"اليد السوداء" هي مرحلة هامة في تاريخ تونس المعاصر ساهمت تدخلاتها في دحض المستعمر وفي تصفية كل من تعتبره قياداتها "بيّوعَ الاستعمار" (خائنًا). مع ذلك فإنّ الاغتيالات السياسية التي نفذتها اليد السوداء في حق تونسيين ظلت محل جدل إلى اليوم حول غاياتها وجدواها، وخاصة مدى وجاهتها في حق بعض الذين اغتيلوا، وتباينت المواقف بخصوص مواقفهم من المستعمر.
اليد السوداء هي أداة استعملتها الحركة الوطنية في مواجهة اليد الحمراء للمستعمر وذلك عبر القضاء على بعض رموز الاستعمار الفرنسي والانتقام للتونسيين الذين نكّل بهم، لكنّها وظّفتها أيضًا خدمةً للحزب ورموزه على الرغم من أنها اشتهرت باللّاعنف وبميلها للحلول السلمية.
اليد السوداء هي أداة استعملتها الحركة الوطنية في مواجهة اليد الحمراء للمستعمر وذلك عبر القضاء على بعض رموز الاستعمار الفرنسي والانتقام للتونسيين الذين نكّل بهم
وبما أن اليد السوداء هي تنظيم سري، اختلفت الروايات والقراءات حول زمن نشأتها وانطلاق نشاطها في تونس وحتى حول زعمائها وقيادييها وتاريخ انتهاء مهامها.
- "اليد السوداء" في تونس
ويؤكد المؤرخ والأكاديمي بالجامعة التونسية بولبابة النصيري أن "اليد السوداء" هي تنظيم سري تحول بمضي الزمن إلى تنظيم معلن وذلك بمشاركة رؤساء حكومات ووزراء.
وعن تاريخ نشأة هذا التنظيم يذهب المتحدث إلى أنّه تأسس في صربيا سنة 1911 وكانت غايته محاربة الاحتلال النمساوي، ومع التطور السياسي في العالم حتى بداية تشكل المحاور الدولية برزت حركية سياسية نقابية شعبية ثورية في البلدان العربية فتأسست اليد السوداء في مصر وكانت علاقتها وثيقة بتونس، وهو ما أكده العديد من المؤرخين المصريين في كتاباتهم، لكن المؤرخين التونسيين تغاضوا عن هذه النقطة باستثناء عبد الجليل التميمي، وفق تعبيره.
المؤرخ بولبابة نصيري لـ"الترا تونس": "اليد السوداء" هي تنظيم سري تحول بمضي الزمن إلى تنظيم معلن وذلك بمشاركة رؤساء حكومات ووزراء وقد اغتالت مستعمرين وكذلك سياسيين وأطباء وحتى إعلاميين
ويبرز المؤرخ في حديثه لـ"الترا تونس" أن اليد السوداء تأسست في مصر سنة 1919 بقيادة السيد باشا وعلى يد عبد الرحمان فهمي وسعد زغلول الذي كان يشجع على إنشائها في شمال إفريقيا، فتم تأسيسها في تونس سنة 1920 بقيادات تونسية جزائرية مصرية، نافيًا بذلك ما يتداول حول تأسيس اليد السوداء في تونس من قبل "البشير زرق العيون"، ومؤكدًا أنه كان يقود اجتماع القيادات في نقطة حدودية بين تونس والجزائر وهي ساقية سيدي يوسف لكن التاريخ لم يذكر سواه لأنه نال القيادة بفضل قربه من الحبيب بورقيبة وتوليه صلاحيات كبيرة في تاريخ تونس المعاصر مع أنه لم يشغل أي منصب.
ويفيد النصيري بأنّ اليد السوداء اغتالت مستعمرين وكذلك سياسيين وأطباء وحتى إعلاميين، لكنها تعاملت بطريقة "غير أخلاقية" في بعض الأوقات، حسب تقديره.
ولفت إلى أنّ الاغتيال السياسي في تاريخ تونس لديه منهجان الأول لدحر الاستعمار والثاني لتأييد الاستعمار، وهو ما عملت من أجله اليد الحمراء. ويقول "لقد بدأت اليد السوداء تتحرك في تونس بعد إقرار فرنسا انتخابات بلدية وأيدها شق من الحزب الدستوري الجديد المنشقّ عن القديم فتم اغتيال الطبيب بن غشام شقيق وزير الصحة آنذاك الذي تم ترشيحه للانتخابات من قبل المستعمر الفرنسي كما تمت تصفية محمد الحاج خليفة بالحامة وقد أثار مقتله ضجة في الجنوب التونسي.
المؤرخ بولبابة نصيري لـ"الترا تونس": رغم أن شعار اليد السوداء كان "اللاعنف" فإنّ العنف كان موجودًا.. ولئن كان هدفها دحر الاستعمار فإنها استخدمت أيضًا لصالح الحبيب بورقيبة لاغتيال يوسف بن صالح ووُظّفت في محاولات اغتيال قادة اتحاد الشغل ورموز الحركة الطلابية
ويقول محدث "الترا تونس" إنّ "من أهم أسباب الاغتيالات، الرفض الشعبي للانتخابات التي أقرّها المستعمر في عام 1953، وكان الرفض حسب الشخصيات وموقعهم"، معقبًا: "فمثلًا الإعلامي الكبير الشاذلي القسطلي الذي كانت له بصمة في الحركة الوطنية وفي تأسيس الصحافة في تونس وفي تأسيس المجتمع المدني كانت شخصيته مرحة ومحبوب ولديه صيت شعبي في الوسط السياسي وخارج تونس أيضًا من خلال صحيفته النهضة تم اغتياله من قبل اليد السوداء بسبب انتقاده الشديد لتجنيس التونسيين الذي تقوم بها فرنسا حتى للوزراء في حكومة الطاهر بن عمار، وبسبب معارضته لعقد المؤتمر الأفخارستي المسيحي الفرنسي وتسريبه أسماء التونسيين الأعضاء في اللجنة الفخرية، كذلك بسبب اعتراضه على لائحة الحزب الاشتراكي الفرنسي التونسي الذي كان يتحرك في الخفاء للقضاء على أهم قيادات الحزب عن طريق اليد الحمراء ورفضه للإضراب الذي دعا له الحزب الدستوري وقاده محمد الماطري، والخلاف بينه وبين قادة الحزب".
ولفت النصيري إلى أن الحركة الوطنية كانت منقسمة وتشوبها خلافات كبيرة حتى أن اجتماعاتها كانت تنعقد في الحزب وأخرى في منزل الشاذلي القسطلي، وكانت هناك انتقادات حتى لرحلة الاتحاد العام التونسي للشغل وبورقيبة لأمريكا، ورغم أن شعار الحركة كان "اللاعنف" فإنّ العنف كان موجودًا بين قياداتها سرًّا ثم برز للعلن، ولئن كان هدف اليد السوداء دحر الاستعمار فإنها استخدمت أيضًا لصالح الحبيب بورقيبة لاغتيال يوسف بن صالح وتم توظيفها في محاولات اغتيال قادة اتحاد الشغل ورموز الحركة الطلابية التي كانت خصمًا مباشرًا لبورقيبة، في أواخر السبعينات.
كما بيّن الأكاديمي بالجامعة التونسية أنّ أهم أعضاء اليد الحمراء هم محجوب بن علي وحسني بن عبد العزيز اللذان كانا في لجان اليقظة بالحزب وقد سافرا إلى ألمانيا قبل اغتيال بن صالح بشهر، معتبرًا أنّ تلك الزيارة أثارت الشك والريبة وأحالت إلى وجود تخطيط ممنهج بين اليد السوداء ووزير الداخلية الطيب المهيري للإطاحة بصالح بن يوسف، حسب تقديراته.
- اغتيالات وخلافات
شهدت تونس زمن الاستعمار اغتيالات سياسية طالت مجموعة من رموز الحركة الوطنية والمقاومين وبقيت إلى اليوم لغزًا لم يتم تفكيك شفراته رغم مضي عقود من الزمن، ففرنسا لم تفرج إلى الآن عن العديد من الملفات السرية على غرار ملف اغتيال الزعيم فرحات حشاد الذي لم يمط اللثام عن حيثيات مقتله وبقي يشوبها الغموض والضبابية.
ولئن أقدم المستعمر الفرنسي على تنفيذ العديد من الاغتيالات السياسية بهدف إخماد صوت الحق وتكميم أفواه المناضلين والحط من عزيمتهم، فإنّ المقاومة التونسية بدورها كانت قد دبرت لاغتيال رموز الاستعمار على غرار المدير العام للإدارة المركزية للجيش الفرنسي "دولابيون"، كما أنها لم تستثن من اعتبرتهم متعاونين مع المستعمر كنائب رئيس بلدية تونس ومدير جريدة "النهضة" الشاذلي القسطلي الذي تمت تصفيته في جانفي/يناير 1953 وعز الدين باي أحد أفراد العائلة الحسينية الذي اشتهر بعدائه للحركة الوطنية وتآمره عليها مع المستعمر الفرنسي.
المؤرخ نور الدين حشاد لـ"الترا تونس": لا يمكن تحديد تاريخ تأسيس اليد السوداء في تونس لأنه تم إنشاؤها في كنف السرية التامة، وحتى المخططات فيما بين عناصرها تكتب بدون تواريخ، لكن من المرجح أنها بعثت سنة 1952
ولئن حكمت المقاومة على القسطلي بالموت تبعًا لتعاونه مع المستعمر ضد الحراك الوطني فإنّ بعض المؤرخين على غرار عبد الجليل التميمي كانت لديه قراءة أخرى عبّر عنها في كتابه "من ملفات الذاكرة الوطنية الجريحة: اغتيال الشاذلي القسطلي نموذجًا (1953)"، وقد اعتبر في كتابه أن القسطلي اغتيل بسبب نقده الحاد للحزب الدستوري الحر وتمسكه بالترشح للانتخابات البلدية على دائرة تونس رغم أن قرار الحزب كان مقاطعة تلك الانتخابات.
وقد جزم التميمي بأنّ قتل القسطلي كان خطًا استراتيجيًا للحزب آنذاك، مُقرًا بذلك أن الحزب كان وراء تدبير مقتله.
ويؤكد المؤرخ نور الدين حشاد أنه لا يمكن تحديد تاريخ تأسيس اليد السوداء في تونس لأنه تم إنشاؤها في كنف السرية التامة، وحتى المخططات فيما بين عناصرها تكتب بدون تواريخ، مرجحًا أنها بعثت سنة 1952 تحت راية الحزب الحر الدستوري، وفقه.
ولفت المؤرخ في حديثه لـ"الترا تونس" إلى أنّ مجموعة اليد السوداء كانت تدعو لاغتيال "البيوعة" (الخونة) أي من باع الوطن وتضامن مع المستعمر الفرنسي، فتمّت تصفية الشاذلي القسطلي المتعاون مع المستعمر وعز الدين باي، لكنّ محاولة اغتيال عبد المجيد عياد كللت بالفشل لأنّ المسدس الذي استعمل لمحاولة اغتياله كان عاطلًا، مشيرًا إلى أنّ عبد المجيد عياد من ضمن الفريق المتهم باغتيال حشاد مع ذلك تمكن من السفر لفرنسا وقضى بقية حياته هناك.
وشدد حشاد على ضرورة تناول موضوع اليد السوداء بحذر وحيطة لمحدودية المعطيات بشأنها باعتبار أنها كانت تعمل في كنف السرية والمعلومات حول تحركات أعضائها شحيحة جدًا خاصة وأنهم كانوا متحفظين خوفًا من "البيوعة" واكتشاف سرهم من قبل المستعمر الفرنسي، ولم يتسنَّ استقاء بعض المعلومات إلا بعد القبض على البعض من عناصر هذه المنظمة ومحاكمتهم في المحاكم العسكرية وتنفيذ حكم الإعدام في حقهم، مفيدًا بأنّ أسماءهم موجودة إلى الآن في قائمة الشهداء، حسب قوله.
ويعتبر المتحدث أن اليد السوداء لعبت دورًا صغيرًا في ظرف ضيق وتمكنت من اغتيال رئيس مركز الجندرمة سيسرو Cicero بغار الملح وغيره من المستعمرين، فتمت الإطاحة بالبعض من عناصر اليد السوداء ولم يتجاوز نشاطها سنة 1953، مبينًا أن المخابرات الفرنسية هي التي اتهمت أولئك الأشخاص بالانضمام إلى اليد السوداء بالتالي لا يمكن الجزم بصحة ما قيل من عدمه، مشيرًا إلى أن المقاومين وأبناءهم لم يكتبوا التاريخ وما كتب هو قراءة فرنسية، وما يكتب على المستوى الوطني لا يتجاوز السردية، في نظره.
المؤرخ نور الدين حشاد لـ"الترا تونس": اليد السوداء لعبت دورًا صغيرًا في ظرف ضيق وتمكنت من اغتيال رئيس مركز الجندرمة سيسرو بغار الملح وغيره من المستعمرين.. فتمت إثر ذلك الإطاحة بالبعض من عناصرها ولم يتجاوز نشاطها سنة 1953
ويضيف: "أعتبر أن 70 بالمائة مما يتداول من سنة 1956 إلى اليوم غير دقيق وأنّ فرنسا تمكنت من التأثير على تفكير العديد من التونسيين"، حسب تقديره.
تجدر الإشارة إلى أنه في خمسينات القرن الماضي كوّن المستعمر الفرنسي منظمة "إرهابية" عُرفت باسم "اليد الحمراء"، وهي عصابة إجرامية اشتهرت بدمويتها واستهدفت رموز الحركات الوطنية في كل من بلدان الجزائر والمغرب وتونس وقد نشطت المنظمة في بلادنا سنة 1952 ردًا على المقاومة التونسية المسلحة التي نجحت في مهاجمة ثكنات فرنسية وفي ترويع المستعمر عبر العمليات الفدائية التي كان ينفذها تونسيون يتوقون لتحرير الوطن من الاستعمار الغاصب.
منظمة اليد الحمراء التي كونتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية تمكنت من اغتيال أبرز نشطاء الحركة الوطنية في تونس من بينهم فرحات حشاد والأخوين الطاهر وعلي حفوز والهادي شاكر، كما عملت على التنكيل بالمواطنين العزّل فكانت تطلق النار على المارة وعلى رواد المقاهي عشوائيًا انتقامًا من المقاومة التونسية التي ازدهرت في الخمسينات.
وقد تعددت وتنوعت وسائل الاغتيال الممنهج لليد الحمراء فكانت تستعمل الرصاص والأسلحة البيضاء والسم والسيارات المفخخة والقنابل، ما جعلها مصنفة ضمن أخطر المنظمات الفرنسية. وأمام تنامي الجرائم البشعة لليد الحمراء كان رد "اليد السوداء" التونسية ثقيلًا فتم تصفية العديد من رموز الاستعمار وكذلك من مؤيدي الاستعمار الذين كانوا يعملون لتأبيده في تونس.
