نسمات الصباح الباردة تلفح وجوه المسافرين في محطات الأرتال، تمر الدقائق دون أن يظهر المترو على السكة الحديدية، الجميع في حيرة من هذا التأخير اليومي المتكرر. تكتظ المحطة بالعَملة والتلاميذ والطلبة والأساتذة وجميعهم ينظر إلى الآخر في ريبة ولا من مجيب عن الأسباب الحقيقية لتخلف المترو عن موعده، تدور عقارب الساعة وقد أوجس الجميع خيفة ممّا ينتظرهم من تداعيات وخيمة لعدم التحاقهم بمقرات عملهم ومقاعد دراستهم.
اضطراب يومي لسفرات مترو الساحل الذي يتخلف عن مواعيده المحددة مما يتسبب في تعطيل مصالح الطلبة والعَملة بشكل يومي ما أثار استياءً واسعًا في صفوف المواطنين
اعتادت الطالبة سناء على الالتحاق بمحطة المترو في مدينة المهدية على الساعة السادسة صباحًا لتنطلق في رحلة نحو مدينة سوسة أين تدرس بأحد المعاهد العليا غير أنه خلال المدة الأخيرة تستغرق مدة تنقلها أكثر من ثلاث ساعات في مسافة تقدر بـ 70 كلم.
وتحدثت سناء، لـ"الترا تونس"، بمرارة عن "رداءة النقل الحديدي خلال الفترة الأخيرة بعد أن كان وسيلة النقل المثلى في جهة الساحل التي تتعدد فيها وسائل التنقل العمومي والخاص، في حين كان لا بدّ للنقل أن يكون رائدَ التقدم والتطور في أي بلد".
أنيس بن سالم (أحد مرتادي مترو الساحل): تلقيت توبيخًا في العمل بسبب اضطراب السفرات خلال الفترة الأخيرة وتخلف القطارات عن مواعيدها مما تسبب لي في تعطيلات على المستوى المهني
فيما أعرب أنيس بن سالم، أحد مرتادي مترو الساحل، في حديثه إلينا عن انشغاله التام باضطراب السفرات خلال الفترة الأخيرة وتخلف القطارات عن مواعيدها مما تسبب له في تعطيلات على المستوى المهني مما دفع أربابه في العمل إلى توجيه توبيخ إليه، وفقه.
كما استنكر أنيس "الصمت الرهيب وعدم الشفافية في إدارة شركة السكك الحديدية التي لم توضح الأسباب الحقيقية لهذا الاضطراب وعدم تلافيه، ناهيك عن عدم تحديد سقف زمني أقصى لتأخر القطارات".
يعتبر مترو الساحل القلب النابض لحركة النقل بين المدن الساحلية ذات الكثافة السكانية، ويمتد على مسافة 75 كلم ويضم أكثر من 30 محطة توقف ويعبر كافة المدن الكبرى انطلاقًا من المهدية مرورًا بالمنستير وصولًا إلى سوسة. تم إنشاء هذا الخط (22) سنة 1984 وكان ثورة في مجال النقل في تونس مما أسهم في النمو الاقتصادي بالجهة.
يعتبر مترو الساحل القلب النابض لحركة النقل بين المدن الساحلية ذات الكثافة السكانية، ويمتد على مسافة 75 كلم ويضم أكثر من 30 محطة توقف ويعبر كافة المدن الكبرى انطلاقًا من المهدية مرورًا بالمنستير وصولًا إلى سوسة
وينقل مترو الساحل في الأيام العادية حوالي 10 آلاف مسافر خلال 46 رحلة، وكان العدد قد تراجع خلال الحجر سنة 2020 إلى 6 آلاف مسافر كأقصى حدّ. كما يتقلص عدد الرحلات في رمضان إلى 38 رحلة إذ يقع يوميًا نقل معدل 200 مسافر في كلّ رحلة أي بمجموع 7600 مسافر وفق إحصائيات تم نشرها سابقًا.
لكن ما أصاب هذا الخط الحيوي خلال السنوات الأخيرة من اهتراء البنية التحتية على مستوى السكة الحديدية والمولدات الكهربائية والمشاكل المهنية ومحدودية الميزانية وتأخر إنجاز المشاريع المبرمجة لأسباب مختلفة قد أدى إلى تدهور الخدمات وتراجع المردودية الاقتصادية له.
ما أصاب خط مترو الساحل خلال السنوات الأخيرة من اهتراء البنية التحتية على مستوى السكة الحديدية والمولدات الكهربائية ومحدودية الميزانية وتأخر إنجاز المشاريع المبرمجة قد أدى إلى تدهور خدماته
ولعلّ المشاكل التي يعاني منها مترو الساحل هي عينة عن الحال الذي أصبحت عليه "الشركة التونسية للسكك الحديدية" التي تعاني من أزمة خانقة شملت كافة هياكلها ومؤسساتها في كافة الخطوط التي لا تزال قيد التشغيل، فمما لاحظناه تقلص السفرات وتعدد الحوادث وكثرة الاضطرابات الاجتماعية سواء فيما يتعلق بنقل المسافرين أو نقل البضائع.
وفي الإطار، أوعز رئيس وحدة أحواز الساحل بالشركة الوطنية للسكك الحديدية مهدي نعيجة، في تصريح لـ"الترا تونس"، أسباب اضطراب الرحلات في مترو الساحل إلى أشغال صيانة على مستوى السكة، قائلًا: "في مثل هذا الشهر من كل سنة تنطلق أشغال صيانة تشمل السكة الحديدية" مشيرًا إلى أن "تدخلات الصيانة تتسبب في إحداث تأخير على مستوى المواعيد يقدر بـ14 دقيقة لكل رحلة كما أن عملية "تشوير" السكة الحديدية تدفع السائقين إلى الاجتهاد في إبطاء حركة القطار وتقليص السرعة لتصل إلى أقل من 30 كلم في الساعة".
كما تعرض مهدي نعيجة إلى "التقليص من عدد الرحلات في الآونة الأخيرة وإيقاف رحلتين يوميتين حتى يتسنى للشركة تفادي العطل الذي أصاب أحد القطارات المتواجد حاليًا في مستودع الصيانة"، على حد قوله.
وفي سياق متصل، سلط رئيس وحدة أحواز الساحل بشركة السكك الحديدية الضوء على "عمليات سرقة" قال إنها "شملت العديد من تجهيزات الشركة من بطاريات ومواد نحاسية مما أدى إلى أعطال تجبر القطارات على إبطاء السرعة والحذر"، وفق تأكيده.
رئيس وحدة أحواز الساحل بشركة السكك الحديدية: تدخلات الصيانة تتسبب في إحداث تأخير على مستوى المواعيد كما تم التقليص من عدد الرحلات في الآونة الأخيرة وإيقاف رحلتين يوميتين تفاديًا للأعطاب التي قد تصيب القطارات
كما أكد ضرورة "التوجه عاجلًا لإتمام الصفقة العمومية المتعلقة بالمولدات الكهربائية حتى تتسنى إضافة قاطرات جديدة على خط سوسة– المهدية"، لافتًا إلى أن "الشركة تعهدت بإتمام صفقة قاطرات جديدة في ظرف سنتين حتى يتعزز الأسطول ويرتفع عدد الرحلات بالتزامن مع مضاعفة الخط الرابط بين المكنين والمهدية"، حسب روايته.
جدير بالذكر أنه تم عرض مشروع مضاعفة الخط الحديدي عدد 22 الرابط بين المكنين من ولاية المنستير ومدينة المهدية منذ أواخر 2019، وأفضت الدراسات الأولية إلى مضاعفة الخط على طول 25 كلم وبكلفة 150 مليون دينار ممولة من البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، وكان من المنتظر أن تنطلق أشغاله مع بداية سنة 2020 و تنتهي مع موفى سنة 2023.
ويفضي هذا المشروع إلى تكثيف عدد السفرات اليومية إلى حدود 60 سفرة عوضًا عن 44 سفرة حاليًا وبمعدل 20 دقيقة بين كل سفرتين عوضًا عن 40 دقيقة بين كل سفرتين حاليًا، إضافة إلى زيادة طاقة استيعاب الخط ومزيد السلامة المرورية، فضلا عن تحسين إمدادات الطاقة بإضافة محطة فرعية لتوليد الطاقة في المكنين أو المنطقة السياحية بالمهدية.
ولمزيد التحري في الأسباب الحقيقية لتعطل حركة مترو الساحل وتقلص مردوديته، اتصلنا بخالد الصيادي كاتب عام نقابة السكك الحديدية بالمنستير الذي "أقر بالوضعية الصعبة التي تمر بها الشركة وتراجع جودة الخدمات"، موعزًا ذلك إلى "العجز المادي عن صيانة القاطرات و السكة الحديدية وصيانة الشبكة الكهربائية وتدهور الوضعية الاجتماعية للعملة أمام غلاء المعيشة وعدم توفر الحماية القانونية للأعوان خاصة السائقين في حال الحوادث المرورية التي تخضعهم لإجراءات تعسفية وهذا ما دفعهم إلى الالتزام بالسرعة المحددة دون اجتهاد مما يتسبب في تعطل الحركة"، وفقه.
و أشار خالد الصيادي إلى "تدهور خدمات الشركة الوطنية للسكك الحديدية بصفة عامة ودليل ذلك تقليص الرحلات في جميع الاتجاهات وتعطل الخط 13 لنقل الفسفاط مما عمق أزمة السكك الحديدية ومما زاد الطين بلّة تعطل المفاوضات الاجتماعية قطاعيًا بمفعول المنشور عدد 20 الذي خول للأطراف المسؤولة النظر في المطلبية النقابية مركزيًا"، حسب رأيه.
كاتب عام نقابة السكك الحديدية بالمنستير: خدمات شركة السكك الحديدية تدهورت خاصة في ظل العجز المادي عن صيانة القاطرات و السكة الحديدية وصيانة الشبكة الكهربائية
إن تدهور خدمات النقل في تونس و خاصة منها خدمات السكة الحديدية ليس وليد السنوات الأخيرة إنما هو نتيجة تراكمات استمرت لعقود شملت ضعفًا في التسيير والحوكمة والتصرف إلى درجة العجز والمديونية في غياب مشروع إنقاذ واضح بخلاف تلك الاستراتيجيات المرسومة على الورق والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ مثل الشراكة بين القطاع العام والخاص وطرق التمويل من أجل تجديد الأسطول وإعادة هيكلة الشركات العمومية التي تعاني صعوبات مالية حادة مثل شركة أشغال السكك الحديدية sotrafer، هذا وإن أكد مجلس وزاري خصص لقطاع النقل في سبتمبر/أيلول 2022 يقضي "بضرورة الإسراع في إعادة هيكلة المؤسسات العمومية التي تعاني صعوبات ووضع عقود برامج على المدى القصير (2023-2025) وفقًا لأهداف موضوعية قابلة للتنفيذ مع إعطاء الأولوية لاسترجاع النسق العادي للنشاط وتحسين جودة الخدمات المسداة والتحكم في الكلفة".
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الخسائر المباشرة التي تتكبدها الشركة الوطنية للسكك الحديدية جراء تعطل الخط 13 لنقل الفسفاط عبر القطارات تصل إلى مئات المليارات باعتبار أن يوم الإضراب الواحد يكلف الشركة نقصًا في مستوى موارد الشركة بمعدل 100 ألف دينار يوميًا وفق بلاغ لشركة السكك الحديدية أصدرته بتاريخ 6 أكتوبر/تشرين الأول المنقضي، إثر إضراب نفذه أعوان سياقة القطارات للمناداة بجملة من المطالب الاجتماعية.