لم يكن يوم 29 جانفي/يناير 1952 -وما سبقه وتلاه- كغيره من الأيام في "تازركة"، وهي إحدى مدن ولاية نابل الواقعة بالشمال الشرقي للبلاد التونسية، فقد أصر المحتل الفرنسي على إظهار أبشع ما فيه وارتكاب مجازر تأبى الذاكرة التونسية نسيانها وتخطيها لفظاعتها واستهدافها للرضع والقصر والحوامل وكبار السن. هذه المجزرة أثارت الذهول حتى في صفوف عدد من الفرنسيين الذين رفضوا جرائم الاحتلال ضد مواطنين عزل.
لم يكن يوم 29 جانفي 1952 -وما سبقه وتلاه- كغيره من الأيام في "تازركة" فقد أمعن المحتل الفرنسي في إظهار أبشع ما فيه وارتكاب مجازر تأبى الذاكرة التونسية نسيانها
وقد وثق كتاب "تونس الثائرة" لعلي بلهوان فحوى رسالة معلم فرنسي كان قد أرسلها لمجلة "L’EDUCATEUR" يصف فيها هول ما عاينه فيقول "أبعث إليك بهذه الأسطر في هذا الصباح المحزن، وفي جو ملؤه الغضب المستعر وبين مصائب متدفقة في ساعة لم أسمع فيها إلا دويًا مرتبكًا من الأصوات، ومن الأنين والشهيق المتدفق والبكاء بصوت مرتفع، ممزوجًا بدوي المصفحات والطائرات المحلقة في سماء القرية. كنت قد حضرت بنفسي مأساتين مرجفتين متتاليتين، وشاهدت خلالها نساءً بريئات وأطفالًا ورجالًا بؤساء يتساقطون ويتخبطون في دمائهم، وهم جميعًا عزل!".
ولئن كان المستعمر الفرنسي يرتكب جرائمه تحت راية محاربة "الفلاقة"، وهم المقاومون التونسيون الذين رفعوا السلاح لدحر المستعمر، فإنّ العدوان على تازركة لم يكن له مبرر، وذلك لأن أهالي المنطقة لم يشاركوا في التحركات ضد المستعمر، وهو ما أكده المؤرخ محمد ذويب.
المؤرخ محمد ذويب لـ"الترا تونس": لئن كان المستعمر الفرنسي يرتكب جرائمه تحت راية محاربة "الفلاقة" فإنّ العدوان على تازركة لم يكن له مبرر، وذلك لأن أهالي المنطقة لم يشاركوا في التحركات ضد المستعمر وجلّ أهاليها كانوا مزارعين عزّل
وقال ذويب في هذا الصدد إن "مدينة تازركة لم تكن لها نضالات تذكر ضد المستعمر الفرنسي، بل كانت قرية جُلّ أهاليها مزارعون لا علاقة لهم بالحركة الوطنية. ولا وجود لأي كتب أو مصادر رسمية تثبت انخراطهم في الحركة أو دعمهم لها. بالتالي فهم ضحايا مجزرة ارتكبت ضدهم لبث الخوف والرعب في صدور التونسيين"، وفق تقديره.
كما بين المؤرخ، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنّ أحداث تازركة جاءت تاريخيًا بعد 18 أكتوبر/تشرين الأول تاريخ إعلان الحزب الدستوري الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي، ودعوته التونسيين لحمل السلاح في مواجهة المستعمر"، معقبًا في هذا الصدد أنّ "القوات الفرنسية أرادت من خلال اقتحامها مدينة تازركة وتقتيل متساكنيها والاعتداء عليهم بطريقة وحشية أن تبلغ رسالة للمقاومة التونسية مفادها أنها قادرة على القتل والهرسلة والتنكيل، لكنها لم تحقق ما صبت إليه وتمكنت الحركة الوطنية من الاستمرار وصمد التونسيون حتى دحروا الاستعمار".
- يوم كشفت فرنسا عن وجهها الدامي
بطش المستعمر بأهالي مدينة تازركة يوم 29 جانفي/يناير فتم تجميع الرجال في الميدان العام تحت فوهات البنادق وقاموا طيلة ساعتين بنسف المنازل بالديناميت وإلحاق الضرر بجميع ممتلكات الأهالي كالأثاث ونهب المؤونة لكن ذلك لم يشف غليل المحتل فعمدوا إلى تدنيس المسجد وإتلاف المصاحف والكتب الدينية وفي المساء تم التداول على اغتصاب نساء وبنات القرية والتنكيل بالرضع الذين ماتوا دوسًا تحت الأقدام.
علي بلهوان في كتابه "تونس الثائرة": "التنكيل بالتونسيين (في مجزرة تازركة) كان يرمي إلى أذيّتهم بشدة والمس من تقاليدهم وروحانياتهم لذا أُطلقت يد الجنود في تلك الليلة على النساء عند غياب أزواجهن، علمًا من المستعمر أن كل امرأة مسلمة تُنتهك حرمتها تصاب بعار لا يمحوه الدهر"
ويذهب بلهوان في كتابه سالف الذكر إلى أن التنكيل بالتونسيين يرمي إلى أذيّتهم بشدة والمس من تقاليدهم وروحانياتهم، لذا أُطلقت يد الجنود في تلك الليلة على النساء عند غياب أزواجهن، علمًا من المستعمر أن كل امرأة مسلمة تُنتهك حرمتها تصاب بعار لا يمحوه الدهر وتصبح كأنها منبوذة من المجتمع، ويحدث دائمًا أن زوجها ينفصل عنها وعن أهلها ويضمر لها البغض والكراهية، وفق علي بلهوان.
والمؤسف فيما حدث هو أن الإرهاب الفرنسي الذي سلط على التونسيين كان بوشاية تونسيين بأنه "إذا رغبت فرنسا في تصفية الوطن القبلي فعليها بمدينة تازركة" وذلك وفق شهادة أحمد بن محمد الدستوري الذي اشتهر باسم أحمد التّليسي في مؤسسة التميمي.
ويبين المؤرخ خالد عبيد أن المستعمر الفرنسي أراد القيام بعملية أمنية في الوطن القبلي فتحول إلى قليبية وحمام الأغزاز وبني خلاد والسمعة وغيرها من المدن، لكن عملية تازركة اشتهرت بسبب التجاوزات الكبيرة التي ارتكبت في حق متساكنيها.
وتابع، في حديث لـ"الترا تونس"، أنّ "أحداث تازركة لا يمكن وضعها إلا في إطار واحد وهو أن الاستعمار الفرنسي كان يعتقد أنّه مع اعتقال قادة الحركة الوطنية، تحديدًا الحزب الحر الدستوري الجديد وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة ومن معه، واستعمال سياسة القوة بداية من 18 جانفي/يناير حتى نهاية الشهر، سيتمكن من إجهاض روح المقاومة لدى الشعب التونسي، إلّا أنه اكتشف في الأخير عكس ذلك فقد عمت المظاهرات اليومية وزاد الإصرار على التحدي والمقاومة.
المؤرخ خالد عبيد لـ"الترا تونس": كان الاستعمار الفرنسي أنّه مع اعتقال قادة الحركة الوطنية واستعمال سياسة القوة، سيتمكن من إجهاض روح المقاومة لدى الشعب التونسي إلّا أنه اكتشف في الأخير عكس ذلك فقد عمت المظاهرات وزاد الإصرار على المقاومة
ولفت المؤرخ إلى أنّ المستعمر رد الفعل باستعمال الأقصى في عمليات التمشيط التي باشرها من أجل ترويع التونسيين وإدخال الرعب في نفوسهم وليرغموهم على تقبل فكرة أنه ليس لهم من حل سوى الاستسلام والاستكانة للقدر المحتوم، وهو الاستعمار في تونس.
وأشار إلى أنّ ما كان يجهله الاستعمار الفرنسي هو أن الحزب الدستوري كان يستعد للمواجهة الحاسمة منذ الأربعينات عبر تعبئة التونسيين وشحنهم نفسيًا وتأطيرهم ودعوتهم للتنسيق من أجل التحرير الكلي لتونس. وأكد في هذا الصدد أنّ التعبئة والدعاية التي قام بها الحزب أتت أكلها، فعندما بدأ القمع الفرنسي في جانفي/يناير كان الشعب مستعدًا للمواجهة والمقاومة وكل الاحتمالات، وخاصة للخسائر في صفوفهم.
المؤرخ خالد عبيد لـ"الترا تونس": فرنسا لم تعتذر رسميًا من تونس رغم ارتكابها جرائم حرب في حق التونسيين منذ سنة 1881 إلى سنة خروجها وهناك الكثير من المسكوت عنه يتطلب القيام بأبحاث تاريخية
ويرى خالد عبيد أنّ الرد الفرنسي كانت غايته إسكات روح المقاومة والنضال لدى التونسيين لأنّ المقاومة ظهرت وبدأت في المدن والقرى الكبرى وفي التجمعات السكنية، وهي المرحلة الأولى من الثورة التونسية. وأراد المستعمر من خلال الحملة الترهيبية إنهاء واجتثاث روح المقاومة التونسية، لكنه فشل وارتد عليه الأمر وأصبح موضوع مساءلة.
ويؤكد المؤرخ أن فرنسا لم تعتذر رسميًا لا من تونس ولا من غيرها من المستعمرات، وأنها ارتكبت جرائم حرب في حق التونسيين منذ سنة 1881 إلى سنة خروجها، لافتًا إلى أن هناك الكثير من المسكوت عنه يتطلب القيام بأبحاث تاريخية تعتمد على الأرشيف وهذا غير متوفر حاليًا، مستدركًا القول إنّ "الثابت هو أن ما حدث في تازركة ليس الأول ولا الأخير من نوعه".
- اخترن الموت على الاغتصاب
بما أن المستعمر الفرنسي كان يواجه كل من يحاول الذود عن حرمة عائلته بالرصاص، فلم يبقَ خيار أمام نسوة تازركة بعد محاولات التوسل، التي لم تُلن قلوبًا تجردت من إنسانيتها، إلا الاستماتة في الدفاع عن النفس وذلك عبر التصدي لمحاولات الاغتصاب. وقد استبسلن في الدفاع عن شرفهن حتى أن البعض منهن خيّرن إلقاء أنفسهن في الآبار على البقاء عرضة للاغتصاب.
مما ظل في الأذهان من مجزرة تازركة استبسال النساء في الدفاع عن حرمتهن وشرفهن في وجه المستعمر الفرنسي حتى أن البعض منهن خيّرن إلقاء أنفسهن في الآبار على البقاء عرضة للاغتصاب
ويقول بلهوان في كتابه "تونس الثائرة": "أظهرت بعض النسوة من الشجاعة ورباطة الجأش ما جعلهن مثالًا للرجال الوطنيين أنفسهم، فاشتهرت من بينهن الآنسة صلوحة بنت محمد درويش التي أصبحت بطلة تازركة ومثالًا للوطنيات التونسيات. فقد دافعت عن بيت أبيها لما اقتحمتها العساكر وأخرجتهم منه فرجعوا في عدد أوفر وتجددت المعركة، وهي كاللبؤة دفاعًا واستماتةً. فانهال عليها الجنود ضربًا وهي ترجع الضربة بأختها ولم يتغلبوا عليها إلا بعد أن استخدموا الحراب فطعنوها عدة طعنات بقيت جروحها بينة في جسدها وظنوها ماتت، فغادروا المنزل".
جدير بالذكر أن المحتل الفرنسي كان قد ارتكب مجزرة في حق التونسيين حتى بعد حصول تونس على الاستقلال وذلك سنة 1958 بساقية سيدي يوسف امتزج فيها الدم التونسي بالدم الجزائري. كما ارتكبت فرنسا العديد من المجازر في المغرب العربي من بينها مجزرة الدار البيضاء سنة 1907 التي قام فيها المستعمر بتصفية خمس سكان المدينة، كما تم في مجزرة 8 ماي/أيار بالجزائر قتل 45 ألف جزائري في ظرف أسبوعين فقط.