29-أغسطس-2020

نجا المسار من كل محاولات إجهاضه منذ انطلاقه(نيكولا فوكو/Getty)

 

يوم 13 جانفي/يناير 2011 باغتت رصاصة قدمه اليمنى خلال مشاركته في مظاهرة سلمية بمنطقة الكرم الغربي، انتهت ببترها واستبدالها بأخرى اصطناعية. وليد الكسراوي واحد من عشرات الآلاف في تونس من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، منذ حوالي عشر سنوات لا يزال جرحه لم يندمل ولا تزال آماله في أن ينال حقه ويقتص القضاء له من المتهمين. حاله كحال عشرات الآلاف يتابعون بقلق قطار العدالة الانتقالية في تونس الذي يسير ببطء وتتعثر عجلاته من حين لآخر. 

تفاعل الضحايا وجمعياتهم والمجتمع المدني في تونس مع خطوة نشر التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة ومثل لدى أغلبهم نقطة البداية لإيفاء الدولة بالتزاماتها في هذا الملف، وتفاعلوا أكثر مع أنباء عن تعيين رئيسة للجنة المكلفة بالإشراف على صندوق الكرامة. 

رئيسة لجنة جبر الضرر في هيئة الحقيقة والكرامة سابقًا لـ"ألترا تونس":  أهمية أن يكون صندوق الكرامة مؤسسة تشرف على تنفيذ توصيات الهيئة ويكون جزءًا من عملها الصندوق

وأوحت الرسائل التي تنشرها وزارة حقوق الإنسان على صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، والحملة التحسيسية التي بدأتها الشهر الماضي عبر لوحات عملاقة في الشوارع والساحات المختلفة من البلاد، "عرفنا إلي صار وقيت نكملو المسار" باللهجة التونسية، بأن هناك إقرارًا رسميًا بالعزم على مواصلة مسار العدالة الانتقالية. 

يُذكر أنه منذ بداية المسار وعلى امتداد عمل هيئة الحقيقة والكرامة وحتى بعد نشر التقرير الختامي في الرائد الرسمي كان الطلب الأهم للضحايا إنشاء صندوق الكرامة وإصدار قائمة شهداء وجرحى الثورة، وهي أبرز استحقاقات المسار من أجل استكمال بقية محطاته وصولاً لتحقيق المصالحة الوطنية. 

اقرأ/ي أيضًا: ملفات دون متهمين وجلادون غائبون.. مصاعب المسار القضائي في العدالة الانتقالية

حياة الورتاني: صندوق الكرامة جزء من الحل ولن يضعف الدولة

اعتبرت حياة الورتاني، رئيسة لجنة جبر الضرر في هيئة الحقيقة والكرامة سابقًا أن فتح الصندوق هو جزء من الحل، يساهم في السلم الاجتماعي ولن يعتمد على موارد الدولة ولن يضعفها. 

وأكدت، خلال حديثها لـ"ألترا تونس" أن إنشاءه أمر واقع وليس خيارًا للدولة وهو يستجيب لانتظارات الضحايا، خاصة وأن الأمر المنظم للصندوق نص على أن تكون مساهمة الدولة فقط 10 مليون دينار من جملة المداخيل. 

وشددت الورتاني على أهمية أن يكون صندوق الكرامة مؤسسة تشرف على تنفيذ توصيات الهيئة في جبر الضرر الفردي والجماعي ويكون جزءًا من عملها الصندوق. 

وأشارت لـ"ألترا تونس" إلى أن اختزال جبر الضرر في التعويض المادي هو بنية تشويه الضحايا، موضحة أن التعويض المادي هو جزء من جبر الضرر وليس بدعة تونسية بل تم العمل به في كل التجارب المقارنة في العالم، وهو أيضًا حق نص عليه قانون العدالة الانتقالية. 

رئيسة لجنة جبر الضرر في هيئة الحقيقة والكرامة سابقًا لـ"ألترا تونس": اختزال جبر الضرر في التعويض المادي هو بنية تشويه الضحايا

وأضافت: "خلال عملنا في الهيئة قدمنا برنامجًا شاملًا لجبر الضرر للأفراد يتضمن تعويضًا ماديًا ومعنويًا، وإعادة التأهيل الطبي والنفسي للضحايا وعائلاتهم وإعادة الإدماج وإعادة تكوين مسارهم المهني وتأمين عودتهم للدراسة، بالإضافة إلى الجانب الرمزي، عبر اعتذار الدولة الممثلة في رئيس الجمهورية والاعتراف الذي هو التزام من الدولة بعدم التكرار والتزام أيضًا بتبني الإصلاحات". 

وقالت العضو في هيئة الحقيقة والكرامة سابقاً إن برنامج جبر الضرر شمل أيضًا المنطقة الضحية، حيث سلّطت الهيئة الضوء على الانتهاكات والإشكالات المزمنة والمتواصلة إلى الآن والتي انتهكت حقوق مواطنيها الأساسية كالماء والصحة والتعليم عبر غياب المرافق الأساسية. وكشفت كيف أن برنامج جبر الضرر للجهة الضحية اقترح الحلول والتوصيات مع مراعاة إمكانيات الدولة من أجل تحريك الدورة الاقتصادية واقتراح الإصلاحات الضرورية بالخصوص، وفق تقديرها. 

ولفتت إلى أن ميزة هذا البرنامج أنه لم يكن مسقطًا بل كان تشاورياً عبر تشريك المجتمع المدني والضحايا وممثلين عن مؤسسات الدولة المتدخلة في تنفيذه في الاستشارة الوطنية لصياغته في جميع المراحل. 

وفي علاقة بأهمية نشر التقرير الختامي للهيئة، أفادت لـ"ألترا تونس" أنه اعتراف بعمل الهيئة وبمخرجات عملها وفيه تحمل لمسؤولية مواصلة مسار العدالة الانتقالية وبداية تفعيل التوصيات.   

ولم تخف محدثتنا أن "للمناخ السياسي دائماً تأثير لتنفيذ استحقاقات العدالة الانتقالية في علاقة بتوفر الإرادة السياسية من عدمه ومدى انعكاسه على التقدم في هذا المسار". 

اقرأ/ي أيضًا: صندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد.. تعثر التفعيل

تعيينات جديدة في صندوق الكرامة وجدل حولها 

في ذات السياق، نشرت نائب رئيس لجنة شهداء وجرحى الثورة وتنفيذ العفو العام والعدالة الانتقالية بمجلس نواب الشعب، يمينة الزغلامي تدوينة تحدّثت فيها عما أسمته "تعيينات اللحظات الأخيرة ولعبًا بالنار بأهم ملف في تونس"، جاء فيها أن رئيس حكومة تصريف الأعمال إلياس الفخفاخ أقال المكلفة بملف المقاومين والشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية برئاسة الحكومة آمال المستوري واقترح تعيين حياة الورتاني عضو هيئة الحقيقة والكرامة". 

وحمّلت النائب الزغلامي في تدوينة لاحقة بصفتها نائب رئيس لجنة الشهداء والجرحى والعفو العام والعدالة الانتقالية "المسؤولية لحكومة تصريف الأعمال".

لكن "ألترا تونس" علم في هذا السياق أن التعيين يتعلق بتسمية الورتاني رئيسة للجنة المشرفة على صندوق الكرامة وليس لجنة المقاومين والشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية التي هي بحسب الأمر الترتيبي مكلفة بكتابة اللجنة.

وحسب الأمر الحكومي عدد 211 لسنة 2018 المؤرخ في 28 فيفري/ شباط 2018 والمتعلق بضبط طرق تنظيم "صندوق الكرامة وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد وتسييره وتمويله،" تتركب لجنة التصرف في الصندوق وفق الفصل السادس من ممثل عن رئاسة الحكومة (رئيس) وأعضاء يمثلون عددًا من الوزارات إلى جانب عضو يمثل المكلف العام بنزاعات الدولة ويتم تعيين الأعضاء بمقرر من رئيس الحكومة بناء على اقتراحات الوزارات والهياكل المعنية.

كما تكلف الهيئة العامة للمقاومين وشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية برئاسة الحكومة بكتابة اللجنة وتتولى في هذا الإطار إعداد جدول الأعمال ومتابعة أعمال اللجنة وحفظ وثائقها.

مسار سياسي بامتياز ولكن..

أفاد أحمد علوي، مسؤول حقوق الإنسان في المفوضية السامية لحقوق الإنسان مكتب تونس، لـ"ألترا تونس" أن مسار العدالة الانتقالية هو مسار سياسي بامتياز، ذلك أنه آلية وضعت لمعالجة انتهاكات نظام سياسي. 

مسؤول حقوق الإنسان في المفوضية السامية لحقوق الإنسان مكتب تونس لـ"ألترا تونس": مسار العدالة الانتقالية هو مسار سياسي بامتياز ذلك آنه آلية وضعت لمعالجة انتهاكات نظام سياسي 

وأضاف محدثنا أن "توفر الإرادة السياسية هو الذي يضمن إنجاح المسار، وليس أدل على ذلك أكثر من نشر التقرير في الرائد الرسمي". واعتبرها خطوة هامة في تطبيق القانون واحترام تونس للاتفاقيات الدولية رغم تعطلها من ديسمبر/ كانون الأول 2018 إلى جوان/ يونيو 2020، خاصة فيما يتعلق بوضع خطة عمل لتنفيذ توصيات هيئة الحقيقة والكرامة. 

وينص الفصل 70 من قانون العدالة الانتقالية على أن "تتولى الحكومة خلال سنة من تاريخ صدور التقرير الختامي الشامل عن هيئة الحقيقة والكرامة إعداد خطة وبرامج عمل لتنفيذ التوصيات والمقترحات التي قدمتها الهيئة وتقدم الخطة والبرنامج إلى المجلس المكلف بالتشريع لمناقشتها. ويتولى المجلس مراقبة مدى تنفيذ خطة وبرنامج العمل من خلال إحداث لجنة برلمانية خاصة بالغرض تستعين بالجمعيات ذات الصلة من أجل تفعيل توصيات ومقترحات الهيئة". 

"ما جاء في تقرير العدالة الانتقالية لم يكتب ليحفظ في الرفوف"، بحسب محدثنا، بل لتنفيذ ما جاء فيه من توصيات واتخاذ التدابير اللازمة لما ورد فيه من مقترحات إصلاح، ذلك أن "الاستبداد يوجد عندما يهيمن على المؤسسات مثل المؤسسة الأمنية والقضائية والإعلام والإدارة"، مشيرًا إلى أن "مدعاة الفخر في تونس أنها خاضت معاركها من أجل الاستقلال ويجب أن تواصلها اليوم من أجل الديمقراطية وإصلاح المؤسسات". 

وأما بخصوص تركيز صندوق الكرامة، أفاد أنه نقطة مهمة حتى لدى أصدقاء تونس، وفق تقديره، وعبر عن تفهم تعطله في المرحلة الحالية.

مسؤول حقوق الإنسان في المفوضية السامية لحقوق الإنسان مكتب تونس لـ"ألترا تونس": ميزة التجربة التونسية إنها لم تحرق مراحل العدالة الانتقالية ولم تقدم أحد الملفات على باقيها

وقال علوي إن ميزة التجربة التونسية إنها لم تحرق مراحل العدالة الانتقالية ولم تقدم أحد الملفات على باقيها، ولم تقدّم ملف المصالحة على كشف الحقيقة، حيث أن نجاح تحقيق المصالحة الوطنية يقتضي نجاح كل مراحل مسار العدالة الانتقالية. 

أما العلمي الخضري، رئيس جمعية الكرامة لضحايا حقوق الإنسان، فأكد لـ"ألترا تونس" أهمية تحييد ملف العدالة الانتقالية عن المناكفات السياسية التي عطلت البلاد في كل المجالات، وقال إن استكمال مسار العدالة الانتقالية هو التزام دولة والتزام أخلاقي تجاه الضحايا لا يحتمل النظر له بمنظار إيديولوجي. 

وقال محدّثنا: "لا بد من تفعيل صندوق الكرامة لترميم الضحايا"، واعتبر أن الوزير الحالي قد أوفى بالتزاماته.   

شهداء وجرحى الثورة وقائمة لم تر النور بعد

في سياق متصل، اعتبر جريح الثورة وليد الكسراوي أن مسار العدالة الانتقالية بالنسبة له هو الشمعة المضيئة في وسط كل العتمة"، وقد تم نشر التقرير النهائي للهيئة في الرائد الرسمي وهو اعتراف ضمني من الدولة بالمسار وبقية الاستحقاقات تأتي تباعًا. 

وقال الكسراوي في تصريح لـ"الترا تونس" أن تعامل الحكومة مع ملف العدالة الانتقالية كان مرتبطًا بأشخاص لا برؤية أو سياسة عامة للحكومة"، مثمنًا ما قام به وزير حقوق الإنسان في حكومة تصريف الأعمال العياشي الهمامي باعتباره مؤمنًا بالعدالة الانتقالية، وفق تقديره. 

جريح الثورة وليد الكسراوي لـ"ألترا تونس": تعامل الحكومة مع ملف العدالة الانتقالية كان مرتبطًا بأشخاص لا برؤية أو سياسة عامة للحكومة

ورفض محاولات "توظيف النّضالات لتصفية حسابات سياسية ضيقة"، مؤكدًا واجب الدولة في تسوية هذا الملف وإغلاقه وجبر ضرر الضحايا. واعتبر أن إصدار قائمة نهائية لشهداء وجرحى الثورة اتخذ حيزًا زمنيًا طويلاً لا يليق بما قامت من أجله الثورة ولا بمقتضيات المرحلة الانتقالية. ودعا إلى ضرورة نشر القائمة النهائية مع فتح آجال الطعون في الحالات الخلافية. 

يبدو مسار العدالة الانتقالية، الذي نجا من كل محاولات إجهاضه منذ انطلاقه عبر المناخ المعادي الذي نشطت فيه هيئة الحقيقة والكرامة ومحاولة السلطة التنفيذية ضرب إحدى أهم آليات مسار العدالة الانتقالية عبر قانون المصالحة الاقتصادية والإدارية، وقد عاد إلى مساره الطبيعي الإداري والقانوني، مفلتًا من قبضة المناكفات والتجاذبات السياسية، التي نجحت على كل حال في تعطيله.  

لكن يبقى أمام الدولة ومؤسساتها الكثير للإيفاء بتعهداتها تجاه عشرات الآلاف من الضحايا فرادى وجماعات وجهات. ولا يزال أمام منظمات المجتمع المدني ضرورة المساندة لهذا المسار لقطع الطريق أمام كل محاولات إخضاع آليات المسار لجلباب السياسة أو وأده.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"لا رجوع".. رهان استكمال مسار العدالة الانتقالية

الأمل الأخير للمحاسبة.. ماذا تعرف عن قضاء العدالة الانتقالية؟