إنه يوم من أيام جانفي/يناير، الشتاء ثقيل في تونس هذه السنة، ساعتي اليدوية تشير إلى تمام السادسة صباحًا، تبدو محطة نقل الحافلات وسيارات "اللواج" بمدينة مكثر من ولاية سليانة مكانًا أسطوريًا، إضاءة فجرية خافتة وسواق بمعاطف ثقيلة يغطون رؤوسهم بأغطية صوفية، يتنقلون ببطء، متشوفين لركاب مرتقبين.
مازال بياض الثلج يلفّ هضاب سيدي حمادة وقمة جبل السرج، لقد مرّت العاصفة الثلجية منذ يوم ولم يبقَ منها سوى الهواء البارد، يلفح الوجوه ويتسرّب إلى عمق الروح ليجمّد كل ما يعترضه من أحلام وانكسارات وأفراح مؤجلة. إنه "السميتري" أو "الصماحي" حسب لغة أهالي الشمال الغربي من أبناء نوميديا المندثرة والتي لم يبق منها سوى أرصفة الكلام والذكريات البعيدة.
دخلت المقهى المجاور للمحطة، إضاءة صفراء تغمر الفضاء الذي تختلط فيه رائحة القهوة برائحة التبغ. حديث الصباح هنا هو حديث سفر، يتناهى للأذن مغايرًا ومشكّلًا على إيقاعات طرية غير معهودة في أماكن أخرى.
يتخاطب سوّاق سيارات الأجرة "لواج" فيما بينهم بالإشارات من أجل مخاتلة دوريات شرطة المرور المتمركزة على طول الطريق بخصوص السرعة وباقي التجاوزات المرورية الممكنة
جلست بعيدًا عن الباب طلبًا للدفء، كان مذياع المقهى معدلًا على موجات الإذاعة الوطنية التونسية يشيع في الفضاء برنامج "يوم سعيد"، طلبت من النادل "كابوتشينو" إيطالية، فابتسم ابتسامة بالكاد لمحتها من تحت شاربه الكثّ والتفت لزميله الذي يقف خلف "الكونتوار" وقال بصوت دافق: "وحدة مروّبة للأستاذ ". أدركت حينها أن القاموس اللغوي هنا يبدو مختلفًا.
اقرأ/ي أيضًا: أصدقاء وما هم بأصدقاء.. عن أحكام النقل في تونس
وقبل أن تأتي القهوة دخل ثلاثة أشخاص أحدهم يرتدي "قشابية" بنية اللون تبين فيما بعد أنه سائق سيارة أجرة تشتغل على "خط تونس - مكثر"، جلس ثلاثتهم على مقربة مني وشرعوا في الحديث عن قسوة الطقس وصعوبة مجابهته وخاصة مع غياب "الغاز" و"السميد" و"الزيت المدعم" وعن تردي الوضع الفلاحي في هذه الربوع خاصة مع النقص الفادح في مادة "الآمونيتر".
أقبل النادل يحمل طبقًا تتصدره "المروّبة المكثرية" وسكرية من الإنوكس اللّماع، نظر إليّ مبتسمًا وقال: "إنها بالحليب العربي"، وأردف: "إن كنت متجهًا إلى العاصمة، ها الخزامي ناقصو راكب واحد"، مشيرًا بيده إلى صاحب "القشابية" البنّية اللون.
اتفقنا وغادرنا نحو السيارة بعد أن نقدنا النادل الذي كان يحدث حريفًا آخر عن إمكانية تساقط الثلج قائلًا: "العَشوة يبات يليّق" وكان يقصد أن الثلج سيكثف النزول بداية المساء وعلى طول الليلة القادمة. جلست مباشرة حذو السائق وانطلقت سيارة الأجرة مغادرة المحطة بهدوء، جلت ببصري إلى الخلف فكان الركاب قد تكوّروا إلى أنفسهم بحثًا عن الدفء. كان السائق الخمسيني يتمايل ذات اليمين وذات الشمال كلما أدار المقود في المنعطف. تجاذبنا أطراف الحديث عن وعورة الطريق ومخاطرها في الليل والنهار.
الخزامي (سائق لواج) لـ"الترا تونس": الحركة المتتالية من الأمام إلى الخلف بغمرة جميع أصابع اليد تعني أن الطريق آمنة، أما رفع السبابة إلى فوق في حركتين متتاليتين يعني أن هناك دورية موجودة في المنتصف أو بعيدة، وإذا كانت السبابة إلى أسفل فإن الدورية قريبة
"الخزامي" قضى أكثر من عشرين سنة سائقًا لسيارات الأجرة بولاية سليانة، يقول: "خدمت عند الناس وهاذي كرهبتي ورخصتي. أنا سيد نفسي رغم رحيل العمر"، وما إن أتمّ جملته حتى مرت سيارة أجرة قادمة في الاتجاه المعاكس فأشار إليها محدثي إشارة غريبة بأصابع يده اليسرى، سألته عن فحوى الإشارة فردّ ضاحكًا بأنها "لغة سائقي سيارات الأجرة (لواج) بالشمال الغربي التونسي"، وأضاف أنهم يتخاطبون بها فيما بينهم من أجل مخاتلة دوريات شرطة المرور المتمركزة على طول الطريق بخصوص السرعة وباقي التجاوزات المرورية الممكنة.
حاول "الخزامي" تفسير تلك اللغة المشفرة والتي تستعمل فيها إشارات اليد فقط، فمثلًا عندما يعطي حركة متتالية من الأمام إلى الخلف بغمرة جميع أصابع اليد فإن ذلك يعني أن الطريق آمنة وسالكة ولا وجود لدوريات أمنية، أما إذا رفع السبابة إلى فوق في حركتين متتاليتين فمعنى ذلك أن الدورية موجودة لكنها في المنتصف أو بعيدة، وإذا كانت السبابة إلى أسفل ودون حركة فإن الدورية قريبة، أما إذا كانت دورية الأمن قريبة جدًا فإن سبابة اليد تكون إلى أسفل مع الإكثار من الحركة من فوق إلى أسفل.
اقرأ/ي أيضًا: في الـ514.. الأبواب مفتوحة والحافلة تسير و"نورمال"
ويحدث أن تتقاطع سيارتا الأجرة على مرمى عين من الدورية فإن السبابة لا تكفي فيضاف إليها حركة إشعال وإطفاء الأضواء الكاشفة للسيارة كإشارة أن خطر الدورية داهم. أما إذا كانت الدورية الأمنية مرفوقة بجهاز الرّادار المروري فإن الحركة المتعارف عليها هي ربط الإبهام بالسبابة لتكوين دائرة.
وأضاف السائق "الخزامي" أن جميع سواق الأجرة على طرقات الشمال الغربي التونسي تفهم هذا القاموس، وتلتقطها أعينهم بسرعة عجيبة ويرتبون سرعتهم في الطريق على إيقاعها وذلك حتى لا يقعوا في قبضة الخطايا المرورية. كما أكد أن هذه الإشارات باتت نوعًا من التقليد يتعلمه السائق كما يتعلم قانون الطرقات ويتواصل بها السواق اللذين يعرفهم والغرباء على حد السواء.
كل السوّاق وقاطعي التذاكر بالشركة يوحدهم اسم واحد وهو "حمّادي" ينادون به بعضهم البعض في فضاء المحطة فيما ينادي مراقبو التذاكر بعضهم البعض بمصطلح "عصفور"
كانت رحلة سيارة الأجرة "لوّاج" من مكثر إلى محطة باب عليوة بالعاصمة تونس ممتعة ومشوقة ومرفوعة على حبال المغامرة وأنا أراقب السائق وهو يلوح بأصابع يديه لزملائه ويستقبل إشاراتهم بكل ثقة وامتنان.
من خلال هذه اللغة المشفّرة، يتجلى التضامن القطاعي بين سواق سيارات الأجرة "لوّاج" كما يتجلى التمرّد العفوي والتلقائي الذي يقوم به الإنسان على مؤسسة القانون.
ودومًا ضمن القاموس الخاص بالنقل العمومي بتونس فإننا نجد أن سواق شركة نقل تونس لهم مصطلحاتهم الخاصة التي يتداولونها فيما بينهم، فما إن تطأ قدماك محطة نقل المسافرين "باب الخضراء" أو محطة "حديقة ثامر" المعروفة لدى عامة العاصميين بحديقة "الباساج" حتى تتغير اللغة وتتبدل الأسماء المتعارف عليها فتينع مصطلحات جديدة قد لا يعيرها المسافر اهتمامًا كبيرًا لكنها مثيرة للمنتبه، فكل السوّاق وقاطعي التذاكر بالشركة يوحدهم اسم واحد وهو "حمّادي" ينادون به بعضهم البعض في فضاء المحطة وحتى أثناء الرحلات وداخل الحافلة ذاتها ومن الجمل الشهيرة التي يقولها قاطع التذاكر المتمركز قرب باب الصعود عندما يتلكأ أحد الركاب قطع تذكرته "يا حمادي دوّر الكار للمركز" (مركز الأمن) وهي من الجمل التي يتندر بها الشباب فيما بينهم أثناء تنقلاتهم عبر خطوط "الكار الصفراء" (الباص الأصفر).
أما مراقبو المحطات ومراقبو الحافلات ومراقبو التذاكر عبر الخطوط فإنهم يسمون الحافلة "كرّوسة" وينادون بعضهم البعض بمصطلح "يا عصفور" وقد التقط الركاب هذه التسمية وأوعزوا لها مصطلحًا بلاغيًا وهو تسمية مراقب التذاكر داخل الحافلة بـ"زيو زيو" (الصوت الذي يطلقه العصفور) فعندما يشاهدون مراقبًا بإحدى المحطات فإن كلمة "زيو زيو" تخرج من الأفواه بكل عفوية.
اقرأ/ي أيضًا: "الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"
اتصل "الترا تونس" بالأستاذ نوفل بوصرة المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية (بكلية 9 أفريل بتونس) وبسط بين يديه هذه العيّنة من الانزياحات الاصطلاحية الطريفة المتداولة في فضاءات النقل العمومي وبين سواق سيارات الأجرة الجماعية "اللّواج"، فأكد أن الأمر ورغم ظاهره الطريف فإنه قابل للقراءة النفسية.
نوفل بوصرة (مختص في علم النفس) لـ"الترا تونس: جوهر التضامن بين سوّاق النقل هو الإحساس بالخوف من السلطة فيختلقون لغة إشارات تقيهم أي خطر قد يتأتى من دوريات شرطة المرور.. الخوف من المجهول يدفعهم إلى خلق قواميسهم الخاصة
وأوضح أن السّواق هاجسهم الأول هو حماية أنفسهم من أي خطر لذلك نجدهم يمعنون في الحجب بعدم إظهار أسمائهم وصفاتهم الدقيقة ومسؤولياتهم فيختلقون اسمًا موحدًا (حمادي وعصفور) فيختبؤون داخله. وهو نوع من "التقية" التي نجدها في العديد من القطاعات والإدارات.
ويتابع: أما سواق سيارات الأجرة بين المدن فإنهم يندفعون آليًا نحو ما يسمى بـ"التضامن القطاعي" أو "رابطة الانتماء"، وإذا ما دققنا في الأمر مليًّا نجد أن جوهر هذا التضامن هو الإحساس بالخوف من السلطة فيختلقون لغة إشارات تقيهم أي خطر قد يتأتى من دوريات شرطة المرور وقد يبدو ذلك عجائبيًا بالنسبة للمسافر لكنه يعطي بعض الأمان بالنسبة للسائق.
إن هذا القاموس الاصطلاحي المتوارث بين أجيال السوّاق ورجال النقل في تونس يبقى قابلًا للتطوير لكنه لن يندثر أبدًا لأنه يمثل نوعًا من الفتح اليومي في الحقول الدلالية للغة المتداولة ولما يحمله من سرعة بديهة وطراوة وطرافة، قد تُخرج المسافر من نمطية الأشياء ونمطية الحياة اليومية.
اقرأ/ي أيضًا: