سوسة المدينة، إحدى أهم المدن التونسية الساحلية اتخذت لها هيئتها التي نراها اليوم عبر العصور، بين مدينة عتيقة آمنة مطوّقة بالأسوار ومدينة على الطراز الأوروبي صممها المستعمر الفرنسي وكانت رمزًا من رموز التطور الحضري هندسة وبنية تحتية ووظفت بذلك أهميتها الاقتصادية والتجارية في تنشئة قطاع النقل البحري والحديدي والنقل البري بين المدن.
وما لبثت أن تتوسع "سوسة المحروسة" حتى اكتسبت أواسط القرن الماضي لقب "الجوهرة"، ثم توسّعت عمرانيًا وبشريًا والتحمت الأحياء ببعضها وتسرّبت إليها مخططات التهيئة العمرانية "العرجاء" التي أنتجت مدينة مشوهة مختنقة ولم تستوعب الطفرة العمرانية والتدفق البشري في العقود الأخيرة وكانت ضحية الحلول الارتجالية والسياسات الخاطئة.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو: مدينة سوسة.. عن تاريخ جوهرة الساحل التونسي
وكان قطاع النقل أحد أهم ضحايا "خطيئة" التهيئة العمرانية التي تورّطت فيها مؤسسات وهياكل الدولة فالميناء التجاري البحري صار عبئًا على المدينة في غياب حلول آنية تحرر المساحات الشاسعة المستغلة من طرف ديوان الموانئ البحرية، والفضاء الشاسع للمحطة الرئيسية للقطارات صار بورًا لا خطة وظيفية له بعد أن كان شريانًا حيويًا للنقل الحديدي، محطة الحافلات وسيارات التاكسي الجماعي تحتلّ الأسوار الجبلية للمدينة العتيقة وكذلك سور باب بحر واختناق مروري يصيب المدينة بالشلل في أكثر من نقطة.
وقد قامت هياكل الدولة الإدارية بمحاولات لإنتاج منظومة تهيئة متطورة غير أنها اصطدمت بفساد القرار السياسية والمصلحية القطاعية والإخفاق على مستوى الإنجاز في بعض المشاريع، الذي تعترضه عقبات التمويل والمحسوبية والاستغلال للأملاك العمومية.
كانت هناك محاولات لإنتاج تصور مستقبلي لما يمكن أن تكون عليه مدينة سوسة في السنوات والعقود القادمة ومن بين هذه الدراسات ما أعدته بلدية سوسة بتمويل سويسري من "برنامج التنمية الحضرية المندمجة لمدينة سوسة"
صورة فوقية لسوسة المدينة
- برنامج التنمية الحضرية المندمجة لمدينة سوسة
خلال السنوات الأخيرة انبثق عن تجربة الحكم المحلي الجديدة، في ظل مجلة الجماعات المحلية الأخيرة، محاولات من أجل رتق ما خلفته السياسات الماضية وذلك بإنتاج تصور مستقبلي استراتيجي لما يمكن أن تكون عليه مدينة سوسة في السنوات والعقود القادمة ومن بين هذه الدراسات ما أعدته بلدية سوسة بتمويل سويسري من "برنامج التنمية الحضرية المندمجة لمدينة سوسة" وأفرزت هذه الدراسة رؤية استشرافية ومخططًا للتنقلات الحضرية لجهة سوسة الكبرى.
وفي تصريح خص به "الترا تونس"، يقول رئيس بلدية سوسة إقبال خالد عن الدراسة الأخيرة لمثال التهيئة العمرانية كما أنجزته بلدية سوسة "هذا المشروع معمق، يضم محاور كبرى كالطاقة والجغرفة الرقمية والتهيئة العمرانية ونحن اليوم نركز على مثال التهيئة والتشاركية في إعداده وتوثيق استراتيجي لمدينة سوسة".
من جهته، تحدث ماهر الزاوي، مهندس بمكتب دراسات، لـ"الترا تونس" عن هذه الدراسة "نحن أعددنا دراسة علمية وموضوعية قسمنا من خلالها مدينة سوسة إلى 55 حي، كل حي تضمن معطيات إحصائية دقيقة سواء في البنية التحتية أو التطور العمراني ونسبة النمو وكافة المرافق الحياتية التي تخص المنطقة التي يمكن أن يعتمدها أصحاب القرار. ونعتمد تصورًا لسوسة سميناه "مدينة الربع ساعة" أي المدينة التي تقرب الخدمات للمواطن في محيطه المعيشي والسكني وللإشارة فإن سوسة الكبرى تمسح 4500 هكتارًا وتضم جوهرة وسهلول وحي الرياض وسيدي عبد الحميد".
ماهر الزاوي، مهندس بمكتب دراسات، لـ"الترا تونس": أعددنا دراسة علمية وموضوعية قسمنا من خلالها مدينة سوسة إلى 55 حي ونعتمد تصورًا لسوسة سميناه "مدينة الربع ساعة"
محطة التاكسي الجماعي باب بحر عامل اختناق للمدينة (ماهر جعيدان/الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: التاكسي الجماعي في سوسة.. فوضى وبلطجة وتحميل متبادل للمسؤولية
- مقترحات عديدة وتوجه نحو انتهاج التشاركية
شكلت الجلسات التشاركية بين بلدية سوسة من جهة والمواطن من جهة أخرى سواء كان ممثلاً ضمن جمعية أو منظمة أو ضمن دوائر اهتمام محلية مختلفة، إحدى الآليات المرجو اعتمادها من أجل إرساء "حوكمة رشيدة" في صياغة السياسات الجديدة للمدينة.
في هذا السياق، يقول مجدي بن غزالة، مستشار ببلدية سوسة، خلال حديثه لـ"الترا تونس"، "الجلسات التشاركية التي ستضم متساكني سوسة من المفترض أن تخرج عن منطق الحومة أو الحي وتنطلق نحو تصور لمدينة سوسة ككل لتتشكل رؤية متكاملة، فنمط التنقل الحضري يجب أن يطرح على المواطن بشكل يتجه إلى تعزيز مكانة سوسة في المستقبل وبين اختيارها استراتيجية معينة في تطوير استعمال النقل العمومي والخاص ومدى تفاعل المواطن مع تعزيز النقل النظيف (المشي، الدراجات)، تخصيص مآوي للسيارات ومستقبل محطات النقل العمومي التي تحتل وسط المدينة.. وكذلك استفتاء المواطنون حول مستقبل ميناء سوسة التجاري وهل يتحول إلى ميناء سياحي أو مرفأ ترفيهي؟".
وأضاف بن غزالة "كما يجب أن يطرح في الجلسات التشاركية مدى تقبل المواطن لمزيد توسيع الفضاءات المخصصة للمشاة وإعادة توجيه المواطن للسكن والعيش وسط المدينة. الإجابات وتأطير النقاش والتشاركية حول هذه المسائل ستيسّر مهمة مكتب الدراسات لاستخلاص سيناريو واضح ويحدث تغييرًا حقيقي ًافي حياة المواطنين وشكل المدينة ويساهم في إثراء النقاش في المجلس البلدي حتى يحقق انتظارات وتطلعات أهالي مدينة سوسة ويعكس فعلاً مقترحاتهم".
مجدي بن غزالة، مستشار ببلدية سوسة، لـ"الترا تونس": من المقترحات السابقة استغلال العقار الشاغر بمحطة القطار بسوسة، بناء مآوي سيارات متعددة الطوابق بالقرب من وسط المدينة، إعادة توظيف ساحة فرحات حشاد وغير ذلك
وأشار، خلال حديثه لـ"الترا تونس" إلى أنه "قد سبق أن تطرقت "استراتيجية تنمية مدينة سوسة"، التي صدرت سنة 2014 في إطار محور التهيئة الحضرية إلى استغلال العقار الشاغر بمحطة القطار بسوسة، بناء مآوي سيارات متعددة الطوابق بالقرب من وسط المدينة، إنشاء قطب متعدد الوسائط، إعادة توظيف ساحة فرحات حشاد، إعادة تطوير المعابر الحضرية التابعة للشركة الوطنية للسكك الحديدية، إنشاء مناطق للمشاة في وسط المدينة، برنامج تحسين شبكة تنقل الحافلات وتطوير خط مترو الساحل"، مؤكدًا أنه "من حيث التصور العملي لتنفيذ هذا المقترح فإنه يتطلب تفعيل توصية استراتيجية بأن يكون موضوع استشارة موسعة، خاصة وأن مساحة بهذه الأهمية تعتبر الفرصة الفريدة والوحيدة لإنقاذ وسط مدينة سوسة من حالة الاختناق والتدهور التي وصلت لها"، وفق تقديره.
مقر بلدية سوسة (ماهر جعيدان/الترا تونس)
- حلول ضرورية لمشاكل المرور أيضًا..
إن ما تشهده مدينة سوسة من تطور سريع في مجال النقل والتدفق البشري على المناطق الحيوية وسط المدينة جعل من أهم أولويات "برنامج التنمية الحضرية المندمجة"، التشخيص الجيد للمعوقات التي تعترض المواطن وإعادة النظر في الخطط المعتمدة.
وقد أشار الخبراء في الدراسة التي أعدتها بلدية سوسة بالشراكة مع كتابة الدولة للاقتصاد السويسري إلى أن "خطة المرور يجب أن تلبي أولاً وقبل كل شيء الضرورات اللازمة لحسن سير البنية التحتية من وجهة نظر المستخدمين، ثم ثانياً، من خلال تحديد الاحتياجات من حيث التطوير والصيانة التي يمكن تقسيمها بين مختلف الهياكل المسؤولة أثناء تخطيط وتمويل التدابير التي سيتم اقتراحها".
وقد أشارت الدراسة إلى أن "شبكة مدينة سوسة تتميّز أيضًا بميزة خاصة فيما يتعلق بإدارة التدفقات عند التقاطعات. في الواقع، لا يوجد في مدينة سوسة مفترق طرق تنظمه إشارات الضوء وتدار التقاطعات الرئيسية جميعها بواسطة تقاطعات دائرية (أولوية للحلقة)".
وخلال العمل على الدراسة تم نقاش "القضايا المتعلقة بصيانة وتوافر المعدات لإشارات المرور وشرح بعض الخيارات العملية التي اتخذت في العقود الأخيرة للحد من خطر عطل شبكة الطرق..".
كما تم نقاش "ازدحام الطرق، إذ يتم تحميل المحاور الحضرية بشكل زائد خلال ساعة الذروة، بواسطة الحافلات وبالتالي نلاحظ أن السرعة التجارية للحافلات تنخفض إلى 8 كم /ساعة في وسط المدينة كما تمت ملاحظة عدم وجود موقع خاص بها، فضلاً عن نقاط التوقف التي تفاقم هذا الوضع..الخ".
إن التشخيص الجيد لمشاكل سوسة الحضرية يؤدي حتمًا إلى طرح حلول ناجعة، وما ذكرناه يعتبر عيّنة ولكنها تنتظر الإرادة السياسية للإنجاز فشحّ الموارد المالية والأزمة الاقتصادية المستفحلة في البلاد قد تعيد مثل هذه الدراسات إلى أدراج الإدارات المعنية و يتم تأخير الحلول إلى أجل غير مسمّى في ظلّ تغيرات ديمغرافية دائمة.
سوسة الطريق السياحية المؤدية إلى شاطئ بوجعفر (ماهر جعيدان/الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا:
تاريخ الموانئ البحرية في سوسة: أسرار وأسوار
"الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"