوي عن رحلته في عوالم "الديدجيريدو"، الآلة الموسيقية الأسترالية التي تحمل داخلها سحرًا وأسرارًا ذات أبعاد موسيقة وروحية.

حتى الجنون والعبث والتمرّد، كلّها أشياء مرتّبة وإن بدت في ظاهرها مبعثرة، والمصير والمستقبل ليسا من الصدفة في شيء، وإن كان فتيلهما الأوّل أحيانًا وليد طارئ لا محلّ له في خانات التفكير، كأن يأخذك الشغف بالموسيقى إلى فضاء ينتفي فيه الزمان والمكان، فضاء تمتزج فيه تلوينات الموسيقى بتعبيرات الروح، ويتحرر فيه "إسرافيل" من سطوة الواقع.

محمد البرصاوي الذي يتخذ "إسرافيل" كنية له هو العازف المحترف الوحيد في شمال إفريقيا لآلة "الديدجيريدو" وهي آلة نفخ أسترالية

"إسرافيل" هي الكنية التي أوجدها محمد البرصاوي لنفسه، ذلك أن "النفخ" في "الديدجيريدو" يقترن في ذهنه بنفخ الملك إسرافيل في الصور، هذه التسمية والرباط الوثيق بينه وبين الآلة التي غدت رفيقته منذ ما يزيد عن الست سنوات هي ملامح من قصة عازف يؤمن بأن الموسيقى ليست إيقاعات وأصوات فحسب وإنّما سحر أيضًا.

الثالوث المقدّس

قد تعجز الكلمات أحيانًا عن تفسير العلاقة بين الحبيب والمحبوب، ولكنّ البريق الذي يشعّ من عيني محمد البرصاوي وهو يتحدّث عن علاقته بالموسيقى، وحده كفيل بأن يترجم حبّه لهذا المجال، وهو الذي يقول إنّه منذ طفولته لم يحلم إلا بالحريّة والجمال والفن.

وأنت تستمع إلى الموسيقى التي يخلقها وإلى حضوره الصارخ على الركح، لن يتبادر إلى ذهنك أن هذا العازف عصامي التكوين، ولكنّك حتمًا ستكون أمام آية على قدرة الحب في تحريك الإبداع.

ولأنه يدين بالحرية والفن والجمال، لا تخلو طفولته من التمرّد ومحاولات البحث عن ذاته في العلاقة بين الأصوات والأشياء، ويطرب لكل صوت يصدر من حوله، ينقر على كل ما يعترضه ليحدث إيقاعات وينتشي بفعلها، وربّما يعود الأمر إلى ذلك البيانو المهمل في ركن من منزل جدّته، وكان ملاذه في أوقات كثيرة.

 البريق الذي يشعّ من عيني محمد البرصاوي وهو يتحدّث عن علاقته بالموسيقى وحده كفيل بأن يترجم حبّه لهذا المجال وهو الذي يقول إنّه منذ طفولته لم يحلم إلا بالحريّة والجمال والفن

وفي العاشرة من عمره، كان اتجاهه إلى دار الثقافة بجندوبة حيث تلقّى تكوينًا موسيقيًا على آلة "الدرامز" التي تتيح له إصدار الإيقاعات التي تحاكي روحه الجامحة في تلك الفترة العمرية، قبل أن يتسلّل إليه الملل ويغادر لأنه كان يرغب في تعلم الايقاعات الغربية إلا أن الانطلاقة كانت بالموازين التونسية التي لم يكن يستسيغها حينها، ولكنّها اليوم حاضرة بقوّة في رؤيته الموسيقية، وفق حديثه لـ"ألترا تونس".

اقرأ/ي أيضًا: "ابن الأرض" لمحمد الغربي.. حينما يُبعث الإنسان من رحم الكمنجة

وهو الحر الطليق الذي يبحث عن الأصوات حيثما ذهب، ويسافر بين حفيف أوراق الأشجار وارتطام الموج بالصخر وملامسة الريح للزهور، صارت الموسيقى عشقه وحلمه الذي يرعاه بنفسه ولنفسه، وكانت البداية مع الموسيقى الإلكترونية.

ورغم دراسته الجامعية في تخصص علمي، لم يحد محمد البرصاوي عن الموسيقى وعوالمها، وهو الذي مثّلت حيلولة الإمكانيات المادية دون شرائه لقيثارة حينما كان طفلًا تفصيلًا إيجابيًا في حياته، إذ كانت بداية خوضه لتجربة صناعة الآلة الموسيقية فكان أن صنع قيتارة، وهو  اليوم يصنع "الكاخون" و"القمبري" و"الديدجيريدو" الذي يبيعه خارج تونس.

هو الآن في الثلاثينيات من العمر، ولكنّه مازال ذلك الطفل الذي يؤمن بالثالوث المقدّس أي الحريّة والجمال والفن، وهو ما جعله يبذل تضحيات في سبيل ممارسته للموسيقى التي يحب من ذلك أنّه ابتعد عن مجال تخصّصه ولم يستسلم للعراقيل التي تصادف العازفين في تونس.

وهو حينما يصنع الآلات الموسيقية، يصنعها بمحبّة ويولي الجمالية أهمية تأتي في مرحلة أولى قبل الجانب التجاري لأنها امتداد له، وفق تعبيره.

"إسرافيل" و"الديدجيريدو"

رحلة محمّد البرصاوي في عوالم "الديدجيريدو" انطلقت منذ ما يزيد عن الست سنوات، حينما اكتشف هذه الآلة الموسيقية الاسترالية وهام بها، إلى أن تحصّل في الخامس عشر من أفريل/نيسان 2019 على أوّل بطاقة احتراف لعازف "الديدجيريدو" في تونس.

وهو يبث أنفاسه في الآلة الموسيقية، لا يرفع "إسرافيل،  كما يسمّي نفسه، عينيه عنها ويتماهى معها وكأنهما حبيبان التقيا من بعد هجر، لتتنساب الموسيقى مليئة بالحب والشغف، هذا ما بقي في الذاكرة عن مشاركته في عرض "الكترو بطايحي" الذي افتتح أيّام قرطاج الموسيقية في السنة الماضية.

من عرض افتتاح أيام قرطاج الموسيقية دورة 2018

وحينما يتحدّث "إسرافيل" عن هذه الآلة التي صارت بعضًا منه، يرتسم الفرح في كل تفاصيل وجهه، وتتغير نبرة صوته فكأن به يتحدّث عن إنسان عزيز، كيف لا وهي الآلة التي يقول أنّه أحبّها منذ أن وقعت عينيه عليها وزاد تعلّقها بها في مراحل تعلم العزف عليها، خاصة وأن الموسيقى التي تصدرها عميقة وذات أبعاد روحانية، وفق قوله.

وعن بعض أسرار هذه الآلة، التي تلفت الانتباه وتثير التساؤلات خاصة وأنها في الأصل جذع شجرة، يقول إن أصولها أسترالية، وأنها بداية الحصول عليها كان بفعل تفريغ النمل الأبيض لشجرة "الكينا" حيث يحفر في فروع الأشجار وجذورها، وهو ما يجعل الشجرة أنبوبًا، وتختلف الأساطير بشأنها ولكنها تجتمع عند النفخ في جذع الشجرة وصدور صوت ومنذ ذلك الحين أصبح "الديدجيريدو" وسيلة تواصل مع الآلهة والأسلاف لدى بعض المجتمعات، على حدّ تعبيره.

 "الديدجيريدو" هي آلة أسترالية وبداية الحصول عليها كان بفعل تفريغ النمل الأبيض لشجرة "الكينا" حيث يحفر في فروع الأشجار وجذورها

شاهد/ي أيضًا: عازفة ألتو في الأوركستر التونسي.. في عشق الموسيقى

ومن بين المراحل الفاصلة في تعلّمه للعزف على هذه الآلة التي تُصنّف ضمن مجموعة الآلات النفخية البوقية الشفاهية، هي الدورات التكوينية التي أمنتها له "World-Wide Didgeridoo directory" سواء عن بعد أو من خلال تنقّل عازفين إلى تونس لتعليمه تقنيات العزف عليها وحمل المصاريف على عاتقها.

وعلاقة محمد البرصاوي بهذه الآلة الموسيقية عميقة جدّا إذ يعتبرها ملاذه وجسر عبوره لعديد العراقيل خاصة وأنه عانى من البطالة ولم يجد له مكانًا، ولكن "الديدجيريدو" أوجده ووهبه مستقبلاً فبث فيه في المقابل جزءًا من روحه. وهو يدعو الجميع إلى خوض هذه التجربة خاصة لقدرة هذه الآلة على العلاج النفسي وخلق شعور بالراحة النفسية لدى الإنسان وتعالج من بعض الأمراض المزمنة وتحسن الدورة الدموية، كما حدّثنا.

وفي حديثه عن طريقة العزف على هذه الآلة، لا يفوّت محدّثنا الفرصة للتطرّق إلى ضرورة التمكن من التقنيات الأساسية التي تصدر الاهتزازات الأساسية في الآلة، وإلى ثرائها موسيقيًا وهي التي يمتزج فيها الإيقاع واللحن والهارموني والطابع الصوتي، وإلى تقنية التنفّس الدائري التي لها تأثيرات إيجابية على جسد الإنسان، وإلى معرفة العازف بجسده وبالأجزاء المسؤولة عن إصدار الأصوات المختلفة، مشيرًا إلى أنّه أمضى سنتين ليتمكن من تقنية التنفس الدائري وكسر الحاجز النفسي الذي كان يحول دون ذلك.

محمد البرصاوي: العزف على "الديدجيريدو" يساعد على العلاج النفسي وخلق شعور بالراحة النفسية لدى الإنسان ويعالج من بعض الأمراض المزمنة

والآلة التي تستخدم فيها الشفاه للعزف، تصدر تردّدات خاصة تنتج عنها اهتزازات تخترق جسد العازف وتدخله في حالة من الانتشاء وتمر هذه الذبذبات إلى المستمع وتنقله إلى عالم من السكينة والتأمل، والبرصاوي هو العازف الوحيد في شمال إفريقيا الذي يحترف العزف عليها باستثناء بعض محاولات العزف من أجل الاسترخاء.ك"

بعد تنظيف الخشب وقشره وتلميعه تكون الآلة جاهزة ويتم تزيينها وزخرفتها بنقوش لها دلالات عند القبائل، وحالياً تُصنع من خلال حفر الخشب بعد تقطيعه طولياً، ومن ثمَّ يعاد لصقه من جديد على شكل أنبوب، أو يمكن صناعتها من المواد البلاستيكية و"الفيبر" بعد صبّها في قوالب خاصة.

يجيد محمد البرصاوي العزف على العديد من الآلات الموسيقية

ولأن ارتباطه بهذه الآلة وثيق، يصنعها البرصاوي بالطريقة التقليدية وذلك من خلال اقتلاع شجرة "الأغاف" الموجودة في تونس من جذورها، وذلك بعد انتهاء دورتها الحياتية، ومن ثم تفريغها من الداخل على اعتبار أنها لينة، ومن ثم ينظّفها ويغلقها من الأسفل والأعلى، ومن ثم يتركها تجف لمدّة ستة أو سبعة أشهر وذلك بعد حمايتها من الشمس باستعمال غطاء.

والصناعة التقليدية لآلة "الديدجيريدو" تستغرق وقتًا طويلًا قد يصل إلى الشهر في مرحلة أخرى تلي التجفيف، إذ ينطلق الأمر بإحداث ثقب في كامل الجذع سمكه ثلاثة صمنتمترات على أقصى تقدير ليقوم بحرقه من الداخل دون أن يتضرر خارجه، ومن ثم يسكب فيه زيت "الكتّان" ليتشربه الخشب، ويستعمل مادة تجعل ملمسه أملس تمامًا كالزجاج لتسهل عملية تنظيفه فيما بعد.

وخصوصية هذه الصناعة تكمن في ذلك المجهود الذي يبذله محمّد البرصاوي والذي يترجمه العرق الذي يتصبّب منه وهو يقتلع شجرة الأغاف "الميّتة" والخدوش التي تطال يديه طيلة مرحلة "خلق" هذه الآلة التي لا تخلو من سحر.

"تراتيل" العشق

وإلى جانب "الديدجيريدو"، يجيد محمد البرصاوي العزف على آلات أخرى على غرار آلة "جوهارب" وهي آلة معدنية تشبه الهارمونيكا أصولها نيبالية، إضافة للعزف على الآلات الإيقاعية والغيتار و"القمبري"، وهو ما أتاح له خلق موسيقى متناسقة من رحم هذه الآلات مجتمعة في ألبوم منفرد بعنوان "تراتيل".

و"تراتيل" موسيقى صوفية روحية وحديثة نابعة من التلوينات الموسيقية المختلفة التي تسكن العازف الذي اتسع قلبه لأكثر من آلة موسيقية، مع اختلاف درجات حبّها، وفيها يحضر والجاز والموسيقى الشرقية والسطمبالي، والموسيقى الإفريقية والموسيقى الإثنية.

ولأنه مهووس بالإيقاع، فإن آلات إيقاعية مختلفة تحضر في هذا الألبوم إلى جانب آلة "الجوهارب" و"الديدجيريدو"، في شكل مقاربة سماعية وموسيقية مارقة عن السائد والمألوف، ذلك أنّها وليدة بحث مستمر يهدف إلى إعادة التفكّر في أثر رنين صوت الموسيقى في حياتنا، حسب حديث البرصاوي لـ"ألترا تونس" عن المشروع.

ألبوم "تراتيل" هو موسيقى صوفية روحية حديثة

و"تراتيل" هو نتاج تجارب فنية ووجودية نشأت من الرغبة في التفكير في الموسيقى بشكل مختلف في ظل إسهاماته الفنية سواء على الركح أو في الأستوديو طيلة سنوات، وفيه ربط بين الصوت والهارموني في فضاء مفعم بالروحانية من خلال حضور آلة "الديدجيريدو" التي تعدّ من أقدم الآلات، وفق تعبيره.

يجيد محمد البرصاوي العزف على آلات أخرى على غرار آلة "جوهارب" وهي آلة معدنية تشبه الهارمونيكا إضافة للعزف على الآلات الإيقاعية والغيتار و"القمبري"

وفي الألبوم المنفرد، تتماهى كل الأصوات مع بعضها البعض بحرية وشكل حسي ودون خوف لتتولّد عنها موسيقى سوريالية، ترافقها انفعالات جسدية من العازف تنتهي إلى الوقوف في المنتصف بين الموسيقى التقليدية ومايسمّى بالموسيقى الإثنية الروحية، إنه خلق ولد من الحاجة لاستكشاف أصوات جديدة، وتطوير لغة معاصرة تنقلها الرغبة في ذلك لوضع التراث الموسيقي التونسي في خدمة الإيقاع العالمي، على حدّ قول البرصاوي.

و"تراتيل" موسيقى لا تخلو من العشق، عشق الثالوث المقدّس الفن والجمال والحرية الذي يضعه محمّد البرصاوي نصب عينيه في تفاعله مع الآلات الموسيقية وفي خلقه للموسيقى التي لا يراها إلا انعكاسًا لروحه وترجمة لما يعتمل في نفسه من أحاسيس.

ولئن شارك العازف محمد البرصاوي في مهرجان "روحانيات" وعرض "الكترو بطايحي" عزفًا على "الديدجيريدو ومشاريع موسيقية أخرى، إلا أنّ ألبوم "تراتيل" يعدّ عصارة كل تجاربه الموسيقية وشاهدًا على فترات مختلفة من عمره عبّر عنها بالإيقاعات والأصوات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رضا الجندوبي.. صانع عود يبعث الروح في الخشب

آخر الطبّ.. موسيقى!