الحاج عباس عبد السلام، شيخ السبعين، تدلّت لحيته البيضاء وقد أصبغها الحكمة التي اكتسبها عبر منعرجات الزمن، التقيناه في دكانه الصغير داخل أزقة المدينة العتيقة في سوسة وقد أحاط بنفسه نفائس ما صنعت أنامله وما اطمأن إليه ضميره وجادت به قريحته ونبع من علم تعلمه فأتقن صنع مجسمات وتصميمات بديعة لمعالم دينية تراثية وآلات صناعية عتيقة.
أتقن الحاج عباس عبد السلام من سوسة صنع مجسمات وتصميمات بديعة لمعالم دينية تراثية وآلات صناعية عتيقة
كان يصطحبنا الحاج عباس إلى عالمه الخاص به وقد التحف الموعظة والحكمة، ففي ذاك الركن من ورشته الصغيرة نصب مجسمًا جميلًا للكعبة المشرفة كما كان عليه في أوائل التسعينيات. كنا نقف أمام هذا المجسم البديع وقد توسطت الكعبة وأحاط بها حجر إسماعيل، وقد أحاطت الأروقة بالحرم وارتفعت الصوامع في أرجاء المسجد وأنارت الأضواء المنارات فكان هذا التصميم مصدرًا للإلهام الروحي الديني.
مجسم الكعبة المشرفة (صور ماهر جعيدان)
يقول الحاج عباس إنه "استغرق 9 أشهر في الإنجاز موظفًا 11 ألف قطعة خشب صغيرة ومستعملاً 9 صوامع وقباب وقد استعمل موادًا خشبية ودارة كهربائية ونظام إضاءة متكامل".
الحاج عباس لـ"الترا تونس": "استغرق مجسم الكعبة 9 أشهر في الإنجاز، مع توظيف 11 ألف قطعة خشب صغيرة واستعمال 9 صوامع وقباب وموادًا خشبية أخرى ودارة كهربائية ونظام إضاءة متكامل"
بعد أن أدى الحاج عباس مناسك الحج لمرة واحدة و آداء مناسك العمرة في 9 مناسبات، تعلق قلبه بالحرم المكي فألهمه الشوق إلى الأماكن المقدسة فأنجز هذا المجسم ولم يمنعه التقدم في السن لأن يتفرغ لهذه الهواية فهو المتردد على ورشته إثر صلاة الصبح لكي يملأ فراغًا خلفه تقاعده عن العمل و هو التقني في إحدى المؤسسات العمومية، وفق ما حدث "الترا تونس".
كان تصميم المسجد الحرام أقرب المجسمات والتصاميم إلى قلب الحاج عباس غير أنه أبدع في صناعة مجسم لمعصرة زيتون تقليدية كانت تنتشر في الساحل التونسي منذ نهاية القرن التاسع عشر.
كان تصميم الكعبة أقرب المجسمات والتصاميم إلى قلب الحاج عباس غير أنه أبدع في صناعة مجسم لمعصرة زيتون تقليدية أيضًا
يقول الحاج عباس: "صنعت هذا المجسم لمعصرة زيتون تقليدية لعرض عينة من تراثنا الصناعي والفلاحي المتعلق بأهم إنتاج في ربوع الساحل التونسي وهو إنتاج الزيت إذ أن اعتماد النشاط الفلاحي على غابات الزيتون يعتبر نواة الأنشطة الفلاحية في تونس. منذ القدم، تطورت الوسائل الفلاحية عبر العصور واستفادت تونس بدايات القرن التاسع عشر من الثورة في المجال التصنيعي والتحول من الاستعمالات اليدوية إلى الاستعمالات الميكانيكية في الصناعات التحويلية والتصنيعية".
مجسم معصرة الزيتون التقليدية (صور ماهر جعيدان)
في مساحة لا تتجاوز 2 مترًا مربعًا، أنجز الحاج عباس هذا المجسم لمعصرة الزيتون التقليدية مسميًا إياها "معصرة البركة الأثرية "، وقد ضمت هذه المعصرة كافة مراحل إنتاج الزيت ابتداء من جمع حبوب الزيتون حتى تخزين الزيت.
يقول الحاج عباس: "لقد حرصت في تصميم وإنجاز هذا المجسم للمعصرة على توظيف خبراتي المتراكمة في هذا المجال باعتبار أنني كنت في العقود الماضية أتردد كثيرًا على المعاصر لأقوم بإصلاح الأعطاب الميكانيكية".
الحاج عباس لـ"الترا تونس": "المدار والعروس والشامية والبريزة كلها أدوات آلت إلى زوال بعد أن اندثرت المعاصر التقليدية ولكن ذاكرتي تحملني إليها مجددًا من خلال تصميمي الذي يمكن أن يكون سفيرًا للترويج لتونس سياحيًا"
وأضاف: "لقد عملت على أن إحياء الذاكرة وتخليد مرحلة من التراث الزراعي عندنا بشكل تبسيطي يمكن التنقل به من مكان لآخر حتى يتم الترويج للزيت التونسي ويساهم في نمو الإنتاج وقد أطلعت المسؤولين في السياحة على هذا المشروع الذي يجلب الناظرين وقد اعتمدت مضخة تدور بمعدل 160 دورة في الدقيقة وتدير "المدار" بمعدل 26 دورة في الدقيقة وتضخ الزيت في آلات الضغط على "الشوامي" فيعصر العجين و يخرج زيتًا متلألئًا يسرّ الناظرين ".
وتابع : "المدار والعروس والشامية والبريزة كلها أدوات آلت إلى زوال بعد أن اندثرت المعاصر التقليدية ولكن ذاكرتي تحملني إليها مجددًا من خلال هذا التصميم الذي يمكن أن يكون سفيرًا للترويج لتونس سياحيًا ويخلق فرصًا لإدماج زوار تونس ضمن مسالك سياحية جديدة".
ويقول الحاج عباس لـ"الترا تونس" "إنه استغرق في تشكيل هذه المعصرة سنة وثلاثة أشهر ، وكنت ارتاد ورشتي بعد صلاة الصبح وأمارس هوايتي المفضلة في توفير الإمكانيات والقطع الميكانيكية اللازمة كما اتصلت بإحدى الحرفيات في مدينة هرقلة التي صنعت لي 60 قطعة دائرية من "شوامي الحلفاء" التي توضع فيها عجينة الزيتون".
أنموذج معصرة الحاج عباس أحيى فينا ذاكرة الأجداد أواخر القرن التاسع عشر لما شهدت تونس أوائل التحول نحو استعمال الآلات الميكانيكية في الصناعات التحويلية ولعل أهمها وأولها على الإطلاق تلك الآلات التي جلبها الفرنسيون و الإيطاليون حتى يرفعون من حجم إنتاج الزيت وتجميع أكبر قدر من صابة الزيتون تجنبًا للإتلاف نظرًا للفترة الزمنية الضيقة في جمع الزيتون.
الحاج عباس لـ"الترا تونس": استغرقت في تشكيل مجسم المعصرة سنة وثلاثة أشهر
الزيتونة التونسية تلك الشجرة المباركة لا تنتج الزيت فحسب و إنما هي توفر الأمن الغذائي لسكان تونس وتوفر الخشب والحطب والزيوت والصابون والأدوية وكان أهل الساحل يعدون منها 4 ملايين شجرة في سنة 1902، ويدفعون عنها ضريبة للدولة "عاشور" كلما بلغت الشجرة سن الإنتاج بعد 15 سنة من زرعها.
الشوامي خلال عصر الزيت في المكابس الحديدية للمعصرة التقليدية (صور ماهر جعيدان)
شارل لاليمان Charles Jean-Pierre Lallemand ( 1957 – 1938 ) أحد الفرنسيين الذين وثقوا لمرحلة عصر الزيتون في الساحل التونسي من منظوره العلمي بحكم اختصاصه الجيوفيزيائي ووثق ذلك في كتابه " تونس، بلد المحمية الفرنسية" ( 1826-1904 ).
يقول شارل لاليمان "يحتوي الزيتون في لبه على سائلين يميلان بطبيعتهما إلى الانفصال عن بعضهما وهما الزيت والماء وقد تنخفض كمية الماء عندما يجف الزيتون لكن كمية الزيت تظل ثابتة في الثمرة ويتم تقدير الزيتون الذي في اللب بالنسبة لحجم النواة لأن الطاحونة تسحق كل شيء في نفس الوقت والفائض من اللب المسحوق المشترك سيعطي الزيت طعماً لاذعًا".
يستعرض شارل لاليمان طريقة عصر الزيتون سنة 1902: " تكون العملية الأولى في وضع الزيتون في عجينة عن طريق الطحن، ويسحق الزيتون عن طريقة اسطوانتين ضخمتين من الحجر يبلغ قطر الواحدة 60 صم.."
ويستعرض لاليمان طريقة عصر الزيتون سنة 1902 قائلا ً: " تكون العملية الأولى في وضع الزيتون في عجينة عن طريق الطحن، ويسحق الزيتون عن طريقة اسطوانتين ضخمتين من الحجر يبلغ قطر الواحدة 60 صم وهي كتلة صخرية ترتفع مترًا عن سطح الأرض وتدور عليه عجلة الطحن" (و هو ما يطلق عليه عندنا "بالمدار").
ويقول لاليمان: "كان سكان تونس يستعملون الجمال بشكل حصري لتشغيل مطحنة الزيت الخاصة بهم وهو ما نلاحظه في المنستير والمكنين وسوسة وعادة ما يستعملون أكثر من دابة واحدة في الطحن، ويكون الجمل مغمض العينين حتى لا يصيبه الغثيان من الدوران".
ثم يتطرق الكاتب إلى مخزون العجينة الذي يتم وضعه في أحواض إسمنتية ضخمة محكمة الغلق وتضاف إليها كمية معينة من الماء الساخن و ذلك لالتقاط جزئيات الزيت القليلة المتبقية في الأجزاء السميكة من العجينة ، وبعد مرور بعض الوقت توضع العجينة في رافعة خشبية ضخمة ويتم سكبها في أكياس دائرية مصنوعة من الحلفاء (نطلق عليها "الشوامي") ويتم الضغط عليها بأكبر قدر ممكن من القوة".
شارل لاليمان، أحد الفرنسيين الذين وثقوا لمرحلة عصر الزيتون في الساحل التونسي: كان سكان تونس يستعملون الجمال بشكل حصري لتشغيل مطحنة الزيت الخاصة بهم ويكون الجمل مغمض العينين حتى لا يصيبه الغثيان من الدوران
ويقول لاليمان: "لقد حققت عديد المعاصر المحلية (في تونس) تقدمًا كبيرًا باعتماد مكبس الحديد الفرنسي الصنع والذي يتم تشغيله بواسطة قضبان يزداد تأثيرها عشرة أضعاف".
ويشار إلى أن شركة مطاحن الزيت بالساحل التونسي في سوسة كانت ذات أهمية بالغة أوائل القرن التاسع عشر إذ يمكنها إنتاج ما بين 8000 إلى 9000 كيلوغرام من الزيت يومًيا وكان المصنع يشغل العشرات ويشهد نظامًا متطورًا في عملية استقبال صابة الزيتون وصولًا إلى إنتاج الزيت وكان يضم عشر مضخات هدروليكية والعديد من الآلات بالإضافة إلى محرك بخاري (45 حصانًا).
معاصر الزيتون القديمة، كما هي في مجسم الحاج عباس، تقوم بتحويل الزيتون إلى عجينة في أقل من نصف ساعة فيكون عجينًا ناعم الملمس أسود أرجواني اللون يتدفق إلى علبة موضوعة في الكتلة الصخرية ويتم استخلاص الزيت "البكر" وهو أجود أنواع الزيوت، ثم يمر العجين إلى المكابس الهيدروليكية وفي مراحل أخرى يتم إضافة الماء الساخن على ما نسميه "الفيتورة" وهو مستخلص العجين الجاف حتى نتمكن من استخلاص ما علق من بقية زيت.
ووفق شارل لاليمان، فإن أول معصرة بخارية دخلت تونس كانت في مدينة مساكن ويقع المصنع وسط غابة الزيتون ومعدل إنتاجه 4000 كيلوغرام من الزيت في 24 ساعة. كما التحقت مدينة المكنين التي تنتج نفس الكمية من الزيت يوميًا،وفي قصيبة سوسة على بعد 7 كيلومتر من مدينة مساكن، توجد مطحنة وحيدة تدار بواسطة الجمال و يتم تشغيل مكابسها بواسطة قضيب، كما تنتشر مطاحن أخرى في القلعة الصغرى والقلعة الكبرى..وقد تبلغ طاقة الإنتاج القصوى في الجهة كلها 22000 كيلوغرام من الزيت خلال 24 ساعة بطاقة عمل يومية مستمرة لمدة شهر كامل خلال موسم الجني.
استفز الحاج عباس ذاكرة الزيت في سوسة بمجسم معصرة الزيتون التي نعتبرها تقليدية في حين كانت في سنة 1900 باكورة الاختراعات العالمية و تكشف عن مدى جودة الزيت التونسي
ويذكر شارل لاليمان أن الإعفاءات الجمركية قد ساعدت على تركيز أكثر من 40 محطة بخارية على الطراز الأوروبي حيث تشغل 1000 مكبس وتستأثر شركة الزيوت بالساحل الفرنسية في مدينة سوسة بأكثر من نصفها.
هكذا استفز الحاج عباس ذاكرة الزيت في سوسة بهذا المجسم لمعصرة زيتون نعتبرها تقليدية في حين كانت في سنة 1900 باكورة الاختراعات العالمية وتكشف عن مدى جودة الزيت التونسي الذي يعتبر أيقونة الزيوت الغذائية في العالم ورائد المذاقات وسيد أطعمة وبهارات مطاعم أوروبا. كان المستعمر الفرنسي يفقه جودة هذه الثروة فعمل على استغلالها وتصديرها والعناية بها في حين صارت اليوم مادة بعيدة المنال بسبب الغلاء وقلة الإنتاج متأثرة بالتغيرات المناخية أيضًا.
الحاج عباس (صور ماهر جعيدان)