23-مايو-2022
(ماهر جعيدان الأناضول)

سوّاق "النّقل" أو التاكسي الجماعي هم ظاهرة سوسيولوجية قابلة للدرس وقابلة للمعالجة (ماهر جعيدان/الأناضول)

 

الوقوف في محطة النقل الجماعي بشارع قرطاج بالعاصمة تونس، يعدّ غنيمة سوسيولوجية، فبمجرّد أن تستعير بعض الجُمل والكلمات من الحوارات بين سواق النقل في تونس، وتتوقف عندها، يمكن لك أن تفهم ما يحدث في الحياة الموازية لجزء من الشباب التونسي حيث حياة المسحوقين والمدحورين والمألومين، الذين تكسرت نصال أحلامهم على صلابة الأخطاء التنموية والفشل السياسي لمن قادوا البلاد قبل الثورة وبعدها. 

عالم سيارات "النقل" الأصفر الذي فرض نفسه بالقوة بعد الثورة في جسد النقل الحضري، هو في حد ذاته طفحٌ اجتماعي، وهامشٌ دخل المركزَ عنوةً بفضل إرادة أصحابه الذين افتكوا كرامتهم بأنفسهم

هنا، بين هذه الكلمات المفاتيح، ينام ألم شباب الضواحي، وينام وجه من وجوه الحقيقة في تونس التي يتجنبها الجميع ولا يخوض فيها الإعلام كثيرًا، ولا يذهب إلى عمقها إلا لمامًا، ويتاجر بها السياسيون في جولاتهم وحصصهم الانتخابية.

وفي انتظار أن تمتلئ السيارة آسيوية الصنع، ذات اللون الأصفر القاني بالرّكاب، يقف ثلاثة سوّاق لا تتجاوز أعمارهم العقد الثالث حذو جدار دكان قديم لبيع قطع غيار السيارات يتحدثون عن مستقبل زمانهم ويتدبرون شؤون يومهم بالأمل والألم، فتقبض على كلمات وجمل شاردة من قبيل:

  • "أنا كلنديت خمسة سنين.. وقيّت باش نشد بلاصتي": (بمعنى: اشتغلت في الخطوط الموازية وحان الوقت كي أستقر). 
  • "نخدم معاه عندي عامين وفلوس حلّان الكيّاس ديما على حسابي، مرّات نصوّر نهاري بالسّيف..": (بمعنى: أنا أشتغل مع صاحب السيارة منذ عامين، لكن دفع الرّشاوى للأمن دائمًا على حسابي، فأصبحت أحصّل أجرتي بصعوبة).
  • "اليوم الدورية تحب تستفتح نعمللهم فانت ونجيب على الثنية القديمة.. وقفوا (ولد المكي) سألوه علي": (بمعنى: اليوم دورية الأمن رصدتني وانتظرتي كي أمرّ لأدفع لهم، لكني غيّرت الطريق، فسألوا عني أحد السواق الآخرين).
  • "اليوم كليون خلالي باقي 20 دينار، مبروك متاع حاجة... قالي جاه خبر باهي وأحنا في الثّنية..": (بمعنى: أحد الزبائن ترك لي كبقشيش، باقي 20 دينارًا وذلك بعد أن تلقى خبرًا مفرحًا وهو على متن السيارة).

  • "زايد، تقعد الحرقة هي الحل..": (بمعنى: الهجرة غير النظامية عبر الحدود البحرية في اتجاه أوروبا هي الحل لحياته).
  • "المعلّم باش يهبط كرهبة جديدة ويزيد زوز صنّاع جدد..": (بمعنى: صاحب السيارة الذي أشتغل معه سيشتري سيارة جديدة وسينتدب سائقين جديدين).
  • "الدنيا شبابة أما موش في تونس..": (بمعنى: الدنيا جميلة لكن ليس في تونس).
  • "شنوا رايكم نتفاهموا على زيادة بـــ100 مليم؟ الدنيا شعلت فيها النّار..": (بمعنى: ما رأيكم لو نتفق على زيادة بـ100 مليم في ثمن التّذكرة خاصة بعد غلاء الأسعار؟).

أسطول كامل من سيارات التاكسي الجماعي، يضمن خدمات النقل يوميًا لآلاف المواطنين، يتنقلون بواسطتها من أحيائهم إلى مقرات عملهم بوسط البلد، بتعريفة موحّدة بخسة، لا تتجاوز 1500 مليم

هذه الشذرات من حوارات متقطعة بين سواق سيارات "النّقل" الجماعي في تونس، تشي بأن هذا العالم الأصفر الذي فرض نفسه بالقوة بعد الثورة في جسد النقل الحضري وقاوم بشدة (إيقافات، حجز سيارات، وقفات احتجاجية ويومية أمام مقرات الولايات وأمام وزارة النقل..) من أجل أن يوجِد له موطأ قدم، هو في حد ذاته طفحٌ اجتماعي، وهامشٌ دخل المركزَ عنوةً بفضل إرادة أصحابه الذين افتكوا كرامتهم بأنفسهم، وبفضل متغيرات الثورة التي فتحت العديد من الأبواب أمام العديد من الظواهر: أكشاك على الرصيف، تحويل حدائق إلى أسواق، بيع الماء خلسة.. وغيرها.


"التاكسي الجماعي، العالم الأصفر الذي فرض نفسه بالقوة بعد الثورة في جسد النقل الحضري (رمزي العياري/ الترا تونس)

هذه الظواهر التي إذا ما نظرنا إليها بعين ثالثة وبحثنا في أسبابها، نجد أن استراتيجيات التنمية التي توختها تونس طيلة عقود ما بعد الاستقلال، لم تكن صائبة، وبها إخلالات منهجية، وهو ما جعل جغرافية الهامش أكثر اتساعًا وشساعة في المجتمع التونسي. كما كانت سياسة الجمهورية الأولى، هي مجرد محاولات يائسة للحد من توسع الهامش الاجتماعي، لكن لحظة المكاشفة حصلت بعد الثورة فوضحت كل العورات.

سوّاق التاكسي الأصفر، يُعرفون باندفاعهم أثناء السّياقة، فهم يسيرون بسرعة جنونية أحيانًا وفي الاتجاهات المعاكسة وفوق سكة الميترو، ويخالفون قوانين الطرقات بمجاوزات خطرة أدت ببعضهم إلى حوادث قاتلة

"إمبراطورية النقل الأصفر" الجديدة حاولت الدولة مقاومتها في بداياتها بشتى الطرق، وكانت كل حكومة تصطدم بهذا الملف، وكان لوزارء النقل بعد الثورة تصورات متباينة بخصوص التاكسي الجماعي.. لكن يبدو أنها إمبراطورية صلبة، إذ صمدت وتحولت إلى حقيقة، فأسندت ولايات تونس الكبرى مئات الرخص، وقامت بتكوين السواق في العديد من المجالات بالشراكة مع المجتمع المدني، وأصبح هناك أسطول جديد من سيارات التاكسي الجماعي يضمن خدمات النقل يوميًا لآلاف المواطنين من سكان الضواحي والأحزمة العمرانية الجديدة لتونس الكبرى، يتنقلون بواسطتها من أحيائهم إلى مقرات عملهم بوسط البلد، بتعريفة موحّدة وبثمن بخس، لا يتجاوز 1500 مليم تونسي.

لكن سوّاق هذا التاكسي الأصفر، يعرفهم القاصي والداني باندفاعهم أثناء السّياقة، فهم على طول الخطوط التي يشغلونها، يسيرون بسرعة فائقة -وجنونية أحيانًا- ويخالفون قوانين الطرقات، فنجدهم يسيرون في الاتجاهات المعاكسة وفوق سكة الميترو، ويقومون بمجاوزات خطرة أدت ببعضهم إلى حوادث قاتلة.

محمد علي (سائق سيارة تاكسي جماعي): وُجدنا من العدم، كنّا عاطلين، في السجون، كل فرد منا هو حكاية فيلم.. باختصار، نحن نأكل في قوتنا المرّ، لكنه قوت حلال ولا نخاف غير الله

صعدتُ سيارة نقل صفراء في اتجاه "بن عروس"، كان السائق نحيفًا كرمح يرتدي "تيشورت" أسود اللون يحمل شعار جمعية الترجي الرياضي التونسي، ويبدو وشم صغير لتشي غيفارا أسفل زنده.. ما إن امتلأت السيارة حتى شغّل أغنية للرابور التونسي "بلطي" عنوانها "حلمة"، والتي يقول مطلعها "وتروق وتحلى، ونذوقوا عسل النحلة..". انطلق السائق نحو زحمة الطريق، كان يضايق باقي السواق، يدفعهم بأسلوبه في السياقة إلى الابتعاد والتنحي من أمامه، لا يترك مسافة الأمان، يخرج يده من النافذة فيلمع خاتمه الضخم وهو يشير لبعض السيارات ويبطئهم حتى يمر.



وفي مستوى إحدى التقاطعات المرورية، استوقفته دورية أمنية فلعن وجودهم على مسمع من الركّاب قبل أن يتوقف، أعطاهم أوراق السيارة وطلب من عون المرور أن يبقي الأوراق عنده ريثما يوصل الركاب ثم يعود.. فكان له ذلك.

طيلة الطريق وهو يجري مكالمات هاتفية هدفها التدخل لدى الأمنيين الذين استوقفوه حتى يسترجع أوراقه، وفي الوقت نفسه، كان بلطي يدفع بالأمل في فضاء السيارة، وكانت يد السائق على المقود لا تكف عن المجازفة إلى حين نقطة الوصول.

في محطة النهاية، تحدثت لأحدهم واسمه "محمد علي" وكنيته "دالي زرقة"، كان شجاعًا عندما دافع عن وجود مهنته "أحنا تخلقنا من عدم.. كنّا بطّالة.. كنّا في الحبوسات.. كل واحد منا هو حكاية تجي فيلم.. شوف صاحبي ملّخر أحنا ناكلو في خبزة مرّة لكنها حلال وما نخافوا كان من ربي..".

في طريق العودة لنهج إيطاليا المتفرع عن شارع قرطاج بالعاصمة، انتبذت كرسيًا داخل السيارة حذو "دالي"، كان يقود بسرعة عجيبة، وفسّر ذلك بأن العمل يقتضي بعض المغامرة وبعض السّرعة وبعض الشدة، مضيفًا أن صاحب السيارة تجمعه به مفاهمة واضحة وتتمثل في تسلم السيارة صباحًا بخزان وقود ممتلئ، وبعد ست ساعات عمل، يجب أن يعيدها ممتلئة مع مبلغ 100 دينار كنصيب لصاحب السيارة، أما أجرته هو فتتمثل فيما يُحصّله من باقي الرحلات خلال تلك الساعات الستّ، وسائق المساء يقوم بالعملية نفسها، وهكذا يكون دخل صاحب السيارة 200 دينار يوميًا. 

محمد علي (سائق النقل): أتسلم السيارة صباحًا بخزان وقود ممتلئ، وبعد 6 ساعات عمل، يجب أن أعيدها ممتلئة مع مبلغ 100 دينار كنصيب لصاحب السيارة، أما أجرتي فهي ما أحصّله من باقي الرحلات خلال هذه الساعات

"لهذا السبب ترى سواق 'النقل' أو التاكسي الجماعي يتحولون إلى وحوش في الطريق أو 'رجال كاميكاز'، يحلّقون بقطعهم الصفراء كالنّسور من أجل كسب قوتهم ولقمة عيشهم"، مشيرًا إلى أن أغلب السواق يعملون بالصيغة نفسها مع بعض البارونات الصغار من ملّاك السيارات والرخص، لذلك تراهم يخالفون قانون الطرقات وأخلاقيات مهنة نقل العموم، فتحصل بعض الحوادث، مبيّنًا أن المواطن لا يتفهّم طبيعة عملهم، ولا يعرف الوجه الآخر الإنساني والعاطفي للرجال "الكاميكاز"، فقط هو يراهم بلا أخلاق أثناء القيادة.

كان السائق الشاب يتحدث ويزيد في السرعة ويعدل من وضعية المرآة العاكسة وفي الوقت نفسه، يمدّ يده إلى خلف كرسيّه ليقبض ثمن البقاع، ومن فرط خبرته في هذه المهنة، كان يتحسس الأموال بأصابعه، فيدرك فئتها من دون أن ينظر إليها، وكان يتابع حركة الراكبين والنازلين بطرف عين.

سوّاق "النّقل" الذين يتذمر منهم الجميع في الطريق، هم ظاهرة سوسيولوجية قابلة للتطوير والاستفادة منها في استراتيجيات النقل الحضري بتونس لو تعهدناهم بالرسكلة والمساعدة والتكوين

"دالي" هو شاب تونسي فشلت حياته المدرسية لأسباب اجتماعية متشعبة وفق قوله، لكنه شغوف بالسياقة وحب الميكانيك، وهو حاصل على كل رخص السياقة التي يمكن أن تمنح لمواطن تونسي، جاء لهذه المهنة عن طريق أحد أصدقاء الحي بعد أن اشتدت بطالته ووجد نفسه في أتونها، وهو يحلم دومًا بالتغيير، ويعتبر أن الحياة هي في مكان آخر.. ربما في الضفة الأخرى من المتوسط في إشارة لـ"الحرقة".

سوّاق "النّقل" أو التاكسي الجماعي أو "الرّجال الكاميكاز" الذين يتذمر منهم الجميع في الطريق، ورسم لهم المجتمع صورة "الرجال سيئي السمعة" بالنظر لسلوكهم أثناء قيادة السيارة أو أثناء تعاطيهم مع بقية السواق أو مع رجال الأمن، هم ظاهرة سوسيولوجية قابلة للدرس وقابلة للمعالجة، خاصة وأن الفاعلين على متن هذه السيارات الصفراء التي تجوب شوارع وطرقات مدن العاصمة، هم من شباب تونس الذين ضاق به الأفق، وإنّ إقصاءهم فيه قصف لإنسانيتهم ولبقية باقية من أحلامهم، إنهم ظاهرة قابلة للتطوير والاستفادة منها في استراتيجيات النقل الحضري بتونس لو تعهدناهم بالرسكلة والمساعدة والتكوين.