04-مارس-2021

10 سنوات مرت على الثورة ولا يزال جرحى الثورة وعائلات شهدائها ينتظرون صدور القائمة الرسمية (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

شهداء الثورة وجرحاها، يبدو هذا الشعار جاذبًا للخطب السياسية، والوعود الانتخابية ومدعاة للفخر في أحيان كثيرة. لكن خلف الكلمات الثلاثة كواليس قد يختزلها صوت "أم السعد الغربي" والدة الشهيد مجدي المنصري، وقد غصّت في حلقها الكلمات وهي تصف تعاطي الحكومات المتعاقبة مع الملف، أو من دموع اغرورقت في عيني جريح الثورة مسلم قصد الله وعرق كثيف يتصبب من جبينه وهو يصرخ من أعماق الأعماق وفي يده اليسرى قنينة بنزين "يا ولدي موش مصدقين الّي أحنا مضروبين بالكرطوش" ثم يرفع سرواله مشيرًا إلى الساق المبتورة من الركبة "يا ولدي الرصاص مازال في بدوناتنا...يا ولدي يحبو يفكوها الثورة".

عشر سنوات مرت على الثورة التي اهتز بها الشارع التونسي وهزّت عرش بن علي ذات 14 جانفي/ يناير، ورُفعت فيها القبعة لتونس وشعبها وتهافتت عبارات الترحم والعرفان للشهداء والجرحى. هؤلاء الذين ما زال الكثير منهم تنزف جراحهم دمًا لم تندمل رغم بتر أطراف، دون أن تصدر لهم بعد قائمة رسمية في الرائد الرسمي للبلاد.

10 سنوات مرت على الثورة التي رُفعت فيها القبعة لشعب تونس وتهافتت عبارات العرفان للشهداء والجرحى الذين لم تندمل جراح الكثيرين منهم، دون أن تصدر لهم بعد قائمة رسمية في الرائد الرسمي للبلاد

اضطر عدد من الجرحى وعائلات الشهداء إلى الدخول في اعتصام مفتوح منذ 21 ديسمبر/ كانون اول 2020 في مقر الهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية الشعار الأبرز فيها "طبق القانون أنشر القائمة". ثم خاضوا إضرابًا مفتوحًا عن الطعام أودى ببعضهم إلى العناية المركزة. كما قام عدد منهم بخياطة أفواههم احتجاجًا على المماطلة في نشر القائمة في الرائد الرسمي.

تعهّدات سابقة بنشر القائمة في الرائد الرسمي في ذكرى عيد الثورة 14 جانفي/يناير أخلفت وقبلها 25 جويلية/ تموز 2020، ليعاد نشر قائمة الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في صفحة تابعة لهيئة الشهداء والجرحى على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، بلغ فيها عدد المصابين 634 فيما بلغ عدد الشهداء 129.

قائمة مصابي ثورة الحرية والكرامة ( حسب الترتيب الهجائي لأسماء المصابين)

Publiée par RevolutionTunisie sur Mercredi 13 janvier 2021

وقبل ذلك حدد تقرير لجنة تقصّي الحقائق حول التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال أحداث الثورة التونسية عدد قتلى الثورة 338 قتيلًا مقابل 2147 جريحًا سنة 2011.

مماطلة وثقة منعدمة

في جانفي/يناير الماضي قال بلاغ صادر عن الهيئة برئاسة عبد الرزاق الكيلاني إن القائمة النهائية سيتم نشرها بالرائد الرسمي قبل تاريخ 20 مارس/آذار 2021 موعد جديد للنشر.

وأعلن البلاغ فتح التظلمات خلال شهر من تاريخ نشر القائمة. ولم يتسن لـ "الترا تونس" معرفة حجم التظلّمات الواردة على الهيئة بعد انقضاء الآجال.   

أكد رئيس الهيئة العليا للحريات الأساسية والحريات الفردية توفيق بودربالة في تصريح إعلامي أن نشر القائمة النهائية التي أصدرتها لجنته هو اختصاص حصري لرئيس الحكومة، مبينًا أنه قدم القائمة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد منذ أفريل /نيسان 2018، وبعث برسائل للتذكير دون رد.

اقرأ/ي أيضًا: تحرّك احتجاجي في الذكرى الأولى لوفاة جريح الثورة طارق الدزيري

وأوضح بودربالة أن عدد التظلمات التي وصلت إلى المحكمة الإدارية بلغ 2500 ملفًا. إلا أن ما لم يقله هو أن هذه الطعون تبقى مجرد حبر على ورق ما لم تتخذ القائمة صبغتها الرسمية والقانونية بنشرها.

وأكد بودربالة، في مداخلة له على إذاعة "شمس أف أم"، أن عملية النشر هي التزام قانوني وحق من حقوق الضحايا، موضحًا أن التخلّف عن القيام بذلك هو خرق للقانون.

ويرى حقوقيون وعدد من الجرحى وعائلات شهداء الثورة في حديثهم لـ"الترا تونس" أن الإرادة السياسية غائبة في حسم هذا الملف.

جريح الثورة مسلم قصد الله لـ"الترا تونس": على الرغم من أن بوليس بن علي هو الذي تسبب في إصابتي خلال الثورة، إلا أن الحكومات المتعاقبة هي التي ساهمت في تعكر حالتي الصحية

يؤكّد الجريح مسلم قصد الله الذي يرابط مع زملائه وعدد من عائلات الشهداء في مقر الهيئة العامة منذ ما يزيد عن شهرين في تصريحه لـ "الترا تونس"، أن غياب الثقة في الحكومة يجعله يغلق باب التفاوض  وإمضاء محضر الجلسة لإنهاء الأزمة قبل نشر القائمة.

ويضيف أنه على الرغم من أن بوليس بن علي هو الذي تسبب في إصابته خلال الثورة، إلا أن الحكومات المتعاقبة والأحزاب هي التي ساهمت في تعكر حالته الصحية وبتر ساقه.

رمزية النشر

مسلم الذي غيرت الثورة حياته أكد في حديثه أن إصدار القائمة في الرائد الرسمي هو أساس الثورة، وأنه مسألة مبدأ قبل كل شيء.

بدوره، يؤمن جريح الثورة وليد الكسراوي أيضًا برمزية نشر القائمة وقال إنه بمثابة منح "الهوية" لضحايا أحداث الثورة وإنها مسألة مصيرية ومفصلية في مسارها.

 يرفع جريح الثورة سرواله ويشير إلى ساقه المبتورة (رجاء غرسة/ الترا تونس)

وأضاف في تصريحه لـ"الترا تونس" أن إصدار القائمة يؤدي إلى تجاوز الأشخاص ويضمن حق الضحايا بالقانون.

على المستوى الإجرائي، يمثل تعطّل نشر القائمة عقبة في مسار علاج الجرحى، خاصة حين يتعمد البعض التلكؤ والتعلل بالقائمة نكاية في الجرحى.

ليس حال "أم السعد الغربي" التي ثكلت ابنها مجدي المنصري خلال أحداث الثورة، تحدّث "الترا تونس" بصوتها المتقطّع وهي تغالب دموعها: "مرت 10 سنوات من الظلم والقهر والاستبداد، ممن يعتقدون أن نشر القائمة أمر عويص.. هو في الحقيقة راجع لميولاتهم وحساباتهم السياسية ولم يدفع الثمن غيرنا".

ترى محدّثتنا أن نشر القائمة في الرائد الرسمي، الذي هو في الأصل التزام قانوني محمول على رئيس الحكومة، إنصاف لمن ضحى بدمه وإكرام لأم الشهيد، لافتة إلى أن تعاطي الدولة مع ملف العدالة الانتقالية ومسار الثورة برمته لا يبعث بالثقة في جدية نشر القائمة في الرائد الرسمي.

أم السعد الغربي (والدة الشهيد مجدي المنصري) لـ"الترا تونس": نشر القائمة هو إنصاف لمن ضحى بدمه وإكرام لأم الشهيد بالإضافة إلى أنه التزام قانوني محمول على رئيس الحكومة

 وفي مقر ولاية القصرين، يعتصم 20 شخصًا من جرحى وعائلات شهداء الثورة في تالة والقصرين منذ أكثر من أسبوع، ومطالبهم نشر القائمة وإيفاء الدولة بتعهداتها المتعلقة بالمرسوم 97 لسنة 2011.

الاعتصام المفتوح يأتي بحسب ما حدثنا سامي نصري شقيق شهيد الثورة يأتي ردًا على مماطلة السلطات الجهوية والمركزية في تفعيل الاتفاق، مؤكدًا أن الهرسلة التي بلغت اعتقال أحد المعتصمين والضغط الذي يتعرض إليه المعتصمون من بينهم مسنّون ومرضى من قطع للماء والكهرباء وعزلهم بإغلاق كل المنافذ، لن تثنيهم عن المضي قدمًا في خطوات تصعيدية.

خلال هذه السنوات التي مضت فقد عدد من الجرحى صحتهم وتراجعت صحتهم بسبب تعثر العلاج أو عدم انتظام الأدوية وفقد البعض منهم حياته قبل أن ترى القائمة النور لعل أبرزهم طارق الدزيري الذي راح ضحية الإهمال الطبي.

البعد السياسي لنشر القائمة

شأنه شأن كل سياقات المرحلة الانتقالية ومخرجاتها، موضوع جرحى وشهداء الثورة هو سياسي بامتياز رغم أهمية جوانبه الاجتماعية، والقانونية والحقوقية.

قالت لمياء الفرحاني رئيسة جمعية أوفياء لشهداء وجرحى الثورة إن أهمية نشر القائمة يمثل اعترافًا من الدولة التونسية ويكمن في التوثيق للثورة بدرجة أولى والرد على كل الأصوات المشككة والمعادية للثورة والتي تعتبر أن ما حصل في تونس انقلاب أو غيرها من التوصيفات.  

عدد التظلمات التي وصلت إلى المحكمة الإدارية بلغ 2500 ملفًا (رجاء غرسة/ الترا تونس)

وأضافت في حديثها لـ"الترا تونس" أن كل التبريرات الرسمية لتعطّل صدور القائمة هي تعلاّت واهية. والسبب الرئيسي، حسب قولها، هو التخوفات من تبعات هذا النشر وهذا الاعتراف المرتبط بالضرورة بالكشف عن حقيقة قتل والاعتداء عن هؤلاء الضحايا وبالتالي سؤال المحاسبة.

وأشارت في هذا السياق إلى أحكام المحكمة العسكرية التي أقرت بصفة غير ضمنية أنه لم يكن هناك ثورة بإخراج أحداث الثورة من سياقها وإنكار طابعها الثوري على النظام المستبد.

لمياء الفرحاني (رئيسة جمعية أوفياء لشهداء وجرحى الثورة): كل التبريرات الرسمية لتعطّل صدور القائمة هي تعلاّت واهية والسبب الرئيسي هو التخوفات من الحقائق التي قد يكشفها هذا الاعتراف

وقالت الفرحاني إن لهذا النشر آثار قانونية تمكّن من تقديم الطعن الذي لا يكون إلا في القائمة الرسمية المنشورة، مشيرة إلى أن كل الطعون المقدمة إلى القضاء الإداري  بخصوص القائمات المنشورة سنة 2015 و2018 رفضت شكلًا لعدم نشرها في الرائد الرسمي.

تأخر إصدار القائمة يعود بحسب محدثتنا إلى بطء مسار معالجة الملفات وغياب الإرادة السياسية وعدم استمرارية الإدارة، مؤكدة أن ملف الشهداء والجرحى هو مسار متكامل قضائي واجتماعي وصحي وإصدار القائمة أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: ملفات دون متهمين وجلادون غائبون.. مصاعب المسار القضائي في العدالة الانتقالية

وانتقدت الفرحاني غياب استراتيجية وخطة عمل واضحة لمعالجة الملفات صلب لجنة شهداء الثورة ومصابيها ونسقها البطيء الذي لم يحدد سقفًا زمنيًا لنهاية أعمالها او لفترة قبول الملفات ولم يعتمد اليات للتواصل.

ولفتت إلى انعدام الامتثال للقانون في هذا الملف وتطبيقه، مشيرة إلى التزام الرئيس قيس سعيد الصمت حياله وعدم الدفع في اتجاه نشر القائمة رغم أنه أعرب عن اهتمامه بهذا الملف خلال أداء القسم.

وعلّقت محدّثتنا على تعاطي نواب البرلمان مع هذا الملف بأن دورهم ليس التعبير عن التضامن ودعم الضحايا بزيارتهم في مقر الاعتصام والتقاط الصور معهم وإنما بالضغط في البرلمان في سبيل نيل حقوقهم ومساءلة الحكومة وكل من تعمّد خرق القانون وماطلهم.  

رزان حاج سليمان (ناشطة حقوقية) لـ"الترا تونس": لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي ولا عن بناء مؤسسات دون اعتراف بالدم وبتضحيات شهداء وجرحى الثورة ومنحهم هذه الصفة بشكل قانوني

من جهتها، ترى الناشطة والمستشارة الحقوقية رزان حاج سليمان أن التجاذبات السياسية هي التي عطّلت نشر القائمة ولا شيء آخر، مشيرة في تصريح لـ"الترا تونس" إلى أن عملية الطعن والاعتراضات يفترض أن تكون على القائمة الرسمية المنشورة في الرائد الرسمي.

واعتبرت حاج سليمان أنه لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي ولا عن بناء مؤسسات دون اعتراف بالدم وبتضحيات ضحايا الثورة ومنحهم صفة جرحى وشهداء بصفة قانونية، إذ أن الحديث عن التزام بمسار العدالة الانتقالية يستوجب بالضرورة الاعتراف بما حصل في السابق، وخاصة ما حصل في أحداث الثورة.

وكانت منظمات المجتمع المدني قد نددت في بيان لها بما أسمته "المنعرج الخطير الذي وصل إليه مسار العدالة الانتقالية"، وطالبت بـ"النشر الفوري للقائمة النهائية والرسمية لشهداء الثورة وجرحاها بالرائد الرسمي".

لكن العميد عبد الرزاق الكيلاني دفع ببراءة الدولة من المماطلة في هذا الملف وحمّل انعدام الاستقرار السياسي المسؤولية وأكّد منذ يوم 10 ديسمبر/كانون الأول الماضي أن ترتيبات نشر القائمة رسميًا في مراحله الأخيرة. لكنه تحدث في حوار صحفي في إذاعة "ديوان أف أم" عن ترتيبات لدمج قائمات هيئة الحقيقة والكرامة مع القائمة التي نشرتها اللجنة بعد التقصي في انطباق معايير اعتماد شهيد وجريح ثورة عليها، وهو ما ينبئ بتمطيط الآجال وإهدار مزيد من الوقت خاصة وـن الفرصة كانت متاحة في السابق لمثل هذه الإجراءات.

في الأثناء، يفقد الأهالي الجريح تلو الآخر متأثرًا بجراح لم تندمل، ويعيش البعض الآخر على أمل أن تردّ كرامته التي بعثرتها التجاذبات السياسية والكافرون بالثورة من رموز وأتباع النظام السابق، يترقبون يوم 20 من هذا الشهر يغالبون الخيبات السابقة في وطن يحتفي بالثورة مرة في السنة ويتنكر لضحاياها وينكر حقوقهم منذ عشرة أعوام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جريحة الثورة صباح الشاذلي: عبير موسي رفعت قضية ضد عائلات شهداء الثورة وجرحاها!

مسار العدالة الانتقالية.. استحقاق دستوري رهين مدّ وجزر الإرادة السياسية